[مُناجاةُ القمَر]
رائعة من روائع المنفلوطي رحمه الله
_________________
أيها الكوكب المطل من علياء سمائه ، أ أنت عروس حسناء تُشرف من نافذة قصرها ؟ وهذه النجوم المبعثرة حواليك قلائدُ من جمان ، أم ملك عظيم جالس فوق عرشه ؟ وهذه النيرات حور وولدان ، أم فص من ماس يتلألأ ؟ وهذا الأفق المحيط بك خاتم من الأنوار ، أم مرآة صافية ؟ وهذه الهالة الدائرة بك إطارُُ ، أم عين ثَرّة ثجّاجة ؟ وهذه الأشعة جداول تتدفق ، أو تنور مسجور وهذه الكواكب شرر يتألق ؟
إنك أنرت الأرض وهادَها ونجادها ، وسهلها ووعرها ، وعامرها وغامرها ، فهل لك أن تشرق في نفسي فتنير ظلمتها ، وتبددَ ما أظلها من سحب الهموم
والأحزان ؟!
إن بيني وبينك شبهاً واتصالاً ، أنت وحيد في سمائك ، وأنا وحيد في أرضي ، كلانا يقطع شوطه صامتاً هادئاً منكسراً حزيناً ، لايلوي على أحد ، ولايلوي عليه أحد ، وكلانا يبرز لصاحبه في ظلمة الليل فيسايره ويناجيه .
يراني الرائي فيحسبني سعيداً لأنه يغتر بابتسامة في ثغري ، وطلاقة في وجهي ، ولو كُشف له عن نفسي ورأى ماتنطوي عليه من الهموم والأحزان ، لبكى لي بكاء الحزين إثر الحزين .
ويراكَ الرائي فيحسبك مُغتبطاً مسروراً ؛ لأنه يغترُّ بجمال وجهك ، ولمعان جبينك ، وصفاء أديمك ،
ولو كُشف له عن عالمك لرآه عالماً خراباً ، وكوناً يباباً ، لاتهب فيه ريح ، ولا يتحرك شجر ، ولاينطق إنسان ، ولايبغم حيوان .
كان لي حبيبُُ يملاْ نفسي نوراً ، وقلبي لذة وسروراً ، وطالما كنت أناجيه ويناجيني بين سمعك وبصرك ، وقد فرق الدهر بيني وبينه ، فهل لك أن تحدثني عنه وتكشف لي عن مكان وجوده ؛ فربما كان ينظر إليك نظري ، ويناجيك مناجاتي ، ويرجوك رجائي ؟ وها أنذا كأني أرى صورته في مرآتك ، وكأني أراه يبكي من أجلي كما أبكى من أجله ، فأزداد شوقاً إليه ، وحزناً عليه .
ما لي أراك تنحدر قليلاً قليلاً إلى الغروب كأنك تريد أن تفارقني ، وما لي أرى نورك الساطع َ قد أخذ في الانقباض شيئاً فشيئاً ؛ وما هذا السيف المسلول الذي يلمع من جانب الأفق على رأسك .
قف قليلاً لاتغيب عني ، لاتفارقني ’ لاتتركني وحيداً ، فإني لا أعرف غيرك ، ولا آنس بمخلوق سواك .
آه ! لقد طلع الفجر ففارقني مؤنسي ، وارتحل عني صديقي ، فمتى تنقضي وحشة النهار ، ويقبل إليَّ أنس الظلام ؟!
المفضلات