[justify]
كتب ومؤلفات ومقالات شيخ الإسلام الإمام العلامة : محمد زاهد الكوثري رحمه الله
بداية لابد من وقفة مع سيرة الإمام محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى :
كتب عنها الشيخ محمد أبوزهرة كما أثبت ذلك في مقدمة مقالات الكوثر ي: فقال :
منذ أَكثر من عام فَقَدَ الإِسلامُ إماماً من أَئمة المسلمين الذين عَلَوْا بأَنفسهم عن سَفْسَافِ هذه الحياة، واتجهوا إلى العلم اتجاهَ المؤمن لعبادة ربه، ذلك بأَنه عَلِمَ أَن العلم عبادةٌ من العبادات يَطلُبُ العالمُ به رضا الله لا رضا أَحَدٍ سواه، لا يَبْغِي به عُلُوّاً في الأَرض ولا فساداً، ولا استطالةً بفضلِ جاه، ولا يُريدُه عَرَضاً من أَعراض الدنيا، إِنما يَبغِي به نُصرةَ الحق لإِرضاءِ الحق جل جلاله. ذلكم هو الإِمام الكوثري، طيَّب الله ثراه، ورَضيَ عنه وأَرضاه.
لا أَعرفُ أَنَّ عالماً مات فخَلاَ مكانُه في هذه السنين، كما خلا مكانُ الإمام الكوثري، لأَنه بَقِيَّـةُ السلفِ الصالح الذين لم يجعلوا العِلْمَ مُرتَزَقاً ولا سُلَّماً لغاية، بل كان هو منتَهَى الغاياتِ عندهم، وأَسمَى مَطارح أَنظارِهم، فليس وراءَ علم الدين غايةٌ يتغيَّاها مؤمن، ولا مُرْتَقىً يَصِلُ إِليه عالم.
لقد كان رَضيَ الله عنه عالماً يَتحقَّقُ فيه القولُ المأثورُ " العلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ " ، وما كان يَرى تلك الوِراثةَ شَرَفاً فقط، ليفتَخِرَ به ويَستطِيلَ على الناس، إِنما كان يَرى تلك الوراثة جهاداً في إِعلان الإِسلام، وبيانِ حقائقِه، وإِزالةِ الأَوهام التي تَلحَقُ جوهرَهُ، فيُبْدِيه للناس صافياً مُشْرِقاً منيراً، فيَعْشُو الناسُ إِلى نُورِه، ويهتدون بهديه، وأنَّ تلك الوِراثَةَ تتقاضَى العالِمَ أَنْ يُجاهِدَ كما جاهد النبيُّون، ويَصبِرَ على البأساءِ والضراءِ كما صَبَرُوا، وأَن يَلْقَى العَنَتَ ممن يدعوهم إلى الحق والهداية كما لَقُوا، فليسَتْ تلك الوراثةُ شَرَفاً إلاَّ لمن أَخَذَ في أَسبابها، وقام بحقها، وعَرَف الواجب فيها، وكذلك كان الإمامُ الكوثري رَضِيَ الله عنه.
إِنَّ ذلك الإمامَ الجليل لم يكن من المنتحلين لمذهبٍ جديدٍ، ولا من الدعاةِ إلى أَمرٍ بَدِئ لم يُسْبَق به، ولم يكن من الذين يَسِمُهُم الناسُ اليومَ بسِمَةِ التجديد، بل كان يَنفِرُ منهم، فإنه كان مُتَّبِعاً، ولم يكن مُبْتَدِعاً، ولكني مع ذلك أَقول: إِنه كان من المجدِّدين بالمعنى الحقيقي لكلمةِ التجديد، لأَنَّ التجديد ليس هو ما تعارَفَهُ الناسُ اليوم من خَلْعٍ للرِّبْقَةِ ورَدٍّ لعهدِ النبوَّةِ الأُولى، إنما التجديد هو أَن يُعادَ إِلى الدين رَوْنَقُه ويُزالَ عنه ما عَلِقَ به من أَوهام، ويُبيَّنَ للناس صافياً كجوهرِه، نقيّاً كأَصلِه، وإِنه لمن التجديد أن تَحيا السُّنَّةُ وتَمُوتَ البدعةُ ويقومَ بين الناس عَمُودُ الدين.
