حلب... ملهمة الشعراء العرب...بقلم محمود أسد
لكل مدينة خصوصيتها وقدرتها على احتضان الوافدين إليها، ولحلب سحرها في انتزاع الحب والإعجاب، فكانت عبر تاريخها الممتد مبعث الإعجاب، وملاذ القوافي الساحرة...
فيها ذرات كثيفة من كيمياء الحب والفتنة.. تاريخها سجل حافل طباعها آثرة، خصوصيتها في العلاقات الاجتماعية لافتة وفاتنة. تحكي عنها موائدها وأعراسها وحماماتها ومساجدها وقلعتها..لا عجب إن سحرت ألباب الشعراء الوافدين والمقيمين وسحرها، وجمالها ومعالمها.
تغنّى بها أبناؤها قديماً وحديثاً، وحفرت سحرها وفتنتها في قوافي الشعراء العرب المعاصرين، هؤلاء الشعراء الذين وفدوا إليها في مناسبات وطنية وقومية واجتماعية مختلفة، ولكنهم لم يستطيعوا تجاوزها وإدارة الظهر عنها بل كانت ملهمة لهم بأبدع القصائد وأجملها.
هذه القصائد التي تناثرت في الدواوين وكتب الدراسات وإعداد مجلة الضاد الحلبية والصحف، وكلها شكلت روافد دراستي، والمدن الملهمة للإبداع قليلة في مقدمتها حلب ودمشق والقاهرة وبغداد.. وهذا يبرز العلاقة بين الإبداع وجلال المكان وما يحويه من منشطات تثير قريحة المبدعين. حلب تملك هذه القدرة فاقترب منها الشعراء وغازلوها إعجاباً وحباً فلم يخفوا بهجتهم وسرورهم، فالشاعر الدكتور حسن إسماعيل من مصر أطلق لشعره العنان قائلاً:
إني أحب حبيبتي " حلبا " ... والشوق يشعل مهجتي لهبا
شهباء يا امـلا يراودني ... أشعــلت فــي آفاقنــا الشهبا
شهباء يا فلاً يعطـــرني ... وأريجه المعطار كـم سكبا
فلديك يحيا الفـــن مؤتلقاً ... أحييت فينا الشعــر والأدبا
أمجادك التاريــخ خلدها ... أسفـاره قرأت لنا العجبـــا
ثم يشير إلى بطولة سليمان الحلبي الذي مزج دمه بتراب مصر وهو يواجه القائد الفرنسي كليبر:
بطـــــــل لدينا فيــك منبته ... طعن الغشوم مقطعا إربا
قد هب من حلب إلى مصر ... بعروبة الإســلام منتسبا
روى دماه تربـها عطــــراً ... فدم الشهيد يعطــر التربا
ذكرى سليمــان تعـــاودني ... هل عادنا فيوحـد العربـا
فالإحساس القومي بوحدة الدم والهدف والنضال تحلى بالقصيدة وهذا يدل على وعي قومي متأصل في نفوس الشعراء والأدباء فلم تعقه الحواجز والحدود ومن السعودية انطلق صوت الشاعر السعودي خالد الخنين والذي يعمل في السلك الدبلوماسي السعودي في دمشق زار حلب وألقى فيها قصائده فانتزعت منه هذا الحب والاعتراف الذين صاغهما شعراً جميلاً معبراً:
أتيــــت أستلهــــم التــاريـــخ والحقبـــا ... وأنشد الظرف والأمجاد والأدبا
أليـــــــس قبلي شـــــدا بالشعـــر قائله: ... وإن خلقــــت لها إن لم تزر حلبا
يا ملعب الصيد من حمدان كم صدحت ... لك القوافـي فكنت النجم والشهبا
وتعلو قامة الشعر والشاعر إعجاباً بماضي هذه المدينة وبطولاتها وحاضرها الواثب:
قلاعك الشـــم ما ذلـــت ولا وهنت ... تطاول الدهــر والأنواء والسحبا
شهبــــــاء ما لبــــس التاريـخ حلته ... إلا وكنـــت له التيجان والذهــــبا
ولا تغنى على الأيــــام في طـــرب ... إلا وكنت عروس الشعر والأدبا
ما سطـــر المتنبــــي وحيـــه أبـــداً ... إلا وفيك، فأبـــدى البدعـة العجبا
يا معجز الشعر، ما أخبارها حلب؟ ... وأين خيـل بني حمـــدان والقضبا
والقصيدة طويلة وحافلة بذكر أعلام حلب ومآثرها، فالشاعر يطرب ويشدو لهذه المكانة الممتدة في سفر التاريخ:
هنا العراقة والأنساب طيبة ... واليوم تحفر في أعماقنا النسبا
وقد كرم شاعر الأرز ((شبلي الملاط)) في حلب وذلك أثناء زيارته في 26/5/1934 فألقى قصيدة مؤثرة في النفوس تعبق منها قوافي الشعر وصوره الجميلة ومعانيه السامية:
وددت لو أن في الشهباء داري ... إذا أزمعت عن وطني ارتحالا
وإن جار الزمــــان علـيّ فيـــه ... فلست أرى سوى حلــــب مآلا
ويعبر عن ألمه إن غادرها بعد هذه الزيارة الجميلة:
بني أمّــــي يعــــز عليّ أني ... أشدُّ غداً إلى الوطــــن الرحالا
وكنت أحب لو يومي تمادى ... وليلي امتـــد بينـــــكم وطــــالا
يميناً قد شغفـــت بكم، وكنتم ... بعيني في محيّا الحســــن خالا
وكنتم خير من كرموا نفوسا ... ومن طابوا ومن شرفوا خلالا
إن شاعرنا لم يحجب مشاعره، ولم يخف انطباعه وآماله وهو يودع هذه المدينة.
وقال الشاعر اللبناني المغترب إلياس فرحات وهو يكرم في حلب،.......
يا أبا الطيـــــب في الشهباء من روحك نار ... لم يزل منها على أرواحنا يهوي شرار
أكؤس الشهباء ما زاـــــلت على الناس تدار ... وهي من شعرك فيها لا من الكرم العقار
يا بني الشهباء يا من بأبي الشعر استناروا ... داركم في دورة التاريــــخ للأمجــــاد دار
أي عصر مالــــــها فيــه نمـــــــو وازدهار ... أي حرب مالكم فيــــــها بلاء وانتصـــار
صفاء القريحة، ونقاء الفكرة، تتجلى في هذه القصائد التي تعتبر شهادات خالدة.
وللشاعر اللبناني الأخطل الصغير قصيدة رائعة في حلب، وتعتبر من درر القصائد فيها وقالها بمناسبة زيارته حلب:
نفيت عنك العلى والظــرف والأدبا ... وإن خلقت لهــا إن لم تزر حلبا
خير الطريق الذي يرضى الفؤاد به ... ولا تخف فقديمـــاً ماتت الرقبا
لو ألف المجــــــد سفراً عن مفاخره ... لراح يكتــب في عنوانـــه حلبا
لو أنصف العرب الأحرار نهضتهم ... لشيدوا لك في ساحاتها النصبا
ملاعب الصــيد من حمدان ما نسلوا إلا الأهلة والأشبــــال والقضبا
ثم يشير إلى سيف الدولة ومواقفه وإلى سيف الشعر ( المتنبي ):
ماجرد الدهــــر سيفاً مثل ((سيفهم))... يجري به الدم أو يجــري به الذهبا
ربّ القوافي على الاطلاق شاعرهم ... الخلد والمجـــد في آفاقــه اصطحبا
سيفان في قبضة الشهبـــاء لا ثلمــا ... قد شرفا العرب بل قد شرفا الأدبا
فالشعراء قرؤوا الماضي، واستحضروا الأمجاد والشعراء والفن فكانت مبعث إلهامهم الشعري الجميل في هذه المدينة التي مازالت تجود بالحب والعطاء. وهناك الكثير من القصائد التي أوحت بها حلب للشعراء العرب فخليل مطران في زيارته حلب قال:
أي هـــــذه الشهبــــــاء .... والحسن في ذلك الشهب
حبـــذا في ثـــــراك ما .... فيه من عنصر الشهب
ذلـــك العنصــــر الذي .... ظل حــــراً ولم يشـــب
عنصراً قد أصاب منه .... ابن حمــــدان مـــا أحب
وبــه ((أحمد)) ارتـقى .... ذروة الشعر في العرب
فيشير بأحمد إلى المتنبي، وبابن حمدان إلى سيف الدولة .
وقد أشاد الشاعر المصري محمد عبد الغني حسن بالشهباء وذلك في حفل تكريم المحامي فتح الله الصقال:
أيــــن المنابر في الشهباء قائمة ... و أين في أمسها التاريخ والأدب
وأيــن ملك بني حمدان مزدهرا ... يسيل منه علــــى أعطافها الذهب
ما سميت حلب الشهباء عن ثقة ... إلا لأنــــكم فــي جــوها شهـــــب
هي العروبة قربى بيننا، وكفى ... إنا إلى العـــــرب الأحرار ننتسب
هذي حلب ملهمة المبدعين وسحر فاتن لأعين وأفئدة الزائرين وشعر ثري عبق يقيم الخير والحب والجمال.
المفضلات