غذاء الروح



إن من الحقائق الهامة التي يجب على الإنسان أن يعرفها عن ذاته أن الإنسان - أياً كان- مؤلفٌ من ثلاثة عناصر، من القفص الجسدي الذي يروح ويغدو به دائماً، ومن الغرائز الحيوانية التي غرسها الله سبحانه وتعالى ابتلاءً له في كيانه، ومن الروح الهابطة إليه من الملأ الأعلى تلك التي تحدث عنها بيان الله عز وجل بقوله يخاطب الملائكة: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].

وإن من شأن الإنسان- إلا من رحم ربك-أن يذهب كل مذهب في العناية بالقفص الجسدي الذي يراه صباح مساء في مرآة ذاته ، وأن يُعْنَى العناية التامة بالغرائز الحيوانية المثبتة في كيانه، لا يألو جهداً عن تقديم الغذاء المطلوب لكلٍ من جسده ولكلٍ من غرائزه الحيوانية ، بل إنه ليتفنن في ذلك ويذهب في تقديم هذا الغذاء لكل من هذين العنصرين كل مذهب، أما الروح وهو العنصر الفعال الأول في كيان الإنسان فإن الإنسان- إلا من رحم ربك- غافل عن حاجات هذه الروح، غافل عن الغذاء الذي ينبغي أن يقدمه لها، بل إن كثيراً من العلماء في هذا العصر إذا سمعوا كلمة عن الروح أو الروحانيات استخفوا بها وجادلوا في ذلك ، وحاولوا أن يقنعوا الآخرين بأن العلم لا يؤمن إلا بما تراه العين أو تسمعه الأذن أو يشمه الأنف أو يحس به الذوق ، أي إلا بشؤون المادة ، أما ما وراء ذلك فهؤلاء ينكرونه ويستخفون به.

ونحن ينبغي أن نعلم أيها الإخوة أن العنصر الفعال في كيان الإنسان ليس هذا القفص الجسدي وليست الغرائز الحيوانية التي حدثتكم عنها ، وإنما العنصر الفعال في كيانك يا ابن آدم إنما هو هذه الروح، تنعكس على حجيرات الدماغ فيتكون لك من ذلك الفكر والوعي، ويسري إلى نسيج الخلايا في كيانك فيتكون لك من ذلك الإحساس، وينعكس على عضلة القلب فيتكون لك من ذلك الوجدان، تتكون العواطف الدافعة والرادعة والممجدة.

هذه هي الروح وهذا هو فعلها في كيانك، فقولوا لمن يستخف بالروح ومن ثَمَّ يهمل الغذاء الذي تحتاجه هذه الروح قولوا له عندما تخرج من غرفتك صباحاً إلى الشرفة الملتصقة بها وتبعث عينيك إلى الآفاق الواسعة ما الذي تشعر به؟ إنك تشعر بانتعاش عجيب وكأن حياة جديدة سرت في كيانك، هذا الانتعاش أهو من أثر القفص الجسدي؟ هذا الانتعاش أهو من شعور الغرائز الحيوانية؟ لا، إنه انتعاش الروح الحبيسة في هذا القفص الجسدي، نَظَرَتْ من خلال عينيك إلى هذه الآفاق الواسعة فتذكرت العالم الواسع الذي كانت تجوب فيه قبل أن يقضى عليها بالاحتباس إلى حين في قفصك بل في محبسك الجسدي هذا، قولوا لهذا الذي يستخف بالروح وحقائقها ما الذي ينعشك بل يطربك عندما تصغي إلى نغمات شجية تجعلك تحن إلى المجهول وتجعلك تتشوق إلى ما لا تدري؟ أهو شعور القفص الجسدي أم هو شعور الغرائز الحيوانية؟ لا، إنه حنين الروح استبد بها الشوق عندما سمعت هذا الصوت الشجي بأنغامه الشجية تذكرت خطاب الله عز وجل الذي لا يزال صداه يرن في كيان الروح أياً كانت هذه الروح، ذلك العهد الذي أشار إليه بيان ربنا القائل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [لأعراف:172]، خطاب قديم منذ عهد الذر وجهه الله مباشرة إلى هذه الروح الإنسانية، إنها لا تزال تطرب، إنها لا تزال تشعر بالحنين والشجو لهذا الخطاب الرباني ولكنها اليوم حُبِسَتْ في هذا القفص الجسدي، فيا عجباً لمن يزعم أنه يتعامل مع العلم ثم إنه يعمي عينيه عن هذه الحقيقة العلمية الجاثمة في كيانه، يعمي عينيه عن هذه الحقيقة العلمية التي ينبغي أن يشعر بها صباح مساء.

هذه الروح أيها الإخوة ليست من جنس الأرواح التي تتمتع بها الحيوانات، إنه سر من أسرار الله أهبطه الله سبحانه وتعالى إلى كيانك يا ابن آدم إلى حين والمطلوب منك أن تقدم لهذه الروح غذاءها، ورحم الله أبا علي بن سينا يوم عبر عن هذه الحقيقة بقصيدته السائرة المعروفة والتي بدأها بقوله عن الروح:



هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع



غذاء الروح أيها الإخوة أهملناه أيما إهمال ، ومن ثم فإنها تعاني داخل هذا السجن الجسدي لا من البعد عن عالمها الذي كانت تتنقل فيه فقط بل هي اليوم بعيدة حتى عن غذائها، تغذي جسمك بما يتطلبه مما تعرف وتغذي غرائزك الحيوانية وأنت تعرفها بكل ما تستطيع من الوسائل، أين هو غذاء الروح؟

ولعلك تسأل ما هو غذاء الروح؟ تستطيع أن تعلم الجواب عندما تعلم العالم الذي أُهْبِطَتْ الروح منه إلى جسدك، إنه العالم العلوي، إنه عالم الملأ الأعلى، إنه اليوم أصبح بعيداً عن ذلك العالم يحتاج إلى من يذكرها به، يحتاج إلى من يحدثها عنه، إنه ذكر الله عز وجل، إنه الإكثار من الإقبال على خطاب الله عز وجل تتلوه صباح مساء، إنك بهذا تقدم للروح غذاءً وأيَّ غذاء، إنه الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى متمثلاً في التسبيح، في الحمد، في الاستغفار، في التهليل والتوحيد في البكور والآصال، إنه الغذاء الذي يجعل الروح تنتعش أيما انتعاش.

إن غذاء الروح يتمثل في انتهاز الفرص، في انتهاز أيام تتجلى فيها على الإنسان نفحات وأي نفحات من لدن مولاه وخالقه. ولعلكم تعلمون أنه قد ورد في الأثر: (إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها)، لا تتعرض لها بجسمك ولا تتعرض لها بغرائزك بل تعرض لها بروحك كليلة القدر ، و كشهر رمضان الذي نَوَّهَ بفضله القرآن ، و كأيام العشر الأول من ذي الحجة .

أرأيتم يا عباد الله إن نحن قدمنا إلى الروح غذاءها هذا المتمثل فيما أقوله لكم ما الذي سيحدث، ما النتيجة التي ستتحقق؟ النتيجة أن الروح تقوى ثم إنها تزداد قوة وتزداد قوة إلى أن تتغلب على الغرائز الحيوانية التي تهتاج بين جوانحك، كنت يُخَيَّلُ إليك أنه هنالك وحياً واحداً في كيانك إنه وحي الغرائز يدعوك إلى أن تأخذ حظك الأوفى من شهواتك وأهوائك ولم تكن تشعر بوحي آخر قط، أما اليوم وقد أخذت تقدم للروح غذاءها باستمرار وباستمرار ودوام فإن النتيجة هي أن الروح تقوى ثم تقوى وإن مشاعر الحنين إلى مولاك وخالقك هو الذي يستبد بك ويتغلب عليك، وإن مراقبتك لمولاك عن طريق هذه الروح هي التي تهيمن عليك وتعود الغرائز فتتقلص ثم تتقلص فاعليتها ، وعندئذٍ تستطيع أن تتحكم بغرائزك وأهوائك، كنت فيما مضى إذا أطربك الصوت الشجي وأنعشتك الكلمات التي فيها غزل أو أي شيء كانت غرائزك هي التي تفسرها ومن ثم كنت تطرب ويهتز منك الرأس عندما تسمع من يقول:



لي لذة في ذلتي وخضوعي وأحب بين يديكِ سفك دموعي



أما اليوم وقد انتعشت روحك بالغذاء الذي تقدمه لها، انتعشت وقويت فإنك اليوم عندما تسمع هذا الكلام تسمعه بهذا الشكل:



لي لذة في ذلتي وخضوعي (إليك يا رب) وأحب بين يديكَ سفك دموعي

أرأيتم كيف يتحول الإنسان من حالٍ إلى حال، أيها الإخوة دعونا نقبل إلى الروح التي طال احتباسها في هذا القفص الجسدي، أنعشوها، ذَكِّروها بالعالم الذي أُهْبِطَتْ منه، قدموا لها غذاءها تنعشكم وتسعدكم وتحقق لكم سعادة العاجلة والآجلة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

.................................................. ..

العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

نقلا عن خطبة الجمعة في جامع بني أمية الكبير