[justify]

قال العلامة القرطبي: ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) باختصار وتلخيص:

فيه إحدى عشرة مسألة

الأولى: قوله تعالى: ( إلا تنصروه ) والمعنى: إن تركتم نصره فالله يتكفل به، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة. وقيل: فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه، وبوفائه ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله. قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق. وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: ( إلا تنصروه ).
الثانية: قوله تعالى: ( إذ أخرجه الذين كفروا ) وهو خرج بنفسه فارا، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالإكراه، لالجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف.
الثالثة: قوله تعالى: ( ثاني اثنين ) أي أحد اثنين. وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة. وهو منصوب على الحال، أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر. والعامل فيها ( نصره الله ) أي نصره منفردا ونصره أحد اثنين.
الرابعة: قوله تعالى: ( إذ هما في الغار ) الغار: ثقب في الجبل، يعني غار ثور.
الخامسة: روى البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا، وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وأعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل.
قال المهلب: فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين.
وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق.
وقال البخاري في ترجمته: باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام
قال ابن بطال: إنما قال البخاري في ترجمته: أو إذا لم يوجد أهل الإسلام من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قوي الإسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر. وعامة الفقهاء يجيزون استئجار هم عند الضرورة وغيرها.
وفيه: استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما.
وفية: دليل على جواز الفرار بالدين خوفا من العدو، والاستخفاء في الغِيران وغيرها، ألا يُلقيَ الإنسان بيده إلى العدو توكلاً على الله واستسلاماً له. ولو شاء ربكم لعصمة مع كونه معهم ولكنها سنة الله في الأنبياء وغيرهم، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال: من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله، ولم يؤمن بالقدر. وهذا كله في معنى الآية، ولله الحمد والهداية
السادسة: قوله تعالى: ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه. روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك: ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) هو الصديق. فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه. قال بعض العلماء: من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع. ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه رد نص القرآن. ومعنى ( إن الله معنا ) أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة.
السابعة: قال ابن العربي: قالت الإمامية قبحها الله: حزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وخرقه. وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص، كما لم ينقص إبراهيم حين قال عنه: ( نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف ). ولم ينقص موسى قوله: ( فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا لا تخف ). وفي لوط: ( ولا تحزن إنا منجوك وأهلك ). فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التَّقِيَّة نصاً ولم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص، وكذلك في أبي بكر. ثم هي عند الصديق احتمال، فإنه قال: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا.
جواب ثان: إن حزن الصديق إنما كان خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصوما وإنما نزل عليه ( والله يعصمك من الناس ).
الثامنة: قال ابن العربي: قال لنا أبو الفضائل العدل: قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم: قال موسى صلى الله عليه وسلم: ( كلا إن معي ربي سيهدين ) وقال في محمد صلى الله عليه وسلم: ( لا تحزن إن الله معنا ) لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع مِن عند ربه ووجد هم يعبدون العجل. ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم: ( لا تحزن إن الله معنا ) بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال.
التاسعة: خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد- له صحبة- قال: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ...، الحديث. وفية: واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الامر. فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر رضي الله عنه: من له مثل هذه الثلاث" ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" من" هما"؟ قال: ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة.
قلت: ولهذا قال بعض العلماء: في قوله تعالى: ( ثاني اثنين إذ هما في الغار ) ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا. وسمعت شيخنا الامام أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها، ولم يبق الإسلام إلا بالمد ينه ومكة وجواثا، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين.
قلت: وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف. والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه. وهل يكفر أم لا، يختلف فيه، والأظهر تكفيره. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة الفتح إن شاء الله. والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الامة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة: فضل الصديق على جميع الصحابة. ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع، فإنهم بين مُكَفّر تضرب رقبته، وبين مبتدع مُفَسّق لا تقبل كلمته. ثم بعد الصديق عمر الفاروق، ثم بعده عثمان.
روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي، فالجمهور منهم على تقديم عثمان. وروي عن مالك أنه توقف في ذلك. وروي عنه أيضا أنه رجع إلى ما عليه الجمهور. وهو الأصح إن شاء الله.
العاشرة: قوله تعالى: ( فأنزل الله سكينته عليه ) فيه قولان: أحد هما: على النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: على أبي بكر. ابن العربي: قال علماؤنا وهو الأقوى، لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر مع الصديق: ( هل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ إن الناس كلهم قالوا: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت ) رواه أبو الدرداء. البخاري (4640)
الحادية عشرة: قوله تعالى: ( وأيده بجنود لم تروها ) أي من الملائكة. والكناية في قوله: ( وأيده ) ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والضميران يختلفان، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب. ( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) أي كلمة الشرك. ( وكلمة الله هي العليا ) قيل: لا إله إلا الله. وقيل: وعد النصر. وقرأ الأعمش ويعقوب: ( وكلمة الله ) بالنصب حملا على ( جعل ) والباقون: بالرفع على الاستئناف.
تفسير القرطبي، ط. التركي 8/ 143- 149[/justify]