ذلك هو التجديدُ حقاً وصدقاً، ولقد قام الإمامُ الكوثري بإِحياءِ السنة النبوية، فكَشَفَ عن المخبوءِ بين ثنايا التاريخ من كُتُبِها، وبيَّنَ مناهجَ رُواتِها، وأَعلَنَ للناس في رَسَائِلَ دَوَّنها وكُتُبٍ أَلَّفَها سُنَّـةَ النبي ، من أَقوالٍ وأَفعالٍ وتقريرات. ثم عَكَفَ على جهودِ العلماءِ السابقين الذين قاموا بالسنة ورَعوْها حَقَّ رعايتها، فنَشَر كتبَهم التي دُوِّنَتْ فيها أَعمالُهم لإِحياءِ السُّنَّة؛ والدِّيْنُ قد أُشْرِبَتْ النفوسُ حُبَّهُ، والقلوبُ لم تُرنَّقْ بفسادٍ، والعلماءُ لم تَشغلهم الدنيا عن الآخرةِ، ولم يكونوا في رِكابِ الملوك.
لقد كان الإِمامُ الكوثري عالماً حقاً، عَرَف عِلمَهُ العلماءُ، وقليلٌ منهم من أَدرَك جهادَه، ولقد عَرَفتُهُ سِنينَ قبلَ أَن أَلقاه، عَرَفتُهُ في كتاباتِهِ التي يُشرِقُ فيها نُورُ الحق، وعَرَفتُهُ في تعليقاتِهِ على المخطوطاتِ التي قام على نشرها، وما كان – والله - عَجَبِي من المخطوط بقَدْرِ إِعجابي بتعليقِ من عَلَّقَ عليه ، لقد كان المخطوط أَحياناً رسالةً صغيرة ولكنْ تعليقات الإِمام عليه تجعلُ منه كتاباً مقروءاً، وإِنَّ الاستيعابَ والاطِّلاعَ واتِّساعَ الأُفق، تَظهرُ في التَّعليق بادية العيان، وكلُّ ذلك مع طَلاَوة عبارة، ولطفِ إِشارة، وقُوَّةِ نقد، وإِصابةٍ للهدف، واستيلاءٍ على التفكير والتعبير، ولا يمكنُ أَن يجولَ بخاطر القارئ أَنه كاتبٌ أَعجمي وليس بعربي مُبِين .
ولقد كان لفَرْطِ تواضُعِهِ لا يَكتُبُ مع عنوان الكتابِ عَمَلَهُ الرسميَّ الذي كان يتولاه في حكم آل عثمان ، لأَنه ما كان يَرى رَضِيَ الله عنه أَنَّ شَرَفَ العالِمِ يَنالُهُ مِن عَمَلِهِ الرسمي وإِنما ينالُهُ من عملِهِ العِلْمي، فكان بعضُ القارئين ـ لسلامةِ المبنى مع دقة المعنى ولإشراقِ الديباجةِ وجزالةِ الأُسلوب ـ لا يَجُولُ بخاطره أَنَّ الكاتبَ تُركيٌّ بل يعتقد أَنه عربي، وُلِدَ عربياً، وعاش عربياً، ولم تُظِلَّهُ إِلاَّ بيئةٌ عربية، ولكن لا عجَبَ، فإِنه كان تركياً في سُلالتِهِ وفي نشأَتِهِ، وفي حياتِهِ الإنسانيةِ في المدة التي عاشها في الآستانة، أَما حياتُه العلمية فقد كانت عربيةً خالصة، فما كان يقرأ إِلاَّ عربياً، وما ملأَ رأْسَهُ المُشْرِقَ إِلاَّ النورُ العربيُّ المحمديُّ، ولذلك كان لا يكتُبُ إِلاَّ كتابةً نقيةً خاليةً من كل الأَساليب الدخيلة في المنهاج العربي، بل كان يَختارُ الفصيحَ من الاستعمال الذي لم يَجرِ خِلافٌ حولَ فصاحتِه، مما يَدلُّ على عِظَم اطِّلاعِهِ على كتب اللغة متناً ونحواً وبلاغةً، ثم هو فوقَ ذلك يَقْرِضُ الشعرَ العربي فيكونُ منه الحَسَنُ.
