النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: آثار الإمام أبي حنيفة ودوره في الحوار بين الحضارات (1)

  1. #1
    كلتاوي فضي

    الحاله : Omarofarabia غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Nov 2007
    رقم العضوية: 448
    المشاركات: 706
    معدل تقييم المستوى : 123
    Array

    افتراضي آثار الإمام أبي حنيفة ودوره في الحوار بين الحضارات (1)

    بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان








    محاضرة ألقيت في طاجكستان

    الإمام أبو حنيفة .. أمّة في رجل



    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

    سأتناول بالحديث إماماً من أئمة المسلمين، حجّةً، علماً، ثقة ومجتهدا.. هو الإمام أبو حنيفة النعمان؛ صاحب أحد المذاهب الأربعة التي يتعبد الناس فيها ربهم، ويقلّدون فيها فقهه رضي الله تعالى عنه.

    ^ نشأته وتلقّيه العلم:

    ولد الإمام النعمان بن ثابت المعروف بأبي حنيفة في الكوفة سنة (80هـ=699م). بدأ منذ نعومة أظفاره يذهب مع أبيه إلى متجره، حيث كان يلازمه ويتعلم منه أصول وأسس التعامل مع البائعين والمشترين، وتابع خطا أبيه وعاش في رخاء ويُسر. كان بزّازاً[1]،وكان له شريك في متجره يساعده في البيع والشراء.

    رأى في صغره الصحابيَّ الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، ثم التحق بحلقات شيخه حمّاد بن أبي سليمان وأخذ العلم عنه، وكان حماد فقيهاً كوفياً كثير الرأي. ومعلوم أن فقه أهل الكوفة يرجع إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي أرسله عمر بن الخطاب ليفقّه أهل الكوفة. وقد أخذ تلامذته من بعده عن علي بن أبي طالب أيام خلافته. ثم نشأ بعد هؤلاء التلامذة فقيهان أخذوا عنهم، هما: عامر الشعبي وإبراهيم النخعي. وصار هذان الإمامان فقيهي الكوفة في زمانهما. أما الأول فكان أميل للأخذ بالأثر، وأما الثاني كان يميل إلى الرأي، شأنه شأن عامة أهل الكوفة. ثم أخذ الفقه عن إبراهيم النخعي إمامان؛ منصور، وحماد. و أخذ سفيان الثوري رحمه الله تعالى الفقه عن شيخه منصور . وأخذ أبو حنيفة الفقه عن حماد. ومن تأمل فقه الإمامين أبي حنيفة والثوري رحمهما الله تعالى، لوجده قريباً من بعضه، فهذان الفقهان يكاد كل منهما يأخذ من الآخر، إلا أن فقه الإمام أبي حنيفة أكثر تفريعاً، وفقه الإمام سفيان الثوري كان أقرب للأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لزم أبو حنيفة عالِمَ العصر آنذاك وشيخ الشيوخ حمّاد بن أبي سليمان، وتخرَّج عليه في الفقه، و استمر معه إلى أن مات. بدأ بالتعلم عنه وهو ابن 22 سنة و لازمه 18 سنة من غير انقطاع ولا نزاع ولا خلاف. يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "بعد أن صحبتُ شيخي حمّاداً عشر سنين نازعتني نفسي لطلب الرياسة، فأردتُ أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي. فخرجتُ يوماً بالعشيّ وعزمي أن أفعل، ولمّا دخلتُ المسجد رأيتُه ولم تطب نفسي أن أعتزله فجئتُ فجلستُ معه، فجاء في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالاً وليس له وارث غيره، فأمرني شيخي حماد أن أجلس مكانه وألقي الدرس على الناس. فما هو إلا أن خرج حتى وردتْ عليَّ مسائل لم أسمعها منه، فكنتُ أجيب وأكتب جوابي. ثم قَدِمَ، فعرضتُ عليه المسائل وكانت نحواً من ستين مسألة، فوافقني بأربعين وخالفني في عشرين، فآليتُ على نفسي ألا أفارقه حتى يموت وهكذا كان". وفي ذلك درس عظيم لنا - نحن طلبةَ العلم - أن نحافظ على دروس مشايخنا، وألا ينظر أحدنا إلى نفسه أنه أصبح علماً كبيراً ومستغنياً عن علم شيوخه. علينا أن نحافظ على حلقات شيوخنا من المهد إلى اللحد. هكذا كان الأئمة الكبار رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم، ونفَعنا بهم وبعلومهم.

    كان الإمام أبو حنيفة شديد الأدب مع شيوخه وأساتذته، حتى أنه كان لا يتخلى باتِّجاه بيت شيخه حمَّاد[2]، وكان إذا نام يحرص أن لا تتوجه قدماه باتجاه بيت شيخه حمَّاد. و قيل إن أبا حنيفة لم يكثر من الشيوخ مخافة أن تكثر حقوقهم عليه فلا يستطيع أداءها، لذلك حافظ على شيخه حماد ولبث في حلقاته إلى أن لقس وجه ربه. فتأملوا في هذا الأدب الرائع!. وأخاطب هنا الإخوة طلبة العلم وطلاب المدارس أن يتأدبوا مع أساتذتهم وشيوخهم؛ فإن هذا الأدب سر عظيم في الفتوحات الربانية التي ينزلها الله سبحانه وتعالى على قلوب طلاب العلم والمتخصصين فيه.

