المسجد الأقصى المبارك في الفكر الإسلامي
د . تيسير رجب التميمي
* قاضي قضاة فلسطين
الحديث عن المسجد الأقصى المبارك حديث عن القدس، ومكانة المسجد الأقصى المبارك عند المسلمين ترتبط بمكانة القدس، فهذه المدينة التي بناها اليبوسيون من العرب الكنعانيين، قدسها الله تعالى وبارك فيها، دخلها رسوله صلى الله عليه وسلم، وفتحها عمر بن الخطاب، وحررها صلاح الدين، فهي مدينة لله ولرسول الله وللأمة التي توحد الله .
إنها مدينة عزيزة غالية على قلوب المسلمين، وعاصمتهم الروحية الثالثة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، تتعرض اليوم لمذبحة حضارية تستهدف هويتها الثقافية ومعالمها العربية والإسلامية، وتنفذ فيها مؤامرة التهويد، وتحدق بمسجدها الأقصى المبارك درة المقدسات مخاطر النسف والتقويض . فهل يمكن أن يرضى المسلمون باغتيالها أو استبدالها أو المساومة عليها؟
وصف الله تعالى القدس في القرآن الكريم بأنها أرض مباركة مقدسة في آيات عديدة، ومن بركتها المعنوية اشتمالها على جوانب روحية ودينية، فهي مهد النبوات ومبعث الرسل الذين مشت خُطاهم على ثراها المبارك، فكل شبر فيها يحمل بصمات نبيّ وأصداء ملاك، وأرض الإسراء والمعراج قال تعالى في هذه المعجزة “سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنه هُوَ السمِيعُ الْبَصِيرُ” (الإسراء 1)، ويؤكد هذا الحدث مكانة القدس في عقيدة المسلمين وعواطفهم، فقد اقتضت مشيئة الله تعالى أن تكون رحلة الإسراء وصلاً للحاضر بالماضي، فهذه البقعة المباركة عاشت زمناً تشع بالهداية، وظلت مهبط الوحي ومَشرِق أنواره سنين عديدة، فلما عصى اليهود أمر ربهم تقرر تحويل النبوة عنهم إلى ذرية سيدنا إسماعيل عليه السلام بعد أن استمرت فيهم حيناً من الدهر، وتحولت القيادة الروحية إلى رسول جديد، وكتاب جديد وأمة جديدة، فاستقر نسب المسجد الأقصى المبارك إلى هذه الأمة، فكانت إلغاء أبديّاً وطيّاً سرمديّاً لصفحة بني إسرائيل من التفضيل .
من أثمن ثمار رحلة المعراج خمس صلوات في اليوم والليلة تعدل خمسين في ميزان الله، وتعزز الصلة القوية بين العبد وربه، وتعزز مكانة القدس باعتبارها القبلة الأولى للمسلمين، فقد استمر صلى الله عليه وسلم وصحبه نحو ستة عشر شهراً يتجهون إلى بيت المقدس في صلاتهم، منذ فرضت في ليلة الإسراء والمعراج، حتى جاء الأمر بتحويلها إلى البيت الحرام بقوله تعالى “قَدْ نَرَى تَقَلبَ وَجْهِكَ فِي السمَاءِ فَلَنُوَليَنكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ” (البقرة 144)، ولكن نقل القبلة منها إلى الكعبة لم يغيّر مكانتها في منظومة المقدسات الإسلامية . وفي المدينة المنورة مَعْلَمٌ أثري بارز يؤكد هذا الحدث هو مسجد القبلتين، المسجد الذي صلى فيه المسلمون صلاة واحدة بعضها إلى بيت المقدس وبعضها إلى مكة المكرمة .
وفي القدس ثاني المسجدين وثالث الحرمين، فقد شرفها الله بالمسجد الأقصى المبارك، ثالث المساجد التي تشد الرحال إليها، حيث يتحمل المسلم وعثاء السفر بهدف الصلاة والتعبد فيها، قال صلى الله عليه وسلم “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا” (رواه البخاري) .
وهو ثاني مسجد بُني على وجه الأرض، فقد سأل أبو ذر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وُضع على الأرض أولاً؟ قال: “المسجد الحرام” قال ثم أي؟ قال: “المسجد الأقصى” قال: كم بينهما؟ قال: “أربعون سنة . . .” (رواه البخاري) .
وفي الاعتقاد الإسلامي أن أرض القدس ستكون مسرحاً لأحداث التاريخ المنتظر الذي ستنتهي في إثره الحياة الدنيا، حيث يبدأ بسيطرة الكفر وانتصاره وانتشاره في آخر الزمان، فتكون القدس يومها ملاذاً للناس وعصمة لمن سكنها، مؤمناً ملتزماً بما عليه من واجبات .
قال صلى الله عليه وسلم “يا معاذ إن الله سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة فمن اتخذ ساحلاً من سواحل الشام أو ببيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة” . ولئن كانت مكة أم القرى وبداية علاقة الإنسان بالأرض، فالقدس بوابة السماء ونهاية علاقة الإنسان بالأرض : فمنها رفع سيدنا المسيح عيسى عليه السلام إلى السماء، ومنها عرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء .
المفضلات