لقد اختُصَّ رَضِيَ الله عنه بمزايا رَفَعَتْهُ وجعَلَتْهُ قُدوةً للعالِم المسلم، لقد علا بالعلم عن سُوْق الاتجار، وأَعلَمَ الخافِقَين أَنَّ العالِمَ المسلم وطنُهُ أَرضُ الإِسلام، وأَنه لا يَرضَى بالدَّنِيَّة في دِينِه، ولا يأخذُ من يُذل الإسلام بهوادة، ولا يجعل لغير الله والحقِّ عنده إرادة، وأَنه لا يَصِحُّ أَن يعيشَ في أَرضٍ لا يستطيع فيها أَن يَنطِقَ بالحق، ولا يُعلِيَ فيها كلمةَ الإِسلام، وإِن كانت بلَدَهُ الذي نشأَ فيه، وشَدَا وترعرَعَ في مَغَانِيه، فإِنَّ العالِمَ يَحيَا بالروح لا بالمادة، وبالحقائِق الخالدةِ، لا بالأَعراضِ الزائلة، وحَسْبُهُ أَن يكون وجيهاً عند الله وفي الآخِرة، وأَما جاهُ الدنيا وأَهلِها فَظِلٌّ زائل، وعَرَضٌ حائل.
وإِنَّ نظرةً عابرةً لحياة ذلك العالم الجليل، تُرينا أَنه كان العالِمَ المخلِصَ المجاهدَ الصابرَ على البأساء والضرَّاء، وتَنقُّلِه في البلاد الإِسلامية والبلاءُ بلاء، ونشرِه النورَ والمعرفةَ حيثما حَلَّ وأَقام. ولقد طَوَّفَ في الأَقاليم الإِسلاميةِ فكان له في كل بلد حَلَّ فيه تلاميذُ نَهَلُوا من منهلِهِ العذب، وأَشرقَتْ في نفوسهم رُوحُه المخلصة المؤمنة، يُقدِّمُ العلم صَفْواً لا يُرنِّقُه مِراءٌ ولا التواء، يَمضي في قولِ الحق قُدُماً لا يَهمُّه رَضِيَ الناسُ أَو سَخِطُوا ما دام الذي بينه وبين الله عامراً.
ويظهرُ أَنّ ذلك كان في دمِهِ الذي يَجرِي في عُرُوقِه، فهو في الجهادِ في الحق منذ نشأَ، وإِنَّ في أُسرته لَتَقْوَى وقُوَّةَ نَفْسٍ وصبرٍ واحتمالٍ للجهاد، إِنه من أسرة كانت في القُوفقاز، حيث المَنَعةُ والقُوَّة وجَمَالُ الجسمِ والروحِ، وسلامةُ الفِكر وعُمقُه.
ولقد انتقل أَبوه إلى الآستانة فوُلِدَ على الهُدَى والحق، فدَرَس العلومَ الدينيةَ حتى نال أَعلى درجاتِها في نحو الثامنةِ والعشرين من عمره، ثم تدرَّجَ في سُلَّم التدريس حتى وَصَل إلى أَقصى درجاته وهو في سن صغيرة، حتى إِذا ابتُلِيَ بالذين يُريدون فَصْلَ الدنيا عن الدين ، لتُحْكَمَ الدنيا بغير ما أَنْزَل الله، وقَفَ لهم بالمرصاد، والعُوْدُ أَخضَرُ، والآمالُ متفتحة، ومَطامحُ الشباب متحفِّزة، ولكنه آثَرَ دِينَه على دُنياهم، وآثَرَ أَنْ يُدافِعَ عن البقايا الإِسلامية على أَن يكون في عيش ناعم، بل آثَرَ أن يكون في نَصَبٍ دائم فيه رضا الله على أن يكون في عيشٍ رافهٍ وفيهِ رِضَا الناسِ ورِضَا من بيدِهم شُؤونُ الدنيا، لأَنَّ إِرضاءَ الله غايةُ الإِيمان.
