خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الكبير بحلب بتاريخ 29/10/2010م


المتأمل لمضمونات ديننا الإسلاميّ يجد أنها تبني حضارةً ذات شقّين:
1- شقّ مادّيّ عمليّ حسِّيّ: يظهر من خلاله تطور تراه العين، ويخبره الحسّ.
2- شقّ إنسانيّ تتألّق فيه الأخلاق، ويظهر من خلاله توازن الحضارة المادّية كما يظهر جانبها المعنويّ الإنسانيّ.
وهكذا بنى ديننا الإسلاميّ (ويبني وسيبني) المجتمع الذي إن تفاعل مع هذه المضمونات كان متطورًا في حسِّه ومعناه.
ففي الجانب المادّيّ الحسِّيّ العمليّ: نجد الإسلام:
* يعتني بإعمار الأرض:
{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] أي طلب منكم أن تعمروها.
* ويعتني بإتقان العمل، ويجعل على الإتقان رقابة من الله تبارك وتعالى ورقابة من الناس:
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]
(إن الله يحبّ العبد إذا عمل عملاً أتقنه).
* ويعتني بجانب النظافة في المكان والبدن: والذي يقرأ أحكام الفقه الإسلاميّ المستمدّة من القرآن وهدي النبي عليه الصلاة والسلام يرى كيف يوجّه الإسلام إلى نظافة المكان والبدن، بل إن الحديث النبويّ جاء فيه: (إِنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ).
ولما دخل رجل ثائر الشعر شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالشيطان، وأمره أن يخرج من المسجد، وأن يعود إليه وقد أعاد ترتيب نفسه، ورجّل شعره، واعتنى بمظهره.
فهناك قيمة جمالية كلُّ من قرأ القرآن يلاحظها، فهو لا يعتني بجمال الباطن وحسب، لكنه يتحدّث عن جمال الظاهر أيضًا ويحبّب به، فيدعو إلى مواصلة البحث ومواصلة النظر، ويجعل للعلم قيمة متميزة، بل إنها الفيصل والفارق الذي به يتميز الناس: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
فهذا الجانب لو تفاعل مجتمعُنا الإسلاميّ معه سنرى بيئة نظيفة، وسنرى صناعة متطوّرة، وسنرى مختبرات البحث العلميّ تزخر بعلمائها...
وقبل أن أتحدّث عن واقعنا وأتساءل:
هل واقعنا يمثّل تفاعلنا مع هذا الشقّ؟
أذكر باختصار:
الشقّ المعنويّ من الحضارة الإسلامية: وأنت ترى مع تطوّرها المادّيّ العمليّ رُقِيًّا خُلُقِيًّا:
* فتجد دعوة إلى الإيثار الذي لا تعرفه الحضارة المادية المجرّدة، وذلك حينما يتخلّى الإنسان عن حظّ نفسه من أجل مجتمعه.
* وتجد التآخي والرحمة والشفقة.
* وتجد التكافل الاجتماعيّ، فتجد مسؤولية الفرد عن الجماعة، ومسؤولية الجماعة عن الفرد.
* وتجد ترفّعًا عن الغشّ والاحتيال.
* وتجد حفظًا لإخوانك بظهر الغيب...
وهكذا تجد في الجانب الخلقيّ الآخر شِقًّا خُلقيًّا إنسانيًا يشعر فيه الإنسان بالإنسان، ويخدم فيه الإنسان الإنسان، ويَسعى فيه الإنسان من أجل أن تظهر فيه وفي إخوانه قيمُ الإنسان..
وقد اعتدنا أن نسمع في دروس الجمعة وغيرها حديثًا عن الجانب الخلقيّ والجانب الإنسانيّ، أو الجانب المعنويّ، لكن اسمحوا لي وباختصار شديد أن أتساءل: هل نحن نتفاعل مع الجانب المادّيّ الحضاريّ الإسلاميّ ونحن نقرأ القرآن ونسمع توجيه الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام؟
فكثيرون هم الذين يتحدثون عن الإيثار والأخوة، وعن التصديق بالغيب، وعن معاني الإيمان.. لكن السؤال الذي أحببت باختصار شديد أن أثيره فهو:
هل يعبّر سلوكنا الحسِّيّ العمليّ اليوم عن مستوى رقيّ الإسلام؟
ولئن كنّا نتحدّث عن رقيّ الإسلام فنحن نتحدّث عن رقيّ الإنسان حين يكون تفاعلُه فيه مع معاني الإسلام، فالإسلام لا يوجد في الهواء إنما يوجد في الناس.
ولئن كنا نزعم أننا نتفاعل مع الإسلام ومع معانيه فلابد أن نسأل أنفسنا:
هل نحن نحقّق هذا في تطبيقاتنا العمليّة؟
وهل تفوّقت المصانع الإسلامية على مصانع غير المسلمين؟
فإن كانت مصانع المسلمين قد تفوقت بإتقانها ودقتها ورُقيها على مصانع غير المسلمين فقد تحقّق فينا رقيّ الإسلام الذي يحمل إلى الناس نهضةً مادية إلى جانب الشقّ المعنويّ.
وهل وصل مستوى معاملاتنا التجارية في يُسرها ووضوحها وبركاتها إلى مستوى نتفوق فيه على كل بيئة تجارية في وسط غير المسلمين؟
فتفوّقنا الإسلاميّ الصناعيّ يدلّ على تفاعلنا مع مضمونات الإسلام..
