أ.د. محمد سعيد رمضان البوطي


‏‏‏‏الجمعة‏، 04‏ محرم‏، 1432 الموافق ‏10‏/12‏/2010

معالم الهجرة ودعاء الاستسقاء

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

بالأمس تلاقى آخر يوم من عام هجري مضى وأول يوم من عام هجري أقبل، تلاقيان كما يتلاقيان في كل عام في جوٍّ صامتٍ متواضع. إنما عبَّرَتْ العطلة التقليدية التي تمر في كل عام بهذه المناسبة عن الابتهاج به وعن الاحتفال فيه، ولَوَدِدْتُ أن لو كان هذا الصمت صمت تواضع، أن لو كان هذا الصمت صمت خشيةٍ وخشوعٍ وإقبال إلى الله سبحانه وتعالى إذاً لكان في ذلك ما يقربنا إلى الله عز وجل زلفى، ولكنه – كما تعلمون – صمت إعراض، صمت يعبَّرُ عن اللامبالاة.

ومعلمة الهجرة معلمة كبيرة كبيرةٌ في تاريخ أمتنا الإسلامية يا عباد الله، معلمة الهجرة هي الفيصل بين عهدٍ من الفقر والضنك والشرود وعهدٍ من الغنى والعزة المجد لهذه الأمة، هي فيصل بين عهد من التفرق والضيعة والهوان والاستخذاء وعهدٍ من النصر والتوفيق والغنى والسؤدد والنصر. معلمة الهجرة – يا عباد الله – هي المعلمة التي تبرز فيها الساعة التي وُلِدَتْ فيها هذه الأمة وولِدَتْ فيها دولة الإسلام، لم يكن للعرب قبل ذلك وجود إنما كان وجود قبائل تتعارض وتتخاصم وتتحارب. أمة الإسلام إنما وجِدَت وولِدَتْ مع هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. دولة الإسلام إنما ولدت مع استقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. فيا عجباً كيف تعتز أمة بتاريخها وبوجودها الحضاري ثم يمر هذا اليوم؛ يومٌ نستقبل فيه عاماً هجرياً جديداً دون التفات إليه، دون اهتمام به. إن هو إلا عطلة تقليدية وربما تبعتها كلمات تقليدية أيضاً. لا أريد أن أقارن بين هذه المناسبة ومناسبات أخرى لأني لا أريد أن نزيد مشاعرنا ألماً وحزناً، ولكني أريد أن أقول: أفحجبت هذه الأمة عن تاريخها؟ أفحجبت هذه الأمة عن معين عزتها؟ أفحجبت عن معين نصرها؟ أفحجبت عن معينها الحضاري الذي تلألأ في العالم كله وكسف شمس الحضارات الزائفة الأخرى.

عباد الله: لا أريد أطيل في أمرٍ الحديثُ فيه ذو شجون ولكني أريد مني ومنكم أن نتأمل في هذه المناسبة فنقتطف ولو عبرة واحدةً من العبر الكثيرة التي تتزاحم في معلمة هذه الهجرة، هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة. إنها تحدثنا قائلة إن الأمة لا يمكن أن تتبوَّأ ساحة النصر ولا يمكن أن ترتفع إلى ذرى المجد إلا إن ضحَّتْ بأموالها وأوطانها وكل ممتلكاتها المادية في سبيل المعتقد الصحيح، في سبيل المبادئ والقيم. إن هي فعلت ذلك أعاد الله عز وجل إليها أوطانها المسلوبة وأعاد إليها المال الذي تبخر وضاع بحسب الظاهر وأعاد إليها ثرواتها مضروبة بأضعاف أضعاف. أما إن كانت من الغباء بحيث فُتِنَتْ بالمال الذي تحت يدها، فُتِنَتْ بالأرض التي تمشي فوقها، فتنت بالقصور والأوطان ثم أهملت المبادئ، أهملت القيم، أهملت المعتقد المتفق مع حقائق الكون والإنسان والحياة فلربما فرحت هذه الأمة أياماً معدودة بالمال الذي تمتلكه، فرحت بالأرض التي تغدو وتروح فوقها ولكن المال سيذهب مع ذهاب القيم، ولكن الثروات تذهب مع ذهاب المعتقد والقيم، ولكن النصر لابد أن يتحول إلى خذلان مع ذهاب ضمانات ذلك من المبادئ والقيم. هكذا تنطق معلمة الهجرة – هجرة المصطفى - من مكة إلى المدينة. ألم يضحي ذلك الرعيل الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمال الذي يملكون؟ ألم يضحوا بالأوطان التي كم كانت نفوسهم متعلقةً بها؟ ألم يضحوا ببقايا الأرحام حتى. . في سبيل المبادئ التي آمنوا بها، في سبيل المعتقد الذي اعتزوا به، في سبيل التمسك بالعهد الذي أخذوه على أنفسهم تجاه مولاهم وخالقهم سبحانه وتعالى؟ أفضيعهم الله عز وجل بعد ذلك وقد آثروا الباقي على الفاني، آثروا مرضاة الله سبحانه وتعالى على كل ما دون ذلك؟ ألا تعلمون، ألا تذكرون أن الله عز وجل أعاد إليهم أوطانهم كما كانت وأعاد إليهم معها أوطاناً كثيرة أخرى؟ ألا تذكرون، ألا تعلمون أن الله سبحانه وتعالى أعاد إليهم أموالهم وأضعاف أضعاف ذلك، أغناهم بعد فقر، وحَّدهم بعد تفرق، نصرهم بعد خذلان. ما هي القيمة التي بذلوها في سبيل ذلك؟ إن القيمة لم تكن إلا هذا الذي ذكرت لكم أيها الإخوة. ابتلاهم الله عز وجل وامتحنهم. أيؤثرون الفاني على الباقي أم يصدقون الله عز وجل فيما عاهدوه عليه؟ فكانت النتيجة أن نجحوا في الابتلاء. أعرضوا عن الوطن، أعرضوا عن المال، أعرضوا عن المدخرات، أعرض كل واحدٍ منهم عن مسقط رأسه وكم كان وكان يحن إليه لكن حنينه إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى كان هو المتغلب.

هذه العبرة كافيةٌ أيها الإخوة، ليت أنَّا نقتطفها سلوكا ولا نلوكها كلمات نرددها كما أرددها الآن في المناسبات. نحن ابتلينا أيها الإخوة بذلٍ بعد عز، ابتلينا بفرقة بعد وحدة وتآلف، ابتلينا بخذلان بعد نصر لكن إلام يعود ذلك كله؟

دعوني ممن يسجن نفسه بين جدران المعاني المادية المحصورة بل يسجن عقله في دائرة المعالم المادية التي هي جندٌ من جنود الله عز وجل، دعوني من هذا، ولكن تعالوا إلى الفضاء الرحب، تعالوا إلى المنطق، تعالوا إلى ما يقوله التاريخ، تعالوا إلى ما تقوله العبرة. العبرة تنطق بهذا الذي ذكرت لكم. وليس بيننا وبين أن يتحول فقرنا إلى غنى وأن يتحول شتاتنا وتفرقنا إلى تضامن واتحاد، ليس بيننا وبين أن يتحول خذلانا إلى نصر إلا أن نعود إلى النهج الذي ألزم به أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أنفسهم.

لقد كانت معجزة النصر التي أدركت ذلك الرعيل الأول أضعاف وأضعاف المعجزة التي ننتظرها والتي ستتحقق إن نحن سرنا على النهج الذي سار عليه أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم. هذه العبرة أذكِّر نفسي وأذكِّركم بها. ولقد ألزم الله عز وجل ذاته العلية عبادَه الذين يسيرون في هذا المنهج أن يجعلهم يتبوءون قيادة العالم، يتبوءون أعلى المناصب والرتب بين الأمم وبين الحضارات المختلفة.

(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل : 97].

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) [النور : 55].

هذا كلام الله عز وجل، كلام ربنا الذي لا يلحقه خلف قط.

وبعد – يا عباد الله – تعلمون أننا قد دُعينا إلى إقامة صلاة الاستسقاء في هذا اليوم، ونظراً إلى أن ميعاد هذه الصلاة متداخلة مع صلاة الجمعة كما ترون فلسوف نسير في تنفيذ هذا الذي دعينا إليه على النحو التالي: ستكون الخطبة الثانية خطبة استسقاء، ننفذ فيها السنة المأثورة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ونكثر من الالتجاء إلى الله عز وجل بالتضرع والدعاء ثم إننا نصلي كالعادة ركعتي الجمعة ثم نتبعهما بركعتي صلاة الاستسقاء وهي كصلاة العيد تماماً ليس بينهما أي فرق، وهكذا نكون قد جمعنا بين هاتين العشيرتين، صلاة الجمعة التي تحتضن في الوقت ذاته صلاة الاستسقاء.

أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لأن نفتح قلوبنا طاهرة من الشوائب نقية من التعلق بالسوى وأن نتوجه بها منكسرة ذليلة إلى مولانا وخالقنا عز وجل ونحن نعلم يقيناً أننا لسنا أهلاً لاستجابة الدعاء ولكن كرم الله لا يحده شيء أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.