    ^ مسايرة مذهبه للعصور والأزمنة:

    وقد ثبت لدى أهل العلم أن مذهب الإمام أبي حنيفة يعد من أكثر المذاهب مسايرة للعصور والأزمنة والأمكنة؛ وذلك يتضح من خلال المخالفات التي كانت تكون بينه وبين أصحابه وتلامذته. لذلك فبعض أهل العلم يعدّ هذا المذهب مذهب الرأي والاجتهاد وإعمال العقل والتجديد، حتى أن بعض أهل العلم قالوا: "إن مذهب الإمام أبي حنيفة يناسب المدنية الحديثة". أي حيث ما وجد فقه الإمام أبي حنيفة فإنك لن تجد مشكلة ولا معضلة؛ لأن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان أول من اخترع ما يسمى بالفقه الافتراضي، أي كان يفترض مسألة لم تقع بعد، وكان يأتي لها بالأدلة والحل والأجوبة التي تناسب الزمان والمكان الذي ستكون فيه هذه المسألة.

    ^ تلامذتـه:

    تخرج على يدي الإمام أبي حنيفة جمع كبير من الفقهاء، من أمثال الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (183هـ=799م): وهو الذي نشر المذهب الحنفي وأول من كتب فيه، وكان قاضي القضاة في عهود خلفاء ثلاثة، من أبرزهم هارون الرشيد رحمه الله تعالى. والإمام محمد بن الحسن الشيباني (189هـ=805م): كان من أذكى خلق الله تعالى على وجه الأرض كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. وهو الذي دوّن المذهب الحنفي، وسجله، وقيد مسائله. والإمام زُفَر بن الهذيل وغيرهم. وهكذا فإن جل تلامذة الإمام أبي حنيفة كان كل واحد منهم أمّةً في نفسه. فإذا كان التلاميذ بهذا المستوى فكيف بشيخهم؟! قال شيخ الإسلام: «وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبي حنيفة، وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك. ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك. وكل ذلك اتباعاً للدليل وقياماً بالواجب». والمجتهد إذا اجتهد فأصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. وقد ذكر ابن عابدين الحنفي في "حاشيته" (1|67): «حصلت مخالفة الصاحبين لأبي حنيفة في نحو ثلث المذهب». مما يدل على بعدهم عن التقليد و قدرتهم على الإبداع. وفي ذلك ردٌّ على من يزعم أن في الفقه الإسلامي جموداً، أو أنه لا يتماشى مع العصر، فالإمامان العظيمان "أبو يوسف ومحمد" خالفا شيخهما الإمام أبا حنيفة في ثلث مذهبه، واجتهدا بأقوال يُفتى بها إلى اليوم في زماننا.

    ^ من صفاتـه:

    أ- حرصه على مظهره:

    كان حريصاً على أن يكون مظهره حسناً تماماً، لذا كان كثير العناية بثيابه.

    رأى مرة على بعض جلسائه ثياباً رثة فأمره أن ينتظر حتى تفرَّق المجلس وبقي وحده فقال له: "ارفع هذا المصلى وخذ ما تحته". فرفع الرجل المصلى وكان تحته ألف درهم، وقال له: "خذ هذه الدراهم وغيِّر بها حالك". فقال له الرجل: "إني موسر، وأنا في نعمة، ولستُ أحتاج إليه". فقال له أبو حنيفة: أما بلغك الحديث: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". فالإمام أبو حنيفة كان يُعلي من شأن العلم، ويرفع من مكانة العلماء عندما كان مظهره حسناً، وكانت يده يد تاجر ممتلئة على الدوام، وكان يعطي ولا يأخذ. وليس كل أهل العلم في عصرنا يبلغون رتبة أبي حنيفة علماً، وفقهاً، واجتهاداً، وعزة نفس، وعطاءً، ويسراً... وأن يجدوا بين أيديهم من العطاء والمال ما يجودون به على الناس.

    ب- جوده وكرمه:

    وكان من جود وكرم أبي حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه:

    1- أنه كان إذا انفق على عياله نفقة تصدّق بمثلها على غيرهم من المحتاجين. وهذا يعد نوعاً من التكافل الاجتماعي والإحساس بآلام الآخرين.

    2- وإذا اكتسى ثوباً جديداً كسا المساكين بقدر ثمنه.

    3- وكان إذا وُضع الطعام بين يديه غرف منه ضعف ما يأكله عادة ودفع به إلى الفقراء.

    4- وكان لأبي حنيفة شريك في بعض تجارته واسمه حفص بن عبد الرحمن. فكان أبو حنيفة يجهز له أمتعة الخز (الحرير) ويبعث بها معه إلى بعض مدن العراق. فجهز له ذات مرة متاعاً كثيراً وأعلمه أن فيه ثوباً فيه كذا وكذا من العيوب، وقال له :"إذا هممت ببيعها فبيّن للمشتري ما فيها من عيب". فباع شريكُه حفص المتاعَ كلَّه، ونسي أن يعلم المشتري بما في الثوب من عيوب. فلما عرف بذلك أبو حنيفة، بحث عن الذين أخذوا هذه التجارة التي بها عيب فلم يجدهم، فأخرج أبو حنيفة ثمن البضاعة كلها زكاةً وصدقة، فلم يأكل من تلك الصفقة قرشاً واحداً؛ لأن في ذلك شبهة.

    ليت التجار اليوم يسمعون بأخلاق أبي حنيفة، ويعلمون هذه الحقائق التي حرص عليها في بيعه وشرائه. لكن كثيراً ما نسمع في زماننا أن الإنسان يشتري ثوباً، فيجد فيه عيباً، فيعود به على البائع الذي يقول: أنا لا أتعرف على أي عيب يحدث خارج المتجر، وهذا لا يُعد من تقوى الله سبحانه وتعالى، وكم سيكلّف التاجرَ ثوبٌ فيه عيب؟! فالثوب الذي يباع وفيه عيب يضرّ بالمشتري أكثر مما يضر البائع فعلينا أن نتقي الله جميعاً إن كانت لنا تجارة، فلا نغش الناس في بيعنا أو شرائنا، وإن كان في تجارتنا شيء من العيوب أن ندل الناس عليه؛ حتى لا نأكل مالاً راماً أو فيه شبهة الحرام.

    ^ حياة حافلة بالزهد والتقوى:

    أدرك النعمان بن ثابت العصرين الأموي والعباسي؛ فقد عاش ونشأ في آخر عصر بني أمية، وأول عصر بني العباس. وكانت بدايته في الحياة أنه اجتهد على إكرام نفسه وعلمه، وأن يظل عزيزاً، رافضاً الذل والمهانة، وعقد العزم على أن يأكل من كسب يده، وألا يمد يده إلى أحد من الناس.

    أ- قصته مع الخليفة أبي جعفر المنصور:

    كان الخليفة أبا جعفر المنصور كان يرفع من شأن الإمام أبي حنيفة ويكرمه، ويرسل له العطايا والأموال، لكن الإمام أبا حنيفة لم يكن يقبل عطاءً قط، لا من الخليفة ولا من غيره، ولقد عاتبه الخليفة المنصور يوماً على ذلك فقال له: "يا أبا حنيفة! لم لا تقبل صلتي؟!". فقال أبو حنيفة: "ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته، ولو وصلني بذلك لقبلته، إنما وصلني من بيت مال المسلمين، ولا حق لي به". انظروا إلى هذا الموقف من مواف أبي حنيفة، والذي يدل على زهده، ورفعة نفسه، وعلوّ شأنه، فلم يكن يقبل مالاً ولا عطاء من أحد، ويريد بذلك أن يُعزّ العلم ومكانة العلماء.

    وقع يوماً خلاف ين الخليفة أبي جعفر المنصور وزوجته، والسبب أنه كان ميالاً عنها إلى غيرها، فطلبت منه أن يعدل بينها وبين غيرها من النساء، فقال لها: "من ترضين في الحكم بيني وبينك؟". قالت: "أبا حنيفة". فرضي المنصور به حكماً بينه وبينها، ثم جيء بالإمام فقال له المنصور: "يا أبا حنيفة! زوجتي تخاصمني، فأنصفني منها". فقال له أبو حنيفة: "تكلم يا أمير المؤمنين". فقال المنصور: "كم يحل للرجل أن يتزوج من النساء؟". قال: "أربع". فقال المنصور لزوجه: "أسمعتِ؟ إنه قول أبي حنيفة". فقال أبو حنيفة: "يا أمير المؤمنين! إنما أحل الله هذا لأهل العدل، فمن لم يعدل أو خاف ألا يعد فواحدة". قال تعالى: []...فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً...[] سورة النساء (3). فينبغي لنا أن نتأدب مع الله، وأن نتّعظ بمواعظه. وكان هذا الجواب مُسكِتاً للخليفة المنصور الذي سكت وطال سكوته، فقام أبو حنيفة وخرج من مجلسه، فلما بلغ منزله أرسلت إليه زوجة المنصور خادماً ومعه مال وثياب وعطاء، فلما وصل المال إليه ردّه وقال للخادم: "أقرِئها السلام وقل لها: إنما دافعت عن ديني وقمت بذلك المقام لله وحده، ولم أرد بذلك تقرباً إلى أحد، ولا التمست به دنيا". رحمه الله تعالى. أراد بذلك الموقف أن يعلّمنا كيف يعمل الإنسان لوجه الله تعالى، ولا ينتظر عطاء أو ثناء من أحد، ولا أجراً أو مكافأة من ملك أو خليفة أو زعيم أو قاض أو نحو ذلك؛ لأنه عندما يبيّن حكم الله وشرعه فإنه بذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة ويؤدي الرسالة التي اؤتمن عليها كما أداها من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.

    دعاه الخليفة المنصور مرة إلى زيارته، فلما دخل عليه أبو حنيفة أكرمه ورحّب به وقربه من مجلسه، وجعل يسأله عن كثير من شؤون الدين والدنيا، فلما أراد أبو حنيفة الانصراف دفع إليه بكيس من النقود فيه ثلاثون ألف درهم، علماً أن ترجمة الخليفة أبي جعفر المنصور تشير إلى أنه كان بخيلاً، لم يكن يعطي عطاء الخلفاء، ولا يجود بالمال لا على الشعراء ولا على القضاة لا على العلماء، لكنه جاد على أبي حنيفة إكراماً لمكانته ومقامه وشأنه، لكن الإمام أبا رحمه الله تعالى قال: "يا أمير المؤمنين! إني غريب في بغداد، وليس لهذا المال موضع عندي، وإني أخاف عليه، فاحفظه لي عندك في بيت المال، فإذا ما احتجتُه طلبته منك". فرضي المنصور وأجابه إلى رغبته، لكن الإمام أبا حنيفة لم يلبث أن توفي بعد زمن يسير من هذا العطاء، ووُجد في بيته ودائعُ كثيرة للناس تزيد أضعاف أضعاف المبلغ الذي أعطاه إياه المنصور، فقد كان أميناً يتخلق مع الناس بأخلاق حسنة. بلغ هذا الأمر المنصور فقال: "رحمك الله يا أبا حنيفة! فقد خدعتنا، وأبيت أن تأخذ منا شيئاً، وتلطّفتَ في ردّنا". فالخليفة لا يستطيع أحد أن يرد عطاءه، ومن يرد عطاء الخليفة يستحق إثماً كبيراً عنده، لذلك فقد رد الإمام أبو حنيفة رحمه الله على الخليفة رداً رقيقاً وحكيماً.

    ولا عجب فيما نسمع ونقرأ عن الإمام أبي حنيفة؛ لأنه أخذ عهداً على نفسه منذ نعومة أظفاره ألا يأكل إلا من كسب يده، فلقد كان مبدأ الإمام أبي حنيفة: "ما أكل امرؤ لقمة أزكى ولا أعز من لقمة يأكلها من كسب يده". لذلك كان مع اشتغاله بالعلم والفقه والاجتهاد يخصص جزءاً من وقته للتجارة، فقد كان رجلاً ميسوراً غنياً يعمل بتجارة الحرير والصوف والثياب، وكانت تجارته رابحة، وكان متجره معروفاً يقصده الناس، فيجدون فيه الصدق في المعاملة والأمانة في الأخذ والعطاء، وكانت تجارته تُدِرُّ عليه خيراً وفيراً، وتهبه من فضل الله تعالى مالاً عظيماً. وكان رحمه الله يأخذ المال من حله ويضعه في محله، فلا يأل المال الحرام أو ما فيه شبهة الحرام، بل كان يأكل المال الحلال الصافي. وكان كلما حال الحول على ماله يحصي أرباحه، ويستبْقي منها ما يكفيه لتجارته، ثم يشتري بالباقي حوائج القراء، والمحدثين، والفقهاء، وطلاب العلم، وأقواتَهم وكسوتَهم. وكان يقول لهم تواضعاً منه وتكريماً لهم: "هذه أرباحُ بضائعكم أجراها الله لكم على يدي. واللهِ ما أعطيتكم من مالي شيئاً وإنما هو فضل الله علي فيكم". فقد كان يُشعِر المشتغلين بالفقه والحديث وقراءة القرآن أن لهم حصة في ماله فيشاركونه فيه، وأنه هو الذي يتّجر بهذا المال، فإذا حال الحول أعاد لهم نصيبهم من الأرباح والعطاء.

    ب- قصته مع امرأة عجوز:

    جاءته امرأة عجوز يوماً تطلب ثوباً من حرير، فلما أخرج لها الثوب المطلوب قالت له: إني امرأة عجوز ولا علم لي بالأثمان، فبعني الثوب بالثمن الذي اشتريتَه وأضف إليه قليلا من الربح فإني ضعيفة فقال لها: "إني اشتريت ثوبين اثنين في صفقة واحدة، ثم إني بعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم فخذيه بها ولا أريد منك ربحاً".

    ^ أخلاقـه:

    كان من أخلاق أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان طيبَ المعاشرة، حلوَ المؤانسة يسعد به جليسه. حدث أحد أصحابه فقال: سمعت عبد الله بن المبارك، يقول لسفيان الثوري: "يا أبا عبد الله! ما أبعد أبي حنيفة عن الغيبة، فإني ما سمعته يذكر عدواً له بسوء قط". فقال له سفيان: "إن أبا حنيفة أعقل من أن يُسلَِّط على حسناته ما يَذهب بها".

    وكان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه مولعاً باقتناص ود الناس، حريصاً على استدامة صداقتهم، وقد عرف عنه أنه ربما مر به الرجل من الناس، فقعد في مجلسه من غير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كان ذا حاجة أو فقر أعانه، وإن كان به مرض عاده، وإن كانت له حاجة قضاها حتى يجره إلى مواصلته وبرّه جراً. فلم يكن أحد من الناس يلتقي به إلا دامت محبته وصلته وعلاقته به.

    * قصته مع امرأة تبيع ثوباً:

    مرة جاءته امرأة بثوب من حرير تبيعه فسألها كم تريدين ثمنه؟ قالت : مئة، قال: هو خير من ذلك، بكم تقولين؟ فزادت مئة، قال: هو خير من ذلك. حتى قالت أربعمئة، قال: هو خير من ذلك. قالت : أتهزأ بي؟ قال : لا والله! هاتي رجلاً خبيراً ببيع القماش يقوّمه، فجاءت برجل فقومه، فاشتراه أبو حنيفة بخمسمئة. فهذا من تقوى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وزهده، وحرصه على أن يأكل مالاً حلالاً، وعلى أن تكون تجارته تجارة حلالاً.

    ^ دعاء:

    نسأل الله تعالى أن يفقّهنا في ديننا، وأن يعلّمنا رشدنا، وأن يدلنا على ما فيه خير ديننا ودنيانا، وأن يجعلنا خيرَ خلف لخيرِ سلف، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.











    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] بزّاز: تاجر أقمشة وثياب.

    [2] أي إذا دخل الخلاء لا يتجه أبداً قبالة بيت شيخه أدباً واحتراماً له.






  2. #2
    كلتاوي فضي

    الحاله : Omarofarabia غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Nov 2007
    رقم العضوية: 448
    المشاركات: 706
    معدل تقييم المستوى : 123
    Array

    افتراضي رد: آثار الإمام أبي حنيفة ودوره في الحوار بين الحضارات (1)

    آثار الإمام أبي حنيفة ودوره في الحوار بين الحضارات (2)

    بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان






    بسم الله الرحمن الرحيم



    الإمام أبو حنيفة النعمان هو الإمام الحجة الثقة، صاحب المذهب الذي يسمى بمذهب أهل الرأي، وهو الذي انتشر في الأرض انتشاراً كبيراً، حتى أن بعض أهل العلم قالوا: "إن ثلثي أهل الأرض يَدينون الله تعالى بمذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى.

