آراء الشيخ النبهان الفكرية :
بقلم الدكتور محمد فاروق النبهان
كانت للشيخ رحمه الله آراء في النفس والعقل والقلب والتربية والمجاهدة وتزكية النفوس والإنسان والغريزة والأخلاق والعادات ، والأحوال والمقامات والشطحات والزهد والشكر ، وهي آراء تنسجم مع التصور الصوفي لهذه المعاني ، وأحياناً كان ينفرد بتعريف يراه أكثر دقة أو بتحقيق أكثر ملاءمة أو بتفسير أكثر دلالة
وهذه المعاني كانت تردد خلال مذاكرته في مجالسه ، وأحياناً كانت تستنتج من خلال منهجه التربوي ، ومن اليسير استنتاج معالم هذا المنهج التربوي من خلال النظرة الكلية والشمولية لآرائه ، ولا يمكن فهم هذه المنهجية إلا من خلال تتبع مجمل الآراء والتوجيهات التي يلاحظ فيها الانسجام بين أجزائها ، لتكوين معالم مدرسة تربوية لها خصوصياتها الروحية ، ولها أخلاقياتها المتميزة ، وهي ذات صفة ملتزمة بظاهر الشريعة ، وليس فيها ذلك الخوض غير المحمود في دلالات المصطلحات الصوفية ، وذلك الاستغراق المبالغ فيه في المعاني الغيبية ، والبارز في هذه المنهجية البعد التربوي والتوجيهي الذي يستهدف تزكية النفس وطهارتها عن طريق الالتزام بحفظ السمع والبصر ، لكي يظل القلب بعيداً عن الكدورات التي تعكر صفاءه . خصائص منهجية :
وأهم ما يميز هذه الآراء مايلي :
أولاً: تأصيل المعرفة بالقرآن الكريم من غير تكلف لاستيلاد معاني غير ملائمة للدلالات اللفظية : فالقرآن واضح الدلالة على معانيه المستفادة ، والخوض في أعماق الدلالات بما يناقض ظاهر القرآن قد يدفع إلى الانحراف ، والمعرفة المستمدة من القرآن هي المعرفة التي لا تقبل الانحراف ولا تؤدي إلى متاهات الضلال ، ولابد في الدلالة من وضوح انتمائها للألفاظ ، وإلا تحولت المعرفة إلى ألغاز لا يمكن التحكم فيها ، وكان الشيخ يكثر من الاستشهاد بالقرآن الكريم والسنة النبوية ، ويجد ذلك الترابط المحكم بين ما جاء في القرآن والسنة ، ولا يمكن أن يقع التباين بينهما وإذا ظهر شيء من الاختلاف فالاختلاف ناتج عن عدم الفهم ولقصوره في القدرة على ربط الفروع بالأصول الثابتة .
ويقف الشيخ طويلاً عند تفسيره قوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)الأنفال
ودعوة القرآن للاستجابة لله وللرسول هي دعوة إلى الحياة ، ولا حدود لتفسير ما يراد بالحياة ، فكل ما يحقق الحياة من كرامة وسمو ورقي فقد جاء القرآن به ومما يفسد الحياة اتباع الهوى فإنه يضل عن سبيل الله ، ولذلك لابد من تزكية النفوس لكيلا تفسدها الأهواء والشهوات ، وقد أنكر القرآن على من اتخذ إلهه هواه في قوله تعالى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (الجاثية : 23 ) وقوله أيضاً : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41)النازعات : 40 _ ا 4 .
والاستشهاد بالقرآن هو تأصيل للمنهج لكي يكون قوي الدعائم مرتبطاً بأصوله القرآنية ، وما ضل من ضل في الأفكار والمناهج والمعارف إلا بسبب الابتعاد عن المنهج القرآني في وضوح دلالاته ، ولا يحتاج القرآن لذلك الإيغال المذموم في المعاني الدفينة ، فذلك هو بداية الطريق نحو الدروب غير المعبدة ، والتي تقود إلى الضلال .
من حق الفكر أن يطل على المعارف المختلفة ، وأن يجول في ساحات معرفية واسعة إلا أن من الضروري أن يكون واضح الصلة بأصوله القرآنية ، فلذلك يكفل له الالتزام ويمنعه من الانحراف .
ثانياً : عدم الخوض في القضايا الغيبية ذات الطبيعة الجدلية :
وهذا منهج سليم في اعتماده على ظاهر الشرع ، فالغيب لا يدرك بالوسائل الحية لأنه غيب ، والغيب وسيلته الخبر الصادق ، وما ليس فيه الخبر فلا مجال للخوض فيه بوسائل الحس لعدم إمكان إحاطتها بالغيبيات ، فلا جدوى من الحديث في قضايا الروح والقرآن قد ربط ذلك بعلم الله ، فمن خاض في ذلك فقد خاض في بحر مظلم لا تدرك سواحله بالبصر ، وكان الشيخ لا يحب الخوض في أمور الغيب وأمر المكاشفات والكرامات ، ويضيق بذلك ، لأنها أمور ذوقية ، والذوق فيها حجة لصاحبه وليس للآخرين ، فما يدركه أحد بذوقه لا يعني أنه الحق ، وهو أمر متوهّم تتحكم فيه الأمزجة والاستعدادات والقدرات الذاتية ، وغاية الدين الطهارة والتطهير بهدف الارتقاء والرقي ، وما جعل الدين لغير ذلك من الأهداف الموهمة التي يتعلق بها أهل الجهل .
قال تعالى : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (المائدة6)
ولا فائدة من الخوض في الأمور الجدلية من الغيبيات غيرالمدركة بالحواس ، والتعلق بتلك الغيبيات دليل على الجهل بحقيقة الدين ، ولابد من إصلاح النفس بالعلم ، لإن العلم نور ، ولا إصلاح مع تكريس الإيمان بما لا يفيد من أنواع المعتقدات التي نهى القران عن الاهتمام بها قال تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (الحجرات : 15 ) .
ثالثاً : ربط المعرفة بتزكية النفوس :
والمراد بالمعرفة إدراك الشيء في ذاته على ما هو عليه ، وتختلف عن العلم في أن العلم يقتصر على الأشياء التي تدرك بذاتها ، أما المعرفة فتطلق على الأشياء التي تدرك بآثارها ، ولهذا تحتاج المعرفة إلى التدبر والتفكر ، ومركز المعرفة هي نفس الإنسان ، وتدرك هذه المعرفة بالفطرة ، قال تعالي: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (الأعراف: 172 )
والفطرة هي مصدر المعرفة لأنها مصدر العلم ، كالنخلة في النواة والماء في الأرض إلا أن استخراج ذلك الماء يحتاج إلى جهد وتعب لاستخراجه ، وكذلك المعرفة تحتاج إلى تبصر ونظر لاستخراجها والتوصل إليها ، وبعض الناس يحصل على تلك المعرفة عن طريق الفطرة من غير جهد وتعلم كالأنبياء والأولياء الذين تفيض تلك المعرفة على نفوسهم من معدن النفس والفطرة ، ومن غير تأمل ونظر ، لأنهم أقروا على ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ) (172)فإذا نسوا أن الله تعالى قد أخذ عليهم العهد وأشهدهم على أنفسهم وأقروا بذلك خاطبهم الله بما يدفعهم للتذكر ( لعلهم يتذكرون ) ولهذا فإن الحقيقة كامنة في أعماق الذات الإنسانية ولا يمكن أن تكون خارج الذات فالإنسان لا يستمد معرفته من خارج ذاته ، ولابد في هذه الحالة من تنقية ذلك الباطن لكي تظهر صورة الحقيقة فيه كما تظهر الصورة في المرآة بعد طهارتها ونقاوة وجهها ، ولهذا فإن الدعوة إلى طهارة النفس هي الطريق إلى المعرفة الكامنة في أعماق الفطرة الإنسانية ، وهي كالماء في باطن الأرض وكالذهب في أعماق الصخور ، ولابد من الجهد المتواصل لكي تنطبع الحقيقة في القلوب المؤمنة ، انطلاقاً مما أودعه الله في النفوس من تلك المعرفة.
ومعرفة الله لا تدرك بالبصر كما تدرك الأشياء المحسوسة وإنما تدرك بالبصيرة النقية الطاهرة ، عن طريق ما يشرق في القلوب من شعاعها المبشر بالطمأنينة والذي يؤدي إلى السكون .