وتفوّقنا الإسلاميّ التجاريّ يدلّ على تفاعلنا مع مضمونات الإسلام..
وكذلك هل نظافة مدينتنا - حينما نُقارنها بالمدن الأخرى التي يكثر فيها غير المسلمين - تعبر عن تفاعلنا مع مضمونات الإسلام؟
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة ثوابًا عظيمًا حين تنظف بيتها من الحشرات الضارة، وأتى بمثال: الوزغ، والوزغ ما يسمى باللهجة العامية "أبو بريص" أو السامّ الأبرص.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدّث عن إبادة الحشرات الضارّة..
ويتحدّث عن الجمال: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ)..
ويتحدّث عن النظافة: (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ)..
فهل وعينا هذا في نظامنا السلوكيّ العمليّ الذي نتحرّك فيه في مجتمعنا وفي سلوكنا العامّ؟
فإذا كانت طرقاتنا متفوقة على طرقات المدن الأخرى عند غير المسلمين فقد تفاعلنا مع مضمونات الإسلام.
والبارحةَ زرتُ المقبرة الإسلامية الحديثة - وهناك خطةٌ عامةٌ لتطوير مقابر المسلمين - وكم تألم قلبي عندما رأيت أن الذي يريد زيارة القبر يدخل نظيفًا ويخرج متّسخًا لأنك لا تجد تنظيمًا، فلا تجد رصفًا ولا تعبيدًا يعبر عن مستوى هذا الاسم الذي رُفع عندما كتب عليها: "المقبرة الإسلامية"، فإن كانت إسلامية حقًّا فينبغي أن تعبر عن مضمونات الإسلام، ومن مضمونات الإسلام التنظيم، ومن مضموناته النظافة، ومن مضموناته العناية والإتقان..
وأنشأنا فريق عمل، وقلت: لابد أن تشترك المدينة كلها (لا المؤسسات الحكومية فقط) في هذا التطوير، وربما كانت الإمكانات بحسب الأنظمة والقوانين لا تسمح بالمستوى الذي يدعو إليه الإسلام من الرقي، لكنّ المتفاعلين مع مضمونات الإسلام يقدرون - إن هم تفاعلوا حقيقةً مع مضموناته - أن يفعلوا الشيء الكثير.
وقد لا تكون الأجهزة الحكومية قادرة على تنظيف الشوارع وحدها من غير أن تتعاون مع الناس، لكن ماذا أقول عن المسلم الذي يقود السيارة، ثم هو بعد ذلك يفتح نافذة سيارته ويلقي في الشارع وأمام مرأىً من الناس الأوراقَ والأوساخَ وأعقاب السجائر؟! هل هذا يعبر عن الإسلام؟!
فهل نتحدث عن الإسلام فقط في الصلاة؟
وهل نتحدث عن الإسلام فقط في الحجّ؟
وحتى الحجّ هل يعبر واقعه اليوم عن مستوى رقيّ الإسلام في الشقّ المادِّيّ؟
فالشقّ المعنويّ لا ضابط له، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يزكّيه، وهو الذي يعلمه، لكننا نستطيع أن نرى رقيّ المسلمين من خلال المظاهر الحسِّية المادّية؟
فإذا استطعنا أن نكون مظهرًا يعبر عن الإتقان، ويعبر عن النظافة، ويعبر عن التنظيم، ويعبر عن التفاعل مع هذه المضمونات الراقية الحضارية... عند ذلك أقول: إنّ تفاعلنا مع الإسلام حقيقيّ.
ومَن منّا لا يعلم إنّ إتقان العمل من الإسلام؟!
ومَن منّا لا يعلم أن النظافة من الإسلام؟!
ومَن منّا لا يعلم أن التنظيم هو من الإسلام؟!
ومَن منّا لا يعلم أن التعاون العامّ هو من الإسلام؟!
لكننا نحتاج أن نحوّل ما قرأناه وتعلمناه في الفكر إلى واقعٍ عمليٍّ نتفاعل فيه على أرض الواقع مع مضمونات الإسلام.
زوروا بلدًا إسلاميًّا، وزوروا بلدًا من البلاد غير الإسلامية، وقارنوا بعد ذلك..!!
لكن بدأت بعض الشعوب الإسلامية تنهض بمهمتها الحضارية.
وعندما زرت القارة الأمريكية وتجوّلت في كندا وأمريكا، وزرت المدن الغربية الأوربية ورأيت ما فيها... حزنت وأنا أقارنها مع مدننا الإسلامية، وقلت: هل يُعقل أن تكون مدننا إسلامية؟
وزرت في الجانب الشرقيّ من العالم ماليزيا وسنغافورا، ورأيت أن الشعوب الإسلامية متفاعلة فيها مع مضمونات الإسلام، وإن لم يكن الإعلام موجودًا بأنها تنفذ، فلا حاجة أن تعلن ما الذي تنفذه، فأنت إنسان، وأينما كنت عبِّر عن إسلامك، ولا يهم أن تقول: إن سلوكي هذا ينبعث عن الإسلام، فهذا يعلمه الله.
فمتى تكون مدينة حلب على سبيل المثال والمدن الأخرى في هذا المستوى؟
من خلال تعاونكم، ومن خلال تفاعلكم، ومن خلال رُقيّكم في إسلامكم..
إذًا:
ليس العيب في إسلامنا، إنما العيب في أننا لا نحوّل ما نقرأه في إسلامنا إلى ترجمة عملية على أرض الواقع.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.