    ^ عبادتــــه:

    كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى صوّام النهار، قوام الليل، صديقاً للقرآن الكريم، مستغفراً في الأسحار، وكان من أسباب تعمقه في العبادة أنه أقبل ذات يوم على جماعة من الناس فسمعهم يقولون: إن هذا الرجل الذي ترونه لا ينام الليل. فلما سمعهم قال: "إني عند الناس على خلاف ما أنا عليه عند الله تعالى، واللهِ لا يتحدثُ الناسُ عني منذ الساعة بما لا أفعل، ولن أتوسد فراشاً بعد اليوم حتى ألقى الله". فقد كان كلام الناس في حقه سبباً في إقباله على العبادة بشكل منقطع النظير، فكان يتلو القرآن طوال الليل، ويتهجد ويتعبّد، ولا ينام الليل، حتى أنه عرف عنه أنه صلى الفجر بوضوء العشاء، قرابة أربعين سنة ما ترك ذلك مرة واحدة، وهذه الرواية تواترت في ترجمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

    هذا السبب الذي يروى عن الإمام أبي حنيفة هو سبب محرِّض للإنسان المؤمن على العبادة، عندما يوصف الإنسان بأنه تقي لله وهو ليس بتقي فإنه يحرص أن يكون من أكثر الناس تقوى وفلاحاً وتقرّباً بين يدي الله تبارك وتعالى.

    ^ مناجاتـــه:

    كان الإمام أبو حنيفة كثير المناجاة، كان يقرأ القرآن، فإذا مرّ بآية خوف ظهر أثر ذلك على وجهه، وإذا مر بآية نعيم بدا أيضاً أثر ذلك على مُحَيَّاه. ومن ذلك أنه يروى عنه أنه كان إذا قرأ (سورة الزلزلة) اقشعر جلده، وخاف قلبه، فيقول مناجياً الله تعالى: "يا من يجزي بمثقال ذرةِ خيرٍ خيراً، ويا من يجزي بمثقال ذرةِ شرٍ شراً، أجر عبدك النعمان من النار، وباعد بينه وبين ما يقربه منها".

    ^ من مناقبــه:

    الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كان من أكثر من عرف الفضل للإمام أبي حنيفة، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه. فقد جاء في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الإمام أبي حنيفة أن الشافعي قال: قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم. رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. وهذه شهادة من الإمامين مالك والشافعي بمكانة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ونقل عن الإمام الشافعي قوله : «من أراد أن يتبحر في الفقه، فهو عيال على أبي حنيفة». وفي رواية أخرى: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة".

    ^ ولعه بالفقه الفَرَضي:

    أولع أبو حنيفة بالفقه الفرضي بخلاف معظم علماء عصره الذين كانوا يقولون: نحن مضطرون أن نُعَلِّم حكم الله في أمرٍ حصل، أمّا إذا لم يقع لا نحمِّل أنفسنا هذه المؤونة. ومعظم شيوخ أبي حنيفة كانوا على هذا المنوال؛ فقد كانوا يفترضون وقوع المسائل ويفترضون لها الحلول. وإن وُجِدَ فيهم من استجاز لنفسه أن يتوسع قليلاً فإلى حد محدود جداً. وأبو حنيفة كان على النقيض؛ إذ كان يفرض الوقائع وإن لم تقع، وكان يتأمل في حكمها و يعطي كلاً منها فتوى.

    هذا الأمر أعطى فقهه غزارة وغنى ومدعاة لأن يتبع الناس الفقه الأوسع والأكثر استجابة لواقع الحال، فما لم يقع اليوم سيقع غداً لاسيما عندما يكون هذا الإمام عالماً بعلم الاجتماع و خبيراً بالمشكلات التي ستنجم.

    مثال ذلك: لقي أبو حنيفة قتادة رضي الله عنه وهو عالِم من أجلِّ علماء الحديث، فسأله الإمام أبو حنيفة: ما تقول في رجل غاب عن أهله أمداً طويلاً ولم يُعرَف مصيره، فتزوجت امرأته من زوج آخر، وبعد حين جاء زوجها، ما تقول في هذا؟ قال قتادة: أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، فقال له و قد ظهر الغضب على وجهه: فلماذا تسألني عنها؟ قال له هذا الكلام المهم: "إننا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه".

    ^ منهجه العلمي:

    لقد اتُّهِم الإمام أبو حنيفة كثيراً بأنه يُعمِل العقل على حساب الأثر (يقدّم القياس على الحديث)، لذلك ينبغي أن نوضّح هذه المسألة؛ حتى نزيل اللَّبس من أذهان كثير من الناس.

    كان الإمام أبو حنيفة يقول: "آخذ ما في كتاب الله وبما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما أشترطُ زيادة على الصحة الشهرةَ فيما تقتضيه الشهرة في الأحكام والمسائل، فإن لم أجد آخذ بقول الصحابة، فإن لم أجد آخذ بقول من شئتُ منهم وأدع قول من شئتُ منهم عندما يختلفون، ولكني أُلزِم نفسي بالأخذ من الصحابة، وإن لم أجد وآل الأمر إلى إبراهيم النخعي وإلى التابعين كالأوزاعي، فإني أجتهد كما اجتهدوا، ولا ألزم نفسي باتِّباع رأي واحد منهم ما دام الأمر اجتهادياً".

    إذاً فهو قد رتّب منهجه الفقهي على القرآن أولاً، ثم الصحيح المشتهر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقوال الصحابة يتخيّر منها، ثم يأخذ بآراء المجتهدين ويجتهد كما اجتهدوا مستخدماً القياس والاستحسان والعُرف، وهذا من خواصّ مذهبه رحمه الله تعالى.

    *صفات منهجه:

    أ- الأخذ بحديث الآحاد والعمل بها ما أمكن:

    مثال: قوله تعالى:[]...فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ... [] سورة المزمل (20). وحديث النبي عليه الصلاة و السلام يقول: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". متفق عليه. فحكم أنَّ أصل قراءة القرآن في الصلاة ركن، أمّا تقسيم القراءة للقرآن الكريم إلى الفاتحة وبعض ما تيسر من القرآن فواجب، وبذلك عمل بالقرآن والسنة معاً. وكذلك الطمأنينة في الركوع ليست فرضاً عند أبي حنيفة لإطلاق قوله تعالى:[]...وَارْكَعُواْ...[]. أمّا الطمأنينة فثابتة بخبر الآحاد لذلك هي عنده واجبة.

    ب- تقديم السنّة القولية على الفعلية:

    لجواز أن يكون الفعل خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما نراه كثيراً فيما نُقل عن شمائل النبي عليه الصلاة والسلام وصفاته وأحواله، وأخباره أنه كان ربما صلى الضحى وترك، وربما صلى التراويح وترك؛ حتى لا تُفرض على غيره من الناس، وما هو سنة بالنسبة لنا ربما يكون فريضة أو بحكم الفريضة والواجب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك كان الإمام أبو حنيفة يقدم السنة القولية لأن فيها عموماً، أما السنة الفعلية فيرى فيها شيئاً من الخصوصية بعمل النبي صلى الله عليه وسلم.

    جـ- تقديم السنّة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما:

    كالجمع في السفر حيث قال: إنه جمع صوري. وهكذا كان يفعل عبد الله بن عمر. أبو حنيفة لا يجيز للمسافر أن يجمع بين الصلوات ولكن القصر عنده واجب. إنما أخذ بهذا القول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وغيره من الأئمة.

    ويقدِّم السنّة - ولو حديثاً مرسلاً أو ضعيفاً - على القياس، لذلك قال بنقض الوضوء من الدم السائل معتمداً على حديث مرسل، وكذلك نقض الوضوء وبطلان الصلاة بالقهقهة أيضاً بحديث مرسل.

    ء- الاسـتحسـان:

    الاستحسان لغةً هو وجود الشيء حسناً، ومعناه طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمورٌ به كما قال تعالى:[]...فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...(18)[] سورة الزمر.

    أما اصطلاحاً فهو عند الفقهاء نوعان:

    1- هو العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع مدلولاً إلى آرائنا نحو قوله تعالى:[]...مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ[] سورة البقرة (236). أوجب ذلك بحسب اليسار والعسرة، وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أنَّ المراد ما يُعرَف استحسانه بغالب الرأي ولا خلاف في هذا النوع.

    2- هو الدليل الذي يكون معارضاً للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إمعان التأمّل فيه، وبعد إمعان التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الأصول يظهر أنَّ الذي عارضه فوقه في القوة فإنّ العمل به هو الواجب، فسمّوه بذلك استحساناً للتمييز بين هذا النوع من الدليل و بين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام.

    هـ- العُرْف والعادة:

    هو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول. وإنما يكون العرف دليلاً إن لم نجد دليلاً من كتاب وسنة. قال ابن مسعود: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن".

    وللإمام ابن عابدين رسالة مستقلة سماها "العرف" تضمنت مسألة تضمين الخياط و الكواء (و مثالهما إذا أحرقا القماش أو أضاعاه).

    وأبو حنيفة هو أساس من جمع بين مذهبي أهل الحجاز أهل الحديث وأهل العراق أهل الرأي. كان أبو حنيفة من علماء الرأي و لكنه ذهب إلى الحجاز و أقام في مكة ست سنوات يأخذ العلم من علماء الحجاز أمثال عبد الله بن عمر... دخل يوماً أبو حنيفة على المنصور فقال له أحد الجالسين: هذا عالِم الدنيا اليوم. فقال له المنصور: يا نعمان! من أين أخذتَ علمك؟ قال: من أصحاب عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر (أهل الحديث)، ومن أصحاب عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس، ومن أصحاب عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود (أهل الرأي والاجتهاد). فأبو حنيفة رحمه الله تعالى خرق الحدود الفاصلة بين المذهبين، وجمع بين المدرستين؛ مدرسة أهل الحجاز وهي مدرسة المحدِّثين، ومدرسة أهل العراق وهي مدرسة أهل الرأي. وربما كان هذا الأمرُ السببَ الذي أدى إلى انتشار مذهب الإمام أبي حنيفة في الدنيا، وأنه كما قال بعض أهل العلم: "بلغ ثلثي الدنيا". أي إن أكثر من ثلث العالم الإسلامي اليوم يتّبع مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

    عندما ذهب إلى أهل الحجاز تعلم منهم الحديث، وتعلموا منه كيفية استخراج الأحكام فاستفاد وأفاد. وانعكس هذا الأمر على تلامذته مثل "أبو يوسف" و"محمد بن الحسن الشيباني" وغيرهم...

    وكان لإخلاصه في طلب العلم يرجع عن رأيه إذا اطلع على حديث أو فتوى صحابي.

    ^ أسباب انتشار مذهب أبي حنيفة واتباع الناس له في شرق الأرض وغربها:

    إن هذا المؤتمر الذي نتحدث فيه عن مكانة الإمام أبي حنيفة وآثاره معقود في دولة "طاجكستان" في شمال الأرض، وإن أهل هذه البلاد كلهم يَدينون الله تعالى بمذهب الإمام أبي حنيفة، وإذا ذهبنا إلى "أندونيسيا" في أقصى الشرق سنجد أن هناك أيضاً من يَدين الله تعالى بمذهب الإمام أبي حنيفة إضافة للمذاهب الثلاثة الأخرى المنتشرة أيضاً هناك، لكن مذهب الإمام أبي حنيفة قد انتشر انتشاراً كبيراً بخلاف مذهب معاصريه أمثال "الأوزاعي" و"عطاء بن أبي رباح" و"إبراهيم النخعي" وهم شيوخ أبي حنيفة، وذلك لعدة عوامل نذكر منها ما يلي:

    أ- كثرة تلامذته الذين أخذوا العلم عنه:

    فقد أخذ الفقهَ عن أبي حنيفة أربعةُ آلاف شيخ من التابعين، وأفتى في زمن التابعين.

    ب- تدوين مذهبه من قِبل تلامذته:

    قيَّض الله تعالى لأبي حنيفة تلاميذ كانوا في الوقت نفسه من فطاحل العلماء وقد دوَّنوا آراءه و فتاويه واجتهاداته بخلاف باقي الأئمة في عصره؛ فالإمام أبو يوسف دوَّن فقه أبي حنيفة في الكتب ووضع فقه الخراج. وكذا فعل الإمام محمد بن الحسن الذي دوَّن كل فقه الإمام أبي حنيفة والاجتهادات الأخرى حتى التي تراجع عنها، وهناك كتب تُسمّى كتب "ظاهر الرواية" كلها للإمام محمد. وقام كلٌّ من أبي يوسف ومحمد بجمع الأحاديث التي يرويها الإمام في فتاويه كمستندات لفقهه مثل كتاب الآثار وكتب أخرى وأحاديث كثيرة موزَّعة في هذه المدونات. وكذلك الإمام زُفر بن الهذيل فقد دوّن المسائل الخلافية كلها التي دارت بين الإمام وأصحابه وتلامذته.

    ولقد كانت طريقة أبي حنيفة في التعليم متميّزة، إذ كانت مبنيةً على السؤال والإقناع برأي، ثم قوله: "ولكني أرى غير هذا". ويُعَلِّم أصحابَه طرق الفتوى، وأساليب التفكير، ووسائل الاجتهاد بعد أن يُقنعهم بالمسألة. وهكذا كان يُفَتِّق أذهانهم، ويقوِّي حججهم، ويجعلهم يتمسّكون بمجلسه ولا يجدون عن ذلك غُنيَة أبداً.

    وأبو حنيفة هو أول من رتب مسائل الفقه حسب أبوابها من طهارة وصلاة... فقد كانت أبوابه مرتبة بتسلسل منطقي بحيث تُسهّل على دارس فقه الإمام أبي حنيفة تلقّيه العلم بأسلوب مقبول يَرسخ في الأذهان. وقد دوَّن هذه المسائل الإمام أبو يوسف - في غالب الأحيان - في سجلات حتى بلغت مسائله المدونة خمسمئة ألف مسألة. هذا كله لما كان الفقه مجتمعاً (أي يُقرَأ بالكلّية)، فكيف به اليوم وقد فُصِّل، وبُوِّب، وشُرح، وكتبت حوله الحواشي والمطوّلات.

    انتقل تلامذته الفحول البالغون 730 شيخاً إلى بلادهم خاصة بلاد الأفغان وبخارى والهند... فشرَّق فقه الإمام أبي حنيفة وغرَّب وشمأل وجنَّب، حتى ليّعُدّ الإمام علي بن سلطان القاري المتوفى سنة 1014 هجري ثلثي المسلمين في العالم على مذهب الإمام أبي حنيفة.

    جـ- تهيئه الله تعالى لهذا المذهب أن يُحكم به في الدولة العباسية:

    فالإمام أبو يوسف كان قاضياً، وقد تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي والهادي وهارون الرشيد. وسُمّيَ بعد ذلك قاضي القضاة، وكان - وهو حنفي - يقضي بمذهب أبي حنيفة، وكذلك كان أغلب القضاة الذين يُنَصَّبون في هذا المنصب ممن يقضون بمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، والمدونات التي كانت تُدَوَّن في دار الخلافة كانت تدوَّن على مذهب أبي حنيفة، كل هذا وغيره جعل فقه الإمام أبي حنيفة ينتشر أكثر من فقه من سبقه أمثال الأوزاعي وجعفر الصادق وغيرهم...