ومن اليسير تصحيح المعتقدات الفاسدة الناتجة عن الغفلة ، إذا كان أصحابها من أصحاب الطبائع السليمة الذين يتقبلون الحق ، فإذا جادل هؤلاء بالباطل دفاعاً عن باطلهم فهذا جدال مذموم يمنعهم من الانصياع للحق والرضوخ له ، وهو نوع من أنواع الاستكبار المذموم الذي يلوث الفطرة ويبعدها عن حقيقتها الإنسانية ، والغاية من تزكية النفوس إزالة ماران عليها من أدران الجهل والاستكبار فجعلها بعيدة عن الحق مكذبة بما سبق أن أقرت به من الإيمان بالله .
كان الشيخ في مجالسه يتحدث عن المعرفة ، وهي الغاية المرجوة وهي الماء الكامن في أعماق الأرض ، والأرض هي الذات الإنسانية ، وكل العلوم والمعارف موطنها ذلك الكائن الذي اجتمع فيه الوجود كله ، وهو العالم الأكبر بكل ما فيه من عجائب المعرفة ، ولابد من استكشاف ذلك الكنز الدفين عن طريق تزكية النفوس بالمجاهدات النقية للتغلب على الغرائز الفطرية الجامحة التي تسيطر على الإنسان فتدفعه بعيداً عن كماله الفطري إلى منزلقات خطيرة .
وتتكامل مهمة الأنبياء مع مهمة العقول البشرية في الدعوة إلى الحق ، فالأنبياء يدعون إلى الحق ويبينون طريق الهداية بالنصح والإرشاد والتعليم ، والعقول البشرية تميز بين الحق والباطل وتعرف الإنسان بالمسالك المضيقة ، لئلا يضل طريقه ، فهم دعاة الباطن ييسرون مهمة الأنبياء بتعبيد طرق الهداية ، ولا تستقيم دعوة الأنبياء إلا بقيام العقول بدورها في الإقناع الداخلي وهو الحوار الداخلي الضروري الذي يمهد لقبول الهداية . والعقول إذا لم تكن مؤهلة للسماع ولم تعبد الطرق لدعاة الهداية فلا يمكن لمهمة الأنبياء أن تؤتي ثمرتها المرجوة ، ويقاوم الجهلة هذه الدعوة بالجدل والاستكبار ، ويطلبون من الأنبياء أن يأتوا لهم بالمعجزات المتلاحقة التي تقنعهم مما يدل على أن الجهل قد سيطر على عقولهم ودفعهم إلى مستنقعات الضلال .
كان الشيخ يؤكد على أهمية تزكية النفوس لقبول كلمة الحق ، وكلمة الحق لا تحتاج إلى جهد لقبولها لإن إشراقة الحق تنير القلوب إلا أن الظلمة التي تسيطر على النفوس بتأثير السلوكيات الغريزية تمنع النور من أن يتسرب إلى القلوب ، فلا تضىء أنواره ، ولابد من المجاهدة أولاً لتزكية النفوس ، فإذا زكت النفوس أصبحت مستعدة لقبول الحق بسرعة انطلاقاً من سلامة الفطرة التي أقرت عند الخلق بالربوبية .
رابعاً : عدم الالتزام بالطقوس الصوفية :
كان الشيخ رحمه الله يتحدث في مجالسه عن كثير من القضايا التي اشتهرت الصوفية بها ، وهناك قضايا أخرى لم يكن يتحدث عنها ، وأهم ما كان يتحدث به هو الأدب والصحبة وأخلاق الصوفية وتزكية النفوس والمعرفة وأحوال القلب والواردات التي ترد عليه والشريعة والحقيقة ، والتحقق بصفة العبدية لله تعالى ومقامات الزهد والتوكل ومحاسبة النفس ومراقبة الله والإيمان والإحسان وثمرات العبادة وآداب المريد ويقظة القلوب .
وهناك قضايا أخرى لم يكن يتحدث عنها ، وإذا سئل عنها أجاب بما يفيد عدم انصراف القلب إليها لئلا ينشغل القلب بالقشور عن اللب المقصود من التربية .
ولعل اهتمامه بالقرآن هو الذي جعله أكثر التزاماً بالمنهج القرآني في مسلكه التربوي والروحي ، وما لا يجد سنداً له في القرآن كان يبتعد عنه ويقلل من أهميته .