جاهَدَ الاتحاديين الذين كان بيدهم أَمرُ الدولة لما أَرادوا أَن يُضيِّقُوا مَدَى الدراسات الدينية ويُقصِّرُوا زمنَها، وقد رأَى رَضِيَ الله عنه في ذلك التقصيرِ نقصاً لأَطرافِها، فأَعمَلَ الحِيلةَ ودبَّر وقدَّر، حتى قَضىَ على رغبتهم، وأَطال المدةَ التي رغبوا في تقصيرها، ليتمكن طالبُ علوم الإِسلام من الاستيعاب وهَضْمِ العلوم، وخصوصاً بالنسبةِ لأَعجميٍّ يتعلم بلسانٍ عربيٍّ مُبين.
وهو في كل أَحواله العالِمُ النَّزِهُ الأَنِفُ الذي لا يَعْتَمِدُ على ذي جاه في ارتفاع، ولا يتملَّقُ ذا جاه لنيل مطلبٍ أَو الوصولِ إلى غايةٍ مهما شَرُفَتْ، فإِنه رَضِيَ الله عنه كان يَرى أَن معاليَ الأُمور لا يُوصِلُ إِليها إِلاَّ طريقٌ سليم، ومِنهاجٌ مستقيم، ولا يُمكِنُ أَن يصِلَ كريمٌ إلى غايةٍ كريمة إِلاَّ من طريقٍ يَصُونُ النفسَ فيها عن الهَوَان، فإِنه لا يُوصِلُ إِلى شريفٍ إِلاَّ شرِيفٌ مِثلُه، ولا شَرَفَ في الاعتماد على ذوي الجاه في الدنيا، فإِنَّ من يعتمدُ عليهم لا يكون عند الله وجيهاً.
سَعَى رَضِيَ الله عنه بجِدِّهُ وعَمَلِه في طريق المعالي حتى صار وكيلَ مشيخةِ الإِسلام في تركيا، وهو ممن يَعرِفُ للمنصِب حقَّه، لذلك لم يُفرِّط في مصلحةٍ إِرضاءً لذي جاهٍ مهما يكن قوياً مسيطراً، وقَبِلَ أَن يُعزَلَ من منصبِهِ في سبيلِ الاستمساك بالمصلحة، والاعتزالُ في سبيلِ الحقِّ خير من الامتثالِ للباطل.
عُزِلَ الشيخُ عن وكالة المشيخة الإِسلامية، ولكنه بَقِيَ في مجلس وكالتها الذي كان رئيساً له، وما كان يَرى غَضّاً لمقامِهِ أَن يَنزِلَ من الرياسةِ إِلى العضوية ما دام سَببُ النزول رفيعاً، إِنه العُلوُّ النفسيُّ لا يمنَعُ العاملَ من أَن يَعمَلَ رئيساً أَو مرؤوساً، فالعِزَّةُ تُستمَدُّ من الحق في ذاتِهِ، ويُباركها الحقُّ جل جلاله.
ولكنَّ العالِمَ الأَبيَّ العَفَّ التَّقِيَّ يُمتحَنُ أَشدَّ امتحان، إِذ يَرى بلدَهُ العزيزَ وهو دارُ الإِسلام الكبرى، ومَناطُ عِزَّتِه، ومَحطُّ آمالِ المسلمين؛ يَسُودُهُ الإِلحاد، ثم يُسيطِرُ عليه مَن لا يرجو لهذا الدين وقاراً، ثم يُصبحُ فيه القابضُ على دِينه كالقابضِ على الجَمْر، ثم يَجِدُ هو نَفْسَهُ مقصوداً بالأَذَى، وأَنه إِن لم يَنْجُ أُلقِيَ في غَياباتِ السجن، وحِيلَ بينه وبين العِلم والتعليم.
