محمد اقبال شاعر الأنسان وفيلسوف التصوف

كان الشاعر والفيلسوف والسياسي “الباكستاني” يحكي عن طفولته التي تأثرت كثيرًا بتربية والده الصوفية. كان مُحمَّد يقرأ القرآن كلّ يوم صباحًا، ولمدَّة ثلاث سنوات كان والدهُ يمرُّ عليه ويسأله: ماذا تفعل؟ فيردّ: أقرأُ القرآن. استمرَّ سؤال والدهُ كلّ صباح لثلاث سنوات، حينها سألهُ مُحمَّد لماذا يسألهُ نفس السؤال كلّ صباح؟ وماذا يقصدُ بسؤاله؟ فقال له: يا ولدي؛ أردتُ أن ألفتَ نظرك أن تقرأ القرآنَ وكأنَّهُ أنزِلَ عليكَ في لحظته، أن تفهمهُ حقًّا وتعيشه.

هذه القصة المختصرة قد تعطيك صورةً عن حياة إقبال اللاحقة، باعتبار أن طفولته كان تكتسي بهذا الطابع. أمس كانت ذكرى وفاته، في هذا التقرير ستجدُ صورًا متعددة لنفس الشَّخص. الشاعر والفيلسوف وعالم الفكر الديني والصوفيّ، العجيب أنه برعَ في جميع المجالات التي دخلها!

كوَّن إقبال فلسفة خاصة به امتزجت بمنهله الديني الصوفي ومعرفته الغربية معًا. حسب الكاتبة الألمانية آنا ماري شيمل فإنَّ إقبال نهل من ثلاثة مناهل: القارة الهندية وتأثره بها أولًا، والعالم الإسلامي،ثُمَّ الحضارة الغربية. استطاع إقبال أن يسافر إلى أوروبا ويحصل على الدكتوراه من جامعة ميونيخ بألمانيا. قارئو إقبال ودارسوه يعلمون جيدًا تأثُّر إقبال بالفلسفة الألمانية.

أعاد إقبال قراءة القرآن الكريم ومحتواه العرفاني وفق رؤية كونية كوَّنها من قراءاته العديدة ومن أساتذته. لم يقنع إقبال فقط بالحضارة الغربية وفلسفتها وهضمهما معًا، وإنما عاد لاجتهادات الأشاعرة وفخر الدين الرازي وابن خلدون وحتى الطوسي وبدأ يفكر كيف يستطيع أن يستوعب الإيمانُ العلمَ دون التَّضاد والتناقض بينهما، التناقض الذي تقوم عليه الحضارة الغربية.

إنَّ فلسفة إقبال يمكن تلخيصها في أنه حاول وضع المعرفة الدينية (بأبعادها الدنيوية والروحية المتعددة) في صورة علمية قابلة للتجدد والدينامية التي يفرضها عليه الواقع في العصر الحاضر. ولم تمنعه خلفيته الدينية والصوفية من الاستشهاد بفلاسفة مثل هنري برغسون وغيره، وتحليل فلسفة نيتشه، أو الحديث عن كانط وديكارت، باعتبار أنَّ إقبال بالأصل فيلسوفٌ لم يشغله الشِّعرُ عن الفلسفة ولا الفلسفة عن الشِّعر، ولم يشغله ميله الصوفي العالي والهائم عن الفكر وممارسته والإنتاج الفلسفي وحتى الخوض في مشارب السياسة ومآربها.
البعد الآخر في فلسفة إقبال هل فلسفة الذات، يلقب إقبال بفيلسوف “الذاتية” حتى إن الدكتور حسن حنفي أفرد له مؤلفًا أسماه “محمد إقبال فيلسوف الذاتية“. باعتبار إقبال صوفيًّا فإنَّ الذات هي المحور الذي يتحدث عنه. العروج الروحيّ الذي يعرِّفُ الإنسان على ذاته ومن ثمَّ على إلهه، ثمَّ العروج الروحيّ للأمَّة كلها باعتبارها ذاتًا جمعية. وهكذا مزج إقبال عبر تكوينة المركب فلسفته بفكره الصوفي وبشعره كذلك. يقول إقبال:

الإنسان الذي يعرفُ نفسهُ جيدًا؛ يخلقُ المنفعة من الضرر.

الشاعر الذي لم يأخذهُ الفكر عن الشِّعر

كمعلومة معروفة فإن إقبال ترجمت أشعاره إلى الإسبانية والصينية واليابانية وبالطبع الإنجليزية وغيرها الكثير. العجيب أنَّ أشعار إقبال لم تكن ذات لغة مشهورة جدًا وإنما كتبت بالأردية والفارسية. بالمُجمل اعتبر شعر إقبال من بين أعظم الأشعار في العصر الحديث. حتى إنَّ البعض شبهه بغوته في محاولاته الشعرية الدائمة لمعرفة الحضارة الشرقية (وهو ما فعله إقبال مع الحضارة الغربية).

ربما سمعت يومًا وأنت في الشارع أو المواصلات صوت السيدة أم كلثوم وهو يشدو:

حـــديث الروح للأرواح يَسري * وتـــدركه القلوبُ بلا عنـاءِ

ربما لم تعلم أنَّ هذه القصيدة كتبها محمد إقبال بالأردية ونشرها في ديوانه صلصلة الجرس. ونقلها إلى العربية الشيخ صاوي شعلان المصري، لتغنيها أمُّ كلثوم. أشعار إقبال تتسع لتحوي الروح، أو لنكون أكثر دقة تتسع لتعبِّر عن الروح، الشكوى، النجوى، الفراق والمحبَّة للروح الكلِّي ومسيِّر هذا الكون. ربما لأنَّ إقبال صوفي تأثَّر بجلال الدين الرومي كثيرًا لم يترك شعره. الملاحظ أنَّ إقبال قد انتقد المنهج الصوفي السائد، لماذا إذن انتقده؟

التصوُّف عند إقبال

التصوُّف السائد لا يهتمّ كثيرًا بالدُّنيا ويشغل باله بعمران الكون والخوض فيه، ربما كانت هذه هي المشكلة الأساسية لدى إقبال مع التَّصوُّف السائد؛ ما جعله ينتقد التصوف كثيرًا، لكنَّ روح الشاعر المؤمن لم تستطع أبدًا ألا تمرّ على مثنوي جلال الدين الرومي والخوض في تجربة روحانية كبيرة قصها إقبال في كتابه رسالة الخلود. ينطلق إقبال من منطلق أسوة الرسول مُحمَّد – صلى الله عليه وآله وسلم-. فالنبيّ حين كان في رحلة الإسراء والمعراج لم يطلب أبدًا من الله ألا يعود، وإنما عاد لأنَّ وراءه رسالة وهداية للبشر وعمران للكون. كان هذا هو المفهوم الذي انتقد إقبال الصوفية بسببه، وهو نفس المكوِّن الذي أضافه إقبال للتصوف في زمانه.


أخرج النغمة التي في فطرتك، يا غافلًا عن نفسك! أخلها من نغمات غيرك. *من شعر إقبال


باكستان


كانت باكستان فكرة فقط في ذهن محمد إقبال، ورغم أنه توفي قبل تأسيس باكستان بحوالي تسع سنوات، إلا أنهُ صاحب الفكرة الأساسية بتأسيس وطن للمسلمين في شبه القارة الهندية، وتحدث مع محمد علي جناح حولها، أكمل جناح الفكرة هو وأعوانه لكنَّ إقبال كان قد غادر الدنيا.

يشار إلى “مُحمَّد إقبال اللاهوري” بالأبّ الروحي في باكستان. في باكستان تتنافس المنشآت العامة والشركات في إطلاق اسم إقبال على منشآتها. فالمطار في لاهور اسمه محمد إقبال والجامعة تسمى “العلامة إقبال” في إسلام آباد، وكذلك متحف إقبال الوطني ومكتبة إقبال… إلخ. ربما هذه الصورة قد تعطيك تصورًا عن أهمية ووجود إقبال المعنوي للباكستانيين.

عاش إقبال فقيرًا، تزوج ثلاث مرات (توفيت له زوجة وابن) وله ابن وابنتين، ضعف بصره في نهاية حياته حتى كان لا يستطيع أن يتعرف على أصدقائه!، توفي إقبال عام 1938، ولا زال صوته يصدح في قلوب وأرواح المؤمنين:

أنا مسلم؛ ومن شأن المسلم أن يقابل الموت مبتسمًا!