ومما كان يدعو إليه الحب في الله والبغض في الله ، فمن أحب لله لابد إلا أن يبغض في الله ، والسبب في ذلك أن الحب ارتبط بسبب وهو الله ، فمن أحب لذلك السبب أبغض لنفس السبب ، ويمكن للإنسان أن يحب ويبغض في نفس الوقت ، يحب لصفة في المحبوب ويبغض لصفة أخرى فيه ، ولا يتعارض الحب والبغض ، لإن كلاً منهما لا ينصب على أمر واحد فيحبه لشجاعته ويكرهه لمعصيته ، ويظهر الحب في سلوكيات الإقبال ويظهر البغض في سلوكيات الإعراض فأنت تقبل عليه بالحب ، تعبيراً عن حبك لله ، وتعرض عنه بالوسائل المعبرة عن الإعراض لما فيه من صفات المعصية ، إلا إذا شعرت أنه مقبل على التوبة والإقلاع عن الفعل ، فتأخذ بيده لكي تساعده على التوبة .
ولم يكن يشجع مجالس السماع التي اشتهرت بها مجالس الصوفية ، لم ينكرها عليهم ، وفي الوقت ذاته لم يشجعها في مجالسه ، وكانت مجالسه خالية من ذلك ، ويعتبرها من الغفلة التي لا تليق ، ولا يحبذ ما تثيره في النفس من مواجيد ، فإن ارتبطت بمنهي عنه شرعاً فلا يقرها وينكرها ، ويحض على اجتنابها ، وإذا وجد من يحب مجالس السماع من أصحابه كان يبعده ، ولعل سبب نفوره من ذلك أن النفوس تركن لمجالس السماع وتأنس بها لأنها من اللهو الذي ينمي في القلب التعلق بالشهوات ، وكان معظم العلماء يكره ذلك ، لما تعبر عنه هذه المجالس من غفلة ، ولما تقود إليه هذه العوائد من انزلاقات ، والوجد المتولد من السماع يحرك مافي القلوب ، ولا يوجد شيئاً جديداً ، فما في القلب من خير أو شر يتحرك بالسماع ، فإن كانت المحبة لشيء دنيوي تحركت كوامن هذه المحبة بالسماع ، والصادقون الذين تعلقت قلوبهم بالله لا يحتاجون إلى ذلك السماع إذا كانوا في لحظة اليقظة ، وإذا كانوا في لحظة الغفلة فالسماع لا يوقظ الغافلين ، ولا خير في قلب يحتاج لمن يوقظه بالألحان والمواجيد .
كان الشيخ يجد في التربية الصوفية سمواً في الهمة ، وصدقاً في اللهجة ، ولا يرى فيها ذلك الانفعال المتكلف بسبب وجد من أحد أصحابه ، وكان يضيق بذلك ، إلا إذا كان صادقاً فيه غير متكلف ، ولعل سبب ذلك تعلق الشيخ بالكمال ، وتعهد ذلك الكمال في تربيته لأصحابه في مجالسه ومذاكراته وتوجيهاته ، وكانت مجالسه خالية من هذه الظواهر ، تمثلاً بمنهج الشرع في كراهية ذلك ، لئلا تصبح التربية الصوفية مجرد طقوس محفوظة ومجالس سماع تتحكم فيها الأهواء ، وتسيطر عليها الشهوات . ولم يدع الشيخ إخوانه إلى التزام العزلة عن الناس والأخذ بما اعتادت الطرق أن تأخذ به من الدعوة إلى الخلوة ، فذلك أمر يعود تقديره إلى طبائع السالكين ، وليس المهم العزلة عن الناس ، وإنما المهم ألا يشغل السالك قلبه بقضايا الناس ، فالعزلة وسيلة لغاية ، والغاية هي الثمرة المرجوة ، وهي الإعراض عما يشغل القلوب ويكدر صفاءها ، والانصراف إلى الله تعالى بكامل الهمة .