عندئذٍ يَجِدُ الإِمامُ نفسَه بين أمورٍ ثلاثة: إِما أَن يَبقَى مأسوراً مقيَّداً، يَنطفىءُ علمُهُ في غياباتِ السجون، وإِنَّ ذلك لعزيزٌ على عالمٍ تَعوَّدَ الدرسَ والإِرشادَ، وإِخراجَ كنوزِ الدِّين ليُعلِّمها النَّاسَ عن بيّنة، وإِما أَن يَتملَّقَ ويُداهِنَ ويُمالئ، ودون ذلك خَرْطُ القَتاد بل حَزُّ الأَعناق، وإِما أَن يُهاجِرَ وبلادُ الله واسعة، وتذكَّر قولَه تعالى: ﴿ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها﴾ .
هاجَرَ إِلى مصرَ ثم انتَقَل إِلى الشام، ثم عاد إِلى القاهرة، ثم رجع إِلى دمشق مرةً ثانية، ثم أَلقَى عصا التَّسْيار نهائياً بالقاهرة. وهو في رحلاته إِلى الشام ومُقامِهِ في القاهرة كان نُوراً، وكان مَسْكَنُهُ الذي كان يَسكُنُه - ضَؤُلَ أَو اتَّسَعَ - مَدْرَسَةً يَأوِي إليها طلابُ العلم الحقيقي، لا طلابُ العلم المَدْرَسِي، فيَهتدِي أولئك التلاميذُ إِلى ينابيع المعرفة من الكُتُبِ التي كُتِبَتْ، وسُوقُ العلوم الإِسلاميةُ رائجةٌ ونفوسُ العلماءِ عامرةٌ بالإِسلام، فرَدَّ عقولَ أولئك الباحثين إليها ووجَّهَهم نحوَها، وهو يُفسِّرُ المُغْلَقَ لهم، ويَفِيضُ بغزير علمِه وثمارِ فِكرِه.
وإِنَّ كاتبَ هذه السطور لم يَلْقَ الشيخَ إِلاَّ قَبْلَ وفاتِهِ بنحوِ عامين، وقد كان اللقاءُ الرُّوحيُّ من قَبْلِ ذلك بسِنين، عندما كنت أَقرأُ كتاباتِه، وأَقرأُ تعليقَه على ما يُخرِجُ من مخطوط، وأَقرأُ ما أَلَّف من كتب، وما كنتُ أَحسَبُ أَنَّ لي في نفسِ ذلك العالم الجليل مِثلَ مالَهُ في نفسي، حتى قرأتُ كتابه " حُسْنُ التقاضي في سيرة الإِمام أبي يوسف القاضي " فوجدتُه رَضيَ الله عنه خَصَّني عند الكلام في الحِيَلِ المنسوبةِ لأَبي يوسف بكلمةِ خير، وأَشهَدُ أَني سمعتُ ثناءً من كُبَراءَ وعُلَماء، فَمَا اعتززتُ بثناءٍ كما اعتززتُ بثناءِ ذلك الشيخِ الجليل، لأَنه وِسامٌ عِلْميٌ ممن يَملِكُ إِعطاءَ الوِسامِ العلمِي.
سَعيتُ إِليهِ لأَلقاه، ولكني كنتُ أَجهَلُ مُقامَهُ، وإِني لأَسِيرُ في مَيْدانِ العَتَبةِ الخضراءِ، فوجدتُ شيخاً وجيهاً وقوراً، الشيبُ ينبثقُ منه كنُورِ الحقِ، يَلْبَسُ لباسَ علماءِ التُّرك، قد التَفَّ حولَهُ طلبةٌ من سُوْرِيَّة، فوَقَع في نفسي أنه الشيخُ الذي أَسعَى إليه. فما أَنْ زايَلَ تلاميذَهُ حتى استفسرتُ من أَحدِهم: من الشيخ؟ فقال: ِإنه الشيخُ الكوثري، فأَسرعتُ حتى التقيتُ به لأَعرِف مُقامَه، فقدَّمتُ إِليه نفسي، فوجدتُ عنده من الرغبة في اللقاءِ مِثلَ ما عندي، ثم زرتُه فعَلِمت أَنه فَوْقَ كُتُبه، وفَوْقَ بُحوثه ، وأَنه كَنْـزٌ في مِصر .
وهنا أُريد أَن أُبديَ صفحةً من تاريخ ذلك الشيخ الإِمام، لم يعرفها إِلاَّ عددٌ قليل.
لقد أَردتُ أَن يَعُمَّ نفعُه، وأَن يتمكَّن طلابُ العلم من أَن يَرِدوا وِرْدَهُ العذب، وينتفعوا من مَنْهلِهِ الغزير، لقد اقتَرَح قسمُ الشريعة على مجلس كلية الحقوق بجامعة القاهرة: أَن يُندَبَ الشيخُ الجليل للتدريس في دبلوم الشريعة، من أَقسام الدراسات العليا بالكلية، ووافَقَ المجلسُ على الاقتراح بعد أَن عَلِمَ الأَعضاءُ الأَجِلاءُ مكانَ الشيخ من علوم الإِسلام، وأَعمالَهُ العلميةَ الكبيرة.
وذهبتُ إلى الشيخ مع الأُستاذ رئيس قسم الشريعة إِبَّانَ ذاك، ولكننا فوجئنا باعتذار الشيخ عن القبول بمَرَضِهِ ومَرَضِ زوجِه، وضَعْفِ بصره، ثم يُصِرُّ على الاعتذارِ، وكلَّما أَلحَحْنا في الرجاءِ لَجَّ في الاعتذار، حتى إِذا لم نجد جَدْوَى رجوناه في أَن يُعاوِدَ التفكيرَ في هذه المُعاونة العلمية التي نَرْقُبُها ونتمنَّاها، ثم عُدتُ إِليه منفرداً مرةً أُخرى، أُكرِّرُ الرجاءَ وأُلحف فيه، ولكنه في هذه المرةِ كان معي صريحاً، قال الشيخ الكريم: إِنَّ هذا مكانُ علمٍ حقاً، ولا أُريدُ أَن أُدرِّسَ فيه إِلاَّ وأَنا قَوِيٌّ أُلقِي درُوسي على الوجه الذي أُحِبُّ، وإِنَّ شيخوختي وضَعْفَ صحتي وصِحَّةِ زوْجِي، وهي الوحيدةُ في هذه الحياة، كلُّ هذا لا يُمَكِّننِي من أَداءِ هذا الواجبِ على الوجهِ الذي أَرضاه.
خرجتُ من مجلس الشيخ وأَنا أقولُ أَيُّ نَفْسٍ عُلْوِيَّةٍ كانت تُسجَنُ في ذلك الجسم الإِنساني، إِنها نفس الكوثري.
وإنَّ ذلك الرجلَ الكريمَ الذي ابتُـلِيَ بالشدائد، فانتَصَر عليها، ابتُلِيَ بفقدِ الأَحبة، ففَقَدَ أَولادهُ في حياته، وقد اخترمَهُم الموتُ واحداً بعدَ الآخر، ومع كل فقدٍ لَوْعَةٌ، ومع كل لوعة نُدوبٌ في النفسِ وأَحزانٌ في القلب. وقد استطاع بالعلم أَن يَصبِرَ وهو يقول مقالةَ يعقوب " فصَبْرٌ جميلٌ واللهُ المُستَعانُ " ولكنَّ شريكتَه في السرَّاءِ والضراءِ أَو شريكتَهُ في بأساءِ هذه الحياة بعدَ توالي النكبات، كانت تُحاوِلُ الصبرَ فتَتَصبَّرُ، فكان لها مُواسياً، ولكُلُومها مُداوياً، وهو هو نفسُه في حاجةٍ إِلى دَوَاءٍ.
ولقد مَضىَ إِلى ربه صابراً شاكراً حامداً، كما يَمضي الصِّدِّيقُون الأَبرار، فرَضيَ الله عنه وأَرضاه.
وضعت له ترجمة سابقة في منتدانا مع بيان مؤلفاته رضي الله عنه انظر هنــــــا
[/justify]
ملاحظة : سأجمع في هذه الصفحة كتب الشيخ الكوثري مع وضعها أيضاً ضمن الأقسام التي تناسبها
المفضلات