الأستاذ الدكتور محمود فجَّال
رحمه الله
1358 - 1437هـ/ 1939 – 2015م

ترجمة الشيخ الأستاذ الدكتور محمود فجال-رحمه الله- كما جاءت في كتاب «الدرر الحسان في تراجم أصحاب السيد النبهان» (ج2 صفحة 261).
من علماء النحو والصرف واللغة في العصر الحديث، الملقب بشيخ النحاة الأستاذ الدكتور محمود بن يوسف بن محمود فجَّال.
مكان ولادته وتاريخها:
ولد في حي قارلق، بمدينة حلب، بسورية، في 1 صفر 1358هـ الموافق 23 آذار 1939م.
أبناؤه:
أوَّلُ ما ولد للشيخ محمود -رحمه الله- ثلاث بنات.
كتب لنا، رحمه الله تعالى: تشرفتُ بزيارة سيدنا الشيخ محمد النبهان -رضي الله عنه- في بيتنا في الكلتاوية على الغداء فأجلسته في الصالون على الديوانة، وكان عندنا بمعيّة سيدنا الحاج عبدو البيك والد الأهل أم محمد، والحاج صلاح عطار خال زوجتي أم فاطمة الزهراء وخديجة وعائشة، وما كان يأتينا ذكور، فقال خال الأهل الحاج صلاح عطار لسيدنا: يا سيدي بنت أختي لا يأتيها إلا بنات-والأهل في المطبخ تحضر الطعام-، فقال سيدنا: هذه البطن فيها (محمد) لكن محمد حاف، وكنا عزمنا إن جاءنا ذكر أن نسميه (محمد حذيفة) ولكن لم نخبر بذلك سيدنا.
قال الخال: يا سيدي نقول لها: أم محمد؟ قال: قل لها ولا تخف.
وكان يقول: «محمود ابني من يريدُهُ يطلبه مني» اعتنى بصغارنا وكبارنا، رضي الله عنه وأرضاه.
فكان أول من بُشِّر به من الذكور الدكتور محمَّد، ثم جاءه الدكتور يوسف، والدكتور عبد الله، والدكتور أنس. وله خمس بنات.
وهو -رحمه الله- حريص على تعليم أبنائه جميعًا، ومواصلةِ مسيرتهم العلمية إلى أعلى الدرجات، فحصَّلتْ بناته درجة البكالوريوس في اللغة العربية، وبعضهن في أصول الدين، وأخريات في الشريعة.
وحَصَلَ أبناؤه الذكور على درجة الدكتوراه في اللغة العربية. مع حصولهم إناثًا وذكورًا على إجازات علمية في العلوم العربية والشرعية والقرآن الكريم والقراءات.
نشأته:
نشأ منذ نعومة أظفاره مُحِبًّا للعلم والعلماء، فيقتني الكتب الكبيرة، والطبعات النادرة، ويلازم الحلقات العلمية، وهيئته هيئة العلماء في لباسهم ومشيهم.
كان موفقًا محفوظًا في كل أمر، وكأنَّ عنايةً إلهيةً ترعاه في كل حين وكل مكان.
لا يُحبُّ أن يجلس في أماكن اللهو واللعب ومجالس العامة، بل يحبُّ مجالس العلماء، وحضور الدروس العلمية، فقد أخذ عن كبار علماء عصره في العلوم الشرعية والعربية.
ولا يُضَيِّع وقته، فيحكي عنه زملاؤه أنه لم يكن يتحدث مع أحد في وقت الاستراحة بين الحصص الدراسية في المدرسة، بل كان يشغل نفسَه بالقراءة في كتاب يحتفظ به في جيبه.
من أخلاقه وصفاته:
كان منقطعًا للعلم والتعليم والدَّرس والبحث، منشغلًا منهمكًا بها، كَتَبَ على باب غرفته في المسجد أيام طلب العلم: (وقتي ثمينٌ ووقتك)؛ لئلا يُضيِّع وقته أحدٌ في غير العلم.
وَصَفَهُ شيخُه علامةُ الشام الشيخ إبراهيم اليعقوبي بِوُفور العقل، وَشِدَّةِ الذكاء، والجِدّ في الطلب.
زَهِدَ في متاع الدنيا تواضعًا وتقوى.
يُحِبُّ العِلْمَ والتعليمَ والبحث والتأليف، وكان منزله في القاهرة كالجامعة، يقصده الباحثون في الدراسات العليا؛ لينهلوا من علمه ويحلّ مشكلاتهم العلمية.
يحبُّ مجالسة أهل العلم والصالحين، ويترنَّم بالذكريات معهم.
لا يُحب التلفاز، ولا يشاهده، ولم يدخله في بيته؛ لما فيه من ضياع للوقت وسفورٍ ومحرمات.
التزم بزيه، الثوب والعمامة الحلبية في كلِّ مكان وكلِّ زمان، منذ صغره، ولم يترك العمامة قطُّ، ولم يلبس غيرها.
حتى قال الدكتور عبد الهادي حرب في قصيدة من عشرين بيتًا، منها:
وعِمامةُ العُلماءِ فوقَ جبينه تاجٌ يَشُعُّ النور مِنْ عِقْيانِهِ
طَيِّبُ الفِعال، محمودُ الخِصال، ذو أخلاق رائقة، وسمات فائقة، ومناقب عليّة، ومِنَحٍ مصابيحُها جليّة.
يحرص على توجيه النصح والإرشاد للصغار والكبار، بمحاسبة النفس حسابًا عسيرًا، وترك الغيبة والنميمة والكذب، والعناية بالعلم، والحفاظ على الوقت، وترك مماراة الجُهَّال والجدل معهم.
عطوف على الفقراء والضعفاء والمساكين والأيتام، ويوجه أبناءَه وطلابَه إلى عدم الاستهانة بأي شخص، فقيرًا كان أو غنيًّا، ضعيفًا كان أو قويًّا، فالاحترام للجميع من غير تفرقة لأي اعتبار.
ويمتلك أسلوبًا لطيفًا ساحرًا في الإصلاح بين الناس، ويأمر بالعفو والمسامحة، فيحترمه الجميع.
وكان مُلهمًا ينظر بنور الله -عزَّ وجلّ- ما قالَ كلمةً في كثير من الأمور إلا جاءت كفلق الصُّبْح.
وآخرُ ما كتبه في الموقع الاجتماعي على الشبكة المعلوماتية (الفيس بوك) كان تهنئة لأحد طلبة العلم، الذي حصل على درجة الدكتوراه، والدعاء له بأن يجعل اللهُ ذلك في طاعته وخدمة دينه ومجتمعه. وهذا من حرصه -رحمه الله- على تشجيع طلبة العلم في مسيرتهم العلمية، وهكذا كان ديدنه في حياته في حبّ التعلُّم والتعليم والعلماء، والتشجيع على طلب العلم، والإنفاق على طلاب العلم.
وكان وفيًّا متواضعًا، يتواصل مع أرحامه وأقاربه وأصدقائه وأساتذته ومحبيه، بالاتصال الهاتفي والرسائل والزيارة الشخصية وإرسال الهدايا.