والعزلة قد تكون مطلوبة لبعض المساكين ممن لا يقد رون على التحكم في أنفسهم ، فيلجؤون إلى العزلة لفترة من الزمن للتخلص من علائقهم الدنيوية ، وهي كالحمية بالنسبة للمرضى ، وليست هي العلاج ، فلابد من الاختلاط بالناس ، والسعي في الأرض بالعلم أو الكسب ، ولا مجال للقول بالتزام التوكل على الله فالتوكل مرتبة قلبية ، وهو حال يعتري السالك في لحظة ما ، يدرك معها معنى التوحيد الخالص لله ، ويشعر في حاله هذا ألا فاعل في الوجود إلا الله وألا رازق إلا الله وألا محرك لهذا الوجود إلا الله ، وإن الله هو المتفرد بالخلق والرزق والعطاء والمنع والقهر والملك ، وهذا حال يعتري السالك وليس مجرد اعتقاد فالاعتقاد موجود لدى السالكين كلهم ، أما الحال فهو أخص من الاعتقاد وهو شعور داخلي يأتي كالبارقة التي تحل بالقلب وتسكن فيها ، وتترك أثرها في كيان السالك ، فيرى أن الله تعالى هو الرزاق والفعال لما يريد ومن ادعى هذه الحال ولم يشعر بها فلا يحسن به أن يدعي التوكل وأن يتوقف عن السعي والكسب ، فالأمور مرهونة بأسبابها الظاهرة ، فمن ادعاها وهو غير صادق فيها كسلاً عن السعي وادعاءً كاذباً فهذا ليس من السلوك الحميد .
والعزلة ليست محمودة في جميع المواقف ، ومخالطة الناس مع مراعاة آداب المخالطة والصحبة والخلوة هو المنهج الأقوم والأقوى ، وهو المنهج الشرعي الذي رجحه كثير من علماء السلف ، وكيف يستقيم أدب المحافظة وأدب الصداقة والأخوة مع العزلة ، ولابد من التخلق بحسن الخلق ، ولا يبرز حسن الخلق إلا بالمخالطة ولا تبرز الفضائل السلوكية إلا بالتواصل الإنساني ، فالفضيلة ليست إعداماً للإنسان وإفناءً لغرائزه الفطرية ، وإنما هي تحكم في الغرائز وتوجيه لها لكي تكون أكثر سمواً وعلواً .
وعندما نريد الحديث عن آراء الشيخ رحمه الله يجدر بنا أن نسلط الضوء على بعض مفاهيمه وسلوكياته ، ومن الصعب استخلاص مواقف محددة ثابتة ، ذلك أمر عسير فالشيخ في موطن التربية والإرشاد قد تصادفه حالات تستدعي مواقف مختلفة ، ولابد من مراعاة طبيعة السالك ، وما يتطلبه من إرشاد يلائم شخصيته ، وهو كالطبيب في تشخيصه للأمراض لا يصف دواءً واحداً لكل المرضى ، ولو كانوا يشتكون من أعراض مرضية واحدة ، فالمعالجة ترتبط بطبيعة المرض وحالة المريض ومدى استعداداته البدنية والنفسية ، فقد يصف دواء لمريض ثم يصف دواء آخر لمريض يشكو من نفس الأعراض ، وذلك لمراعاة حالة المريض ، لأن الغاية هي الثمرة وهو المطلوب من مهمة الموجه والمرشد.
بالنسبة للسالك يرى كل سالك جوانب في شخصية المرشد لا يراه الآخر ، لا للتناقض في مواقف الشيخ ولا لاضطراب في توجيهاته ، وإنما لاختلاف في طبائع السالكين ، فهناك الصادق وغير الصادق ، وهناك من تغلب عليه شهواته وغرائزه ، وهناك من يسيطر عليه عقله وتأملاته ، وهناك من يعتقد ومن لا يعتقد ، وهناك من يتراءى بما ليس فيه طعماً في حسن السمعة ورفعة المكانة .
والمرشد المؤهل للإرشاد يدرك جيداً طبيعة كل سالك ، ويوجهه إلى ما يفيده وما يلائمه ، ومن الطبيعي أن تتعدد مسالك التربية وتختلف أساليبها ، في إطار نسق متكامل ، يحدد الثوابت ويضع ملامحها ، ويتحكم في التوجيهات بما يكفل سلامتها .
وما يستفيده السالك من شيخه إنما يستفيده بفضل أدبه وصدقه مع الشيخ ، وألا يلتفت قلبه إلى غير شيخه ، فإن التفت قلبه إلى الغير توقفت الصلة وانقطع التواصل ، ولا يكون الالتفات مع صدق المحبة ، فالمحبة هي سر التواصل ، وهي أداة التعارف وتولد الأحوال التي يرتقي بها السالك .
( من كتاب الشيخ محمد النبهان)