"العهدة العمرية" قمة التسامح الديني

تخللت أحداث الفتح الإسلامي مجموعة من المواقف والنماذج، كانت أكبر برهان على أثر الإسلام في معتنقيه من حيث إحداث التغيير الأساسي في الخلق والسلوك وتوجيههما نحو المثالية والكمال الذي طمحت وتطمح إلى بلوغه أو بلوغ شيء منه جميع الأمم والمصلحين. ولذا فإن الشعوب التي أقبلت على الدخول في ذلك الدين، أو انضوت تحت حكم المسلمين واثقة من عدالتهم ووفائهم بعهودهم، ولما رأى قادة الروم والفرس أن أمة تعتنق مثل هذا الدين لا يمكن أن تغلب أو تقاوم، انهارت مقاومتهم وعمّهم الرعب وأزيلت أكبر إمبراطوريتين في ذلك العهد، رغم فارق العدد والعدة والغنى والخبرة بين المسلمين وأعدائهم.


يرى الكاتب منذر الجبوري أن ثمة مصادر كثيرة وصفت بمداد الافتخار والإكبار الدخول التاريخي لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب الى القدس الشريف.


فبعد أن أبلغ قائد الفتح الإسلامي في الشام أبو عبيدة بن الجراح الخليفة في المدينة المنورة بالانتصار العميم على الروم قرر الخليفة المضي إلى بيت المقدس وهو يقول إن تخليص ثالث الحرمين يستحق أن يسير من أجله عمر شهراً وشهراً.


ويسير ركب الخليفة قاطعا القفر والموحش من الطريق حتى يصل (الجابية) على مشارف الشام، فيلتقي من القادة أبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وغيرهما من القادة المسلمين وقد جاءوا على خيول عليها الديباج والحرير، فغضب عمر بن الخطاب لما رآهم على هذه الحال وخاطبهم مؤنباً: (ما أسرع مارجعتم عن رأيكم اياي تستقبلون بهذا الزي؟ وإنما شبعتم منذ سنين، وأنتم في أرض يملؤها العدو) فقالوا: يا أمير المؤمنين إنها قباء وغطاء وإن علينا السلاح ما تركناه.


وبينما الخليفة معسكر بالجابية فزع الناس إلى السلاح فقال: ما شأنكم فقالوا ألا ترى يا أمير المؤمنين إلى الخيل والسيوف؟ فنظر فإذا بقطعة من الفرسان تلمع سيوفها فأرسل قوله البليغ (إنها مستأمنة، فلا تراعوا).



عهد أهل إيلياء



وصدق ظن الخليفة فالذين جاءوا من أهل (إيلياء) وغايتهم إعلان الولاء للخليفة وطلب مسالمته فأسرع لإجابة طلبهم وكتب لهم العهدة العمرية، و(عهد أهل إيلياء) المشهور يعد أحد المواقف الحضارية الإنسانية السامية في التاريخ الإسلامي إذ لم يأخذهم الخليفة بالسيف وهم في قبضته ولكنه أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وأماكن عبادتهم، وألا يكرهوا على دينهم ولا يضار أحد منهم وسوى ذلك من الاشتراطات التي تعزهم وتوفر الحياة الكريمة لهم، وهنا دعا أهل (إيلياء) الخليفة لتسلم المدينة بنفسه التي دخلها بعد أيام قليلة، ولم يعرف معظم أهل المدينة الداخل الكبير لتواضعه الجم وبساطة مظهره وعندما يحين موعد الصلاة يهم خليفة المسلمين بالصلاة في كنيسة القيامة ولكنه يعدل عن ذلك ويختار نشزا (مرتفعا) من الأرض ليصلي، فيسأله راعي الكنيسة أعن كره يا أمير المؤمنين؟ فيجيب الخليفة لا والله ولكني خشيت أن يغصبكم احد المكان من بعدي ويقول: هنا صلى عمر، فهل ثمة من مثال أكثر روعة من هذا المثال الإنساني النبيل الذي أسس تاريخا لمغزى التسامح الديني الذي تواصلت الشعوب على هديه في رحاب التلاقي على الألفة والمحبة والتواد. وأقيم في المكان الذي صلى فيه الخليفة الراشد الثاني جامع، أطلق عليه جامع عمر في حين ظلت كنيسة القيامة راسخة في مكانها وستظل كذلك إلى ما شاء تعالى.


كرم (بستان ) العنب
يقول الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود في دراسة بعنوان “الفتح العمري القدس نموذج للدّعوَة بالعمل والقدوة” إن الخليفة عمر بن الخطاب تجلى حرصه على أموال النصارى في تصرفه - لدى وصوله القدس - عندما علم بأن المسلمين سيطروا على كرم من العنب يقع قرب المدينة، وكان تحت يد الروم وقد غلبهم المسلمون عليه، وكان الكرم لرجل من النصارى، فأخذ المسلمون يأكلون من عنب ذلك الكرم، فأسرع النصراني إلى عمر بن الخطاب شاكياً، فدعا عمر ببرذون له، ثم خرج يركض به ليردّ المسلمين عن الكرم، فلقي في طريقه أبا هريرة يحمل فوق رأسه عنباً، فقال له الخليفة عمر: وأنت أيضا يا أبا هريرة؟”. فقال أبو هريرة: “يا أمير المؤمنين، أصابتنا مخمصة شديدة، فكان أحق من أكلنا من ماله من قاتلنا”. وعند ذلك استدعى عمر صاحب الكرم، وطلب منه أن يقدر ثمن محصوله، لأن الناس كانوا قد أكلوه، فقدره الذمي، ودفع له عمر ثمنه، فما كان من الذمي إلا أن أسلم.

ذكر مؤلفا كتاب (تاريخ القدس ودليلها) وهما نصرانيان أن عمر بن الخطاب عندما قدم إلى القدس استطلع أبا عبيدة على ما كان من أمر القتال، فقص عليه أبو عبيدة تفصيلا لما جرى، وما أصاب المسلمين وأهل القدس من الضيق والشدة، فبكى عمر، وأمر فوراً بأن يبلغوا البطريرك قدومه، ففعل أبو عبيدة ما أمره به الخليفة. وعند ذلك خرج صفرونيوس ومعه الرهبان والصلبان ووجوه النصارى، فلما انتهوا إليه، خف للقائهم، وقد حياهم بالسلام، واستقبلهم بمزيد من الاحتفاء والإكرام. وبعد أن تجاذب والبطريرك أطراف الحديث، في شأن المعاهدة والتسليم، أخذ قرطاساً وكتب لهم وثيقة أمانهم كما طلبوا.