آبـــــاء و أبنــــاء من مشاهير الأعلام و العلماء
( 16 ) معاوية بن قـُرَّة و ابنه إياس
إن الحديث اليوم عن الإمام العالم الثبت أبي إياس المزني البصري والد القاضي إياس ( معاوية بن قرة ) . لقد لقي كثيرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ، حتى قال : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ، و في رواية : أدركت سبعين من الصحابة لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئا مما أنتم فيه إلا الأذان ، و كان يقول : لا تجالس بعلمك السفهاء و لا تجالس بسفهك العلماء . و كان ممن حدث عنهم من الصحابة ( علي و ابن عمر و أبو هريرة و ابن عباس ) . و كان أبوه قرة المزني من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ، و قد حدث عنه ولده ( إياس بن معاوية ) الذي بلغ من العلم ذروته حتى أصبح قاضيا للبصرة ، و كان ثقة من الثقات ، و كان عاقلا من الرجال فطنا ، و كان يقال : يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل ، و أن إياس بن معاوية كان واحدا منهم .
لقد كان ممن يضرب به المثل في الذكاء و الفطنة ، وأخباره في الذكاء والفراسة كثيرة .حتى قال بعضهم يمدح الأمير :
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال إياس : امتحنت خصال الرجال ؛ فوجدت أشرفها صدق اللسان ، ومن عدم فضيلة الصدق فقد فجع بأعظم أخلاقه . و قال رحمه الله : ما جادلت أحدا من أهل الأهواء بعقلي كله ، إلا القدرية فقلت لهم : أخبروني عن الظلم ، قالوا : أخذ ما ليس له ، قال : فقلت : فإن الله له كل شيء ، فكيف تتهمونه بالظلم ؟
و اجتمع يوما إياس بن معاوية و غيلان عند عمر بن عبد العزيز ، فقال عمر : أنتما مختلفان و قد اجتمعتما فتناظرا ، فقال إياس يا أمير المؤمنين : إن غيلان صاحب كلام ، و أنا صاحب اختصار ، فإما أن يسألني و يختصر ، و إما أن أسأله و أختصر . قال غيلان : سل أنت . فقال إياس : أي شيء خلقه الله أفضل ؟ قال : العقل . قال : هل هو مقسوم أم مقتسم ، قسمه الناس بينهم ؟ قال فسكت غيلان و أفحم . قال إياس : قد تبين لك يا أمير المؤمنين أن الله يهب العقول لمن يشاء , فمن قسم له منها شيئا ذاده به عن المعصية ، و من تركه تهور . قال غيلان سل غير هذا . قال إياس : أخبرني هل العلم قبل أم العمل ؟ قال : لا أجيبك . قال : دعنا من هذه . أخبرني عن الخلق ، هل خلقهم الله مختلفين أو مؤتلفين ؟ قال فنهض غيلان و هو يقول : لا جمعني و إياك مجلس أبدا . قال رجل : يا إياس ؛ حتى متى يتوالد الناس و يموتون ؟ فقال لجلسائه : أجيبوه . فلم يكن عندهم جواب . فقال إياس : حتى تتكامل العدتان ، عدة أهل النار و عدة أهل الجنة .
قيل لإياس : فيك أربع خصال ؛ دمامة و كثرة كلام و إعجاب بنفسك و تعجيلك بالقضاء . قال : أما الدمامة ؛ فالأمر فيها لغيري . و أما كثرة الكلام فبصواب أم بخطأ ؟ قالوا : بصواب . قال : فالإكثار من الصواب أمثل . و أما إعجابي بنفسي ؛ أفيعجبكم ما ترون مني ؟ قالوا : نعم . قال : فإني أحق أن أعجب بنفسي . و أما قولكم تعجلت القضاء ؛ ففرج بين أصابعه ورفع يده و قال كم هذه ؟ قالوا : خمسة . قال : فقد عجلتم ، ألا قلتم : واحد إثنان ثلاثة أربعة خمسة .
لقد كان إياس من شدة ذكائه يقول : لو جلست على باب واسط لم يمر بي أحد إلا أخبرتك بعمله و صناعته . و ذات يوم كان في مسجد المدينة ، فصلى ثم جلس . فنظر إليه الناس ، فقال بعضهم : إنه معلم . و قال البعض الآخر : إنه قاض . فأرسلوا إليه رجلا فحادثه . فأخبرهم خبر القوم ، و قال : قد أصاب الذين ظنوا أنني قاض ، ثم قال له : اجلس حتى أخبرك عن القوم الذين أرسلوك . أما الذي صفته كذا ؛ فهو كذا ، و راح يصف الناس ، و الرجل يقول له صدقت . ثم التفت إلى شيخ من قريش ، فقال : أما هذا فهو نجار . قال الرجل : في هذه لم يصدق ظنك . إنه شيخ من قريش . قال : و إن كان كما تقول إلا أنه نجار . فجاء الرجل و حدثهم بحديث إياس . ثم التفت إلى الشيخ القرشي و قال له : إن إياسا يزعم أنك نجار . قال : لقد صدق ، إنني أصنع العيدان للجواري .
و ذات يوم كان أصحابه يتذاكرون ، و هو منشغل بشيء آخر ، فاختلفوا ؛ هل الوالد أبر بولده أم الولد أبر بوالده ؟ فاجتمع رأيهم على أن الوالد أبر بولده . فلما فرغ أقبل عليهم فأخبروه ، قال : فإني أخالفكم الرأي . إنهما إذا كانا برين جميعا فالولد أبر من والده . قالوا : و كيف ؟ قال : لأن بر الوالد طبع يطبعه الله عليه ، لا يستطيع إلا ذاك . و بر الولد بوالده تشدد منه لما افترض الله عليه من حقه ، و لهذا فإن الولد أبر من والده .
بقلم : د0 محمد نور ربيع العلي
المصادر كثيرة :
منها " تهذيب المزي وتهذيبه وتقريبه لابن حجر وتاريخ ابن عساكر ووفيات الأعيان والوافي بالوفيات والعبر ...
المفضلات