يعد كتاب «طوق الحمامة في الألفة والألاف» من أروع وأجمل ما خط من أدب العصر الوسيط في دراسة الحب، وقد كتبه فقيه وعالم وشاعر أندلسي من قرطبة هو ابن حزم الأندلسي الذي عرف بدفاعه عن المذهب الظاهري، لتحليله ظاهرة الحب، وأبعادها الإنسانية الواسعة، ولقدرته على سبر طبائع البشر وأغوارهم. وقد اكتسب الكتاب شهرة واسعة وترجم إلى عدة لغات في المشرق والمغرب، ما جعل منه لسان الحب في كل العصور.


مفهوم فلسفي


«طوق الحمامة» كتاب في الحب، وفي السيرة الذاتية، يقترب من الجانب العاطفي من حياة ابن حزم، والحياة العاطفية لعدد من معاصريه ورفاقه ممن شغلوا مناصب رفيعة في الإدارة والقضاء والجيش في أيامه، كما جمع ابن حزم في كتابه ما بين الفكرة بمفهومها الفلسفي وما بين الواقع التاريخي..


فكان بذلك محلقاً بأفكاره، وراسخاً على الأرض بقدميه، جريئاً وصريحاً ومتحرراً من الخوف ومن التزمت، وقد دعم أفكاره بحكايات سمعها أو عاشها، واختار لها العديد من الأشعار المناسبة. ولم تفقد النتائج التي توصل إليها بريقها إلى اليوم، وهي تقف اليوم في مستوى أرقى الدراسات عن الحب.


رحلة الكتاب


يشير الدكتور الطاهر أحمد مكي أنه في نهاية النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي، قام السفير الهولندي المستشرق فون وارنر بدراسة المخطوطات العربية خلال فترة انتدابه سفيراً في الأستانة من سنة 1644 إلى 1665 م،..


وفي ذلك الوقت توفي حاجي خليفة الذي كان يملك واحدة من أكبر مكتبات الأستانة، فاشترى فون وارنر الكثير من المخطوطات ممن آل إليهم أمر مكتبة حاجي خليفة فكان من بين هذه المخطوطات مخطوط «طوق الحمامة»، الذي قُدر له أن يستقر في مكتبة ليدن بهولندا، لمدة 175 عاماً، إلى أن جاء مطلع القرن التاسع عشر، حيث قام المستشرق الهولندي رينهارت بإصدار أول طبعة لفهرس المخطوطات العربية في جامعة ليدن، عرف العالم من خلالها مخطوطة «طوق الحمامة».


النص العربي


ودام الحال إلى أن قام المستشرق الروسي د. ك. بتروف بنشر النص العربي لطوق الحمامة كاملا، في سلسلة كتب كانت تصدرها كلية الآداب في جامعة بطرسبرج. وطبع في مطبعة «بريل» العربية في ليدن عام 1914. وبعد سبعة عشر عاماً قام السيد محمد ياسين عرفة، صاحب مكتبة عرفة في دمشق، بطبع النص العربي ثانية عام 1930..


ولم يجر تغييراً كبيراً عن نسخة بتروف، إلى أن صدرت الطبعة الثالثة عام 1949 على يد المستشرق الفرنسي ليون برشيه في الجزائر، وبعدها بعام، أي عام 1950 قام الأستاذ حسن كامل الصيرفي بطباعة النسخة الرابعة للكتاب في القاهرة. لكن هذه الطبعة جاءت أسوأ مما صدر من طبعات، لجهل الصيرفي بتاريخ الأندلس وحضارتها.


طبعات أخرى


ومن ثم تقدم الدكتور الطاهر أحمد مكي بضبط نص الكتاب وتحرير هوامشه، في طبعة صدرت عن دار المعارف المصرية عام 1975، وفي عام 1993 حقق الدكتور إحسان عباس الكتاب ونشره، وهناك طبعات أخرى كثيرة، كما قام الدكتور حاتم بن محمد الجفري بوضع كتاب عام 2009 بعنوان «الحب..أعزك الله.


.قراءة جديدة ورؤية معاصرة لكتاب طوق الحمامة في الألفة والألاف». وحين وقف المستشرق دوزي على كتاب ابن حزم استكثر على العرب وعلى المسلمين هذا المؤلف برغم علمانيته وعدم تعاطفه مع الكنيسة ورجال الدين المسيحي، وقال إن هذا الغزل العفيف لا تعرفه الأخلاق العربية ولا الديانة الإسلامية وأنه تحدر إلى ابن حزم إرثاً من أجداده الأول المسيحيين، ما جعل المستشرق اسين بلاثيوس يتصدى له مفنداً آراءه في دراسة عن ابن حزم.


تعريف الحب


في بداية كتابه يحاول ابن حزم تعريف الحب فيقول: «الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالته عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبدالرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام وعبدالرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبدالله..


ومحمد بن عبدالرحمن وأمره مع غزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله رضي الله عنه، وعن جميعهم، وامتناعه عن التعرض للولد من غيرها.. ومثل هذا كثير. ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة، وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين..


وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم، لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل». ويتابع ابن حزم تعريف الحب في فقرات أخرى: «والحب، أعزك الله، داء عياء، وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقام مستلذ، وعلة مشتهاة، لا يود سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة».



علامات

ويستطرد «وللحب علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها، فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب، وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال.


ومن علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته. والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه. فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون، تجيبه عينه، وتحضره عبرته إذا شاء.


ومنهم جَمود العين، عديم الدمع، وأنا منهم. ومن علاماته أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره، ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهنهه عن ذلك تخوف أن يفطن السامع، ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم. فلو أمكن أن لا يكون حديث في مكان يكون فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه، ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع من يحب.


وترى المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمي الأنف، أبي الخسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة ليانًا، والصعوبة سهولة، والمضاء كلالة، والحمية استسلاماً».


وابن حزم يطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، يقول: «ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة..


وأما أن يكون في ظني متمكناً من صميم الفؤاد، نافذاً في حجاب القلب، فما أقدر ذلك، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهراً، وأخذي معه في كل جد وهزل.. وكذلك أنا في السلو والتوقي. فما نسيت وداً لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء. وقد استراح من لم تكن هذه صفته».


حديث الوصل



ويتحدث عن الوصل : «ومن وجوه العشق الوصل، وهو خط رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة، والعيش السني، والسرور الدائم، ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة فيه ولا حزن معه، وكمال الأماني ومنتهى الأراجي..


ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان، ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروح على المال، من الموقع في النفس، ما للوصل بعد طول الامتناع، وحلول الهجر، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتتضرم نار الرجاء..


وما أصناف النبات بعد غِبّ القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات، ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض وقد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه».


نزوع
عُذري

كلمات ابن حزم لا ينقصها لتكون قد كتبت اليوم سوى تحديث بالعبارات لا أكثر، لأن المعاني فيها غضة نضرة تعبر عن القلب البشري بتباريحه وشجونه، وفي كل زمن. ولا يكتفي ابن حزم بالتنظير، وإنما ينقل أخباراً شتى عن المحبين، ومنهم هو بالذات فيحدثنا عن عشقه لبعض الجواري اللواتي عملن في بيته أو بيت أهله، وكان والده من وجهاء قرطبة، ووزيراً لحاكمها في وقت من الأوقات.


الشاعر الفقيه


علي بن حزم الأندلسي ولد في قرطبة 384 هـ، وتوفي 456 للهجرة، ويعد من أكبر علماء الأندلس وأكبر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً، وهو إمام حافظ، فقيه، ومتكلم، أديب، وشاعر، وناقد محلل، بل وصفه البعض بالفيلسوف. كان وزيراً سياسياً، من كتبه: «الفصل في الملل والأهواء والنحل»، «المحلى شرح المجلى»، «الإحكام في أصول الأحكام»، «الرسالة الباهرة»، «ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل».


شعرية العنوان


يأتي عنوان الكتاب «طوق الحمامة» منكفئاً على الشعرية والغموض، إنه عنوان شعري خالص، يفتح أبواباً للتأويل والتحليق، لما يملكه من طاقة إيحائية لا تنكر.


وبغض النظر عن دلالة الحمامة التي طالما كانت رسول المحبين، وطالما مثلت الكائن البريء الرقيق الذي غالبا ما تُسقَط عليه مشاعر التعاطف والفهم والتعزي، وبغض النظر أيضاً عن دلالة الطوق بما هو سمة جمالية، وحصار من الألفة والاحتواء فإن بقية العنوان أو فرعه في الأُلْفة والأُلاّف، فيميل غالباً إلى الوضوح والتحديد، ويشير إلى معالجة الكتاب لعلائق وصلات قد تكون أعم من الحب ودرجاته.


شيم الكرام


يقول ابن حزم في «طوق الحمامة»، «من حميد الغرائز، وكريم الشيم، وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل، وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات». وفي باب البين، أو الفراق، يكتب فقيه قرطبة قائلاً:


«وقد علمنا أنه لابد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء. وتلك عادة الله في العباد والبلاد، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. وما شيء من داوهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً. وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق!».


أبواب الكتاب


ضم الكتاب مجموعة أبواب، من ضمنها؛ باب ذكر من أحب في النوم، باب من أحب من نظرة واحدة، باب التعريض بالقول، باب الإشارة بالعين، باب المراسلة، باب السفير، باب الإذاعة، باب العاذل، باب الوصل، باب الوفاء، وباب الموت. وخير ما ختم به ابن حزم كتابه باب الكلام في قبح المعصية، وباب الكلام في فضل التعفف استشهد فيهما بالآيات والأحاديث عن قبح المعصية وفضل التعفف، فلئن كان القلب يخرج عن طوع صاحبه ويميل ويحب والشخص غير ملوم على هوى قلبه فإنه يحاسب على فعله، كأنما الكاتب في هذين البابين يحاول أن يقول: «إذا فقدت قلبك، حاول أن لا تفقد عقلك».

* الكاتب محمد سيد بركة / جريدة البيان الاماراتية