    ^ تأديبه لتلميذه أبي يوسف:

    يروى أن الإمام أبا حنيفة كان يحرِص على تلقين طلابه العلم، وكان في مجلسه تلميذه النجيب أبو يوسف "يعقوب بن إبراهيم"، فلمَّا مرض أبو يوسف مرضاً شديداً قال أبو حنيفة: "لئن مات هذا الغلام لم يَخْلُفْهُ أحد على وجه الأرض". فلمّا عوفي أُعجِبَ بنفسه بعد أن نُقل له هذا القول، فعقد لنفسه مجلساً في الفقه، فانصرفت وجوه الناس إليه، فلمّا بلغ ذلك أبا حنيفة قال لبعض من عنده: "اذهب إلى مجلس يعقوب (يعني أبا يوسف) وقل له: ما تقول في قصّار دفع إليه رجل ثوباً ليقصِّره بدرهمين، ثم طلب ثوبه فأنكره القصّار، ثم عاد له وطلبه فدفعه له مقصوراً، ألَهُ أجرة؟ فإن قال نعم قل له أخطأت، وإن قال لا قل أخطأت". فسار إليه الرجل فسأله فقال نعم له أجرة فقال له أخطأت، فنظر ساعة فقال لا، فقال أخطأت، فقام من ساعته لأبي حنيفة فلما رآه قال: ما جاء بك إلا مسألة القصّار. قال: أجل. قال: "سبحان الله! من قعد يفتي الناس وعقد لنفسه مجلساً يتكلم في دين الله تعالى لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات فهذا قدره[1]. فقال: علِّمني، قال: إن كان قصَّره بعد ما غصبه فلا أجرة له لأنه قصَّره لنفسه، فإن قصَّره قبل غصبه فله الأجرة لأنه قصَّره لصاحبه. فقال أبو يوسف: "والله لا أترك مجلس أبي حنيفة بعد اليوم أبدا!". عرف قدر الإمام أبي حنيفة ومكانته، ورأى أن طالب العلم لا يستطيع أن يتخلى عن مجلس شيخه، فمهما تعلّم فهو بحاجة إلى مزيد من العلم.

    ^ أهم مؤلّفاتـه:

    ألَّف أبو حنيفة كتاب "الفقه الأكبر" الذي بيَّن فيه عقيدة المسلمين الصحيحة، وردّ فيه على المبتدعة والمحرِّفة؛ إذ كان له معاصِرون من الفرق المبتدعة؛ كالمُرجِئة، والمجسِّمة، وغيرهم من أصحاب الفرق ومن أشهرها المعتزلة. ونُقِلَ أنَّ له مسنداً وهذا المسند من جمع أبي يوسف عن أبي حنيفة سماه "الآثار ".

    لا يمكننا في عجالة أن نحصي كل ما أُثر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أو أن نجمع ونفصّل القول في فقهه، فقد كُتِب في ذلك الكتب، وأُلِّفت المؤلّفات والمطوَّلات.

    ^ أقوال معاصريه فيه:

    أ- الفضيل بن عياض:

    قال فيه: "كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسعَ المال معروفاً بالأفضال على كل من يطوف به، صبوراً على تعلُّم العلم بالليل والنهار، حَسَنَ الليل، يقوم الليل (وهذا شيء معروف عنه)، كثير الصمت، قليل الكلام حتى يرِد مسألة في حلال أو حرام". وهذا أمر عجيب من الإمام رحمه الله تعالى.

    ب- عبد الله بن المبارك:

    هذا العالِم الكبير والتابعي الجليل يقول: "كان أبو حنيفة مُخَّ عِلمٍ أو مخَّ العِلمِ أي كنت تأخذ منه لُبابَ العلم".

    جـ- مالك بن أنس:

    قال عنه: "لو جاء إلى أساطينكم فقايسكم على أن هذه السارية من خشب لظننتم أنها خشب، وإذا قال هي من ذهب لظننتم أنها ذهب".

    ء- الإمام زُفَر:

    قال: "جالستُ أبا حنيفة أكثر من عشرين سنة، فلم أرَ أحداً أنصحَ للناس منه ولا أشفقَ عليهم منه، بذل نفسه لله تعالى، أمّا عامة النهار فهو مشتغل في العلم وفي المسائل وتعليمها وفيما يُسأل من النوازل وجواباتها، و إذا قام من المجلس عاد مريضاً (أي زار) أو شيَّع جنازة أو واسى فقيراً أو وصل أخاً أو سعى في حاجة، فإذا كان الليل خلى للعبادة و الصلاة و قراءة القرآن، فكان هذا سبيله حتى توفي رضي الله تعالى عنه".

    - أجمع علماء عصره على أنه لم يجتمع لأحد غيره في ذلك العصر ذكاء و قوة بادرة وعلم وقوة استنتاج.

    - كان أبو حنيفة في زيارة شيخه الأعمش يوماً (والأعمش من كبار المحدِّثين)، فجاء إلى الأعمش رجل يسأله عن مسألة في العلم فقال لأبي حنيفة: أجِبْه. فأجابه، فقال له: ومن أين لك هذا؟ قال: من حديث حدثتَنيه هو كذا وكذا . فقال له الأعمش: "حسبُك ما حدَّثتُكَ به في سنة تُحَدِّث به في ساعة، أيها الفقهاء! أنتم الأطباء ونحن الصيادلة".

    رحم الله أبا حنيفة، ورحم شيوخه والأئمة المجتهدين والعاملين، ونَفَعَنا بهم وبعلومهم، وحَشَرَنا الله وإياهم في مقعد صدقٍ عند عزيز مقتدر.

    اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



















    --------------------------------------------------------------------------------


    [1] أي أن يعود إلى شيخه ويتعمّق في المسألة.




المواضيع المتشابهه

  1. شبهة الأطوار الثلاثة لأبى الحسن الأشعرى / فوزى العنجري
    بواسطة Omarofarabia في المنتدى منتدى الفكر الإسلامي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-Aug-2010, 03:04 AM
  2. حكم التوسل عند المذاهب الأربعة
    بواسطة ابومحمد في المنتدى عالم الأحكام الفقهية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 13-Jul-2010, 03:34 PM
  3. الإمام أبو الحسن الأشعري يقلم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
    بواسطة المعتصم بالله في المنتدى منتدى الفكر الإسلامي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 13-Jun-2010, 12:27 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •