إلى شهبائنا (2)
ما كنت أظن أنني أستطيع أن أرسمك بحروفي المبعثرة على أرصفة الذاكرة ، مختبئة خلف جدار النسيــــان ، متجلببــــة بجلباب الاختزال ، حيث اختزلت تاريخ كل من مر على مرآة جدرانك ، فلا أدري أنا الذي أثور البراكين فيك ، أم انــــــت التي تفجرين نيران الانعتاق في كلماتي فتثور على الزمـــان والمكان وتجتاز السهول والهضــــــاب لتعانق سمـــاءك وتستمطر غيث حضورك .
أياً كان ذلك منك أم مني فإنني سعيد أن أنفض غبار الأيام وتراكم السنين عن طيفك الجميل الذي يمر كحلم طفل صغير
على متن الذاكرة وعليها كل شروح اللحظات التي لقنتني إياها ، لم تكذب مرة واحدة علي لأنك تعلمين أنني سأقرأ الحقيقة في جدران أزقتك وعلى صفحات شوارعك وعلى أوراق أشجارك وعلى قطرات أمطارك وتساقط ثلوجك .
زرت مدناً كثيرة مكسوة بأبهى حلة لتسرقني منك أو لتسرقك مني تحاول إخمادآخر جذوة في موقد الذاكرة وتريد تظفر بآخر قطرة من ثمالة كأسك
أنا ما رويت بما سقيت فهل بكأسك من ثماله
إنها حقاً مدن ساحرة ولكنها لم تسحرني لأن الخاتم الذي سحرت به كان في منعطفات أروقتك وتساقط أرواق أشجار خريفك ، ونسيم ليلك وفي قطرات الندى المتسلقة أزرار ورودك .
لسبب ما ما زلت أشتاق إلى تلك اللحظات التي أجلس فيها خلف النافذة لأراقب قطرات المطر وهي تصافح حبات ترابك حيث يسرع الناس الخطى خوفاً من أن تبتل ملابسهم أو تتغير تسريحة الشعر لديهم يقفزون كالفراش حتى لا تغرق أحذيتهم بالمياه التي فاصت بها الحفر المنتشرة في الشارع
لسبب ما ، أجد نفسي بلا عنوان وبلا ألقاب وبلا أسماء لأنك عنواني الوحيد ولأنك ألقابي وأسمائي .
يا مدينة اختزلت تاريخاً طويلاً بين طياتها ، جمعت أصنافاً متناقضة بين صفحاتها ، احتضنت النور والظلام والحق والباطل والعلم والجهل والسعادة والشقاء ، الغدر والوفاء النصر والهزيمة .
أي جنون هذا !!!! أن يتصارع العالم في داخلك بلا انتصار وبلا انهزام بلا حب ولا كره .
لم أجد مدينة يحترف أهلها السهر مثل أهلك ، سهر يلاحق فلول جيش الظلام حتى تصفعه تباشير الصباح وتشتت جموعه أشعة الشمس الملتهبة .
كنت أتساءل عن سبب هذا السهر ؟ ولهذا ذهبت استمطر المعاني لأضع عنواناً أي عنوان سأضع ؟
لعل الناس هنا لا يريدون أن يفاروقك ولا يتمنون أن يسرقهم منك ولو كان السارق هو النوم اللذيذ ، ولا يصحون من سكرتهم إلا ليسكروا فيك .
بعض الكتب تجذبك إليها رغما عنك لتتصفح أوراقها وتسلم على كل ورقة فيها وتغزوك كلماتها وتأسرك أفكار كتابها وتكبلك أسرارها بقيود من المعاني لا تقاوم اختراقها لجدار ذاكرتك .
وبعض الكتب لا اتفع إلا لتستند عليها في الكتابة أو تلف بها السندويشات أو تمسح بها واجهة المحلات ....أو ..... أو... .
ولكنك كتاب يصعب تجاوزه دون المرور على كلمة ، ودون التسكع في كلمات أزقته ، ودون التأثر بكل رواياته .
لا أدري أيتها المدينة الغارقة في التاريخ المتشبعة أصالـة لا أدري لماذا أحب أن أكتب عنك ، هل اريد تزيين حروفي بك أم التلذذ بلمس صورك بأنامل كلماتي .
إنها أنت ايتها الشابة العجوز
يوسف سيلو
العين 2/3/2001م
المفضلات