حياته العلمية:
بدأ -رحمه الله- في حياة علمية حافلة منذ نعومة أظفاره، فقد حُبِّب إليه العلم والعلماء وزُيِّنوا في قلبه وهو في سنٍّ مبكرة.
وفي مقابلة صحفية معه -رحمه الله- قال:
حُبِّبَت إليَّ العلوم الشرعية والعربية وأنا في ريعان الصبا، في المرحلة الابتدائية، وقد تعلمت (الخط الرقعي) ولي من العمر عشر سنوات على الأستاذ (عبد القادر جاويش) في مسجد حي (المستدامية)، ثم تدربت على سائر الخطوط العربية فيما بعد على خطاط حلب الشهير الأستاذ إبراهيم الرفاعي.
وفي هذه الأثناء هويت الكتب وعشقتها، وتوجهت إلى العلوم الشرعية وتزكية النفس.


كما حُبِّبَت إليَّ القراءة على الشيوخ، كما انتظمت في المدرسة الشعبانية، ثم أتممت في الثانوية الشرعية، من مرحلة الدراسة المتوسطة إلى الثانوية.
وها أنا ذا أذكر بعض ما قرأته من الكتب على الشيوخ في الحلقات العلمية:
1- مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح للحسن بن عمار الشُرُنْبُلالي، المتوفى سنة 1906م.
2- واللباب في شرح الكتاب لعبد الغني الغنيمي الميداني، أحد تلامذة (ابن عابدين)، و(الكتاب) لأحمد القدوري المتوفى سنة 428هـ.
3- والاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، المتوفى سنة 683هـ.
4- والهدية العلائية لمحمد علاء الدين بن محمد أمين عابدين، المتوفى سنة 1306هـ.
5- والدر المختار شرح تنوير الأبصار لمحمد علاء الدين الحصني، المتوفى سنة1088هـ.
6- شرح إفاضة الأنوار على متن أصول المنار لمحمد علاء الدين الحصني، المتوفى سنة 1088 هـ.
7- جمع الجوامع في أصول الفقه الشافعي لتاج الدين أبو النصر عبد الوهاب السبكي، المتوفى سنة 771 هـ.
8- شرح الرحبية في علم الفرائض لمحمد بن محمد سبط المارديني (ماردين: بلدة من تركيا)، والرحبية منظومة وعدد أبياتها (175) بيتًا من الرجز، للإمام أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن حسين الرحبي (رحبة: بلدة بدمشق ومحلة بها، والمعروف الآن قرية تسمى «الرُحَيبَة» بالتصغير) المعروف بابن موفق الدين.
9- شروح الآجرومية لابن آجروم، وهو محمد بن محمد بن داود الصنهاجي، أبو عبد الله، المتوفى سنة 723هـ، من أهل فاس.
10- شرح الشيخ خالد الأزهري: هو أبو الوليد زين الدين الشيخ خالد بن عبد الله بن أبي بكر الجرجاوي الأزهري المتوفى سنة 905هـ. وحاشية أبي النجا على شرح الشيخ خالد.
11- شرح الآجرومية لزيني دحلان: وهو أحمد بن زيني بن أحمد دحلان المكي، المتوفى سنة 1304هـ.
12- شرح الآجرومية للكفراوي (نسبة إلى كفر الشيخ بالقرب من المحلة الكبرى): وهو حسن بن علي الكفراوي – المتوفى سنة 1202هـ، وغيرها.
13 - قواعد اللغة العربية: تأليف حفني ناصف، ومحمد دياب، ومصطفى طموم، ومحمود عمر، وسلطان محمد.
14 - شرح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري، ومعه حاشية حسن العطار.
15- شرح السعد التفتازاني على تصريف الزنجاني المشهور بالعزي.
16- شرح قطر الندى وبل الصدى لابن هشام.
17- شرح ابن عقيل.
18- أوضح المسالك لابن هشام.
19- التصريح بمضمون التوضيح للشيخ خالد الأزهري.
20- إيضاح المبهم من معاني السلم، في المنطق، لأحمد بن عبد المنعم الدمنهوري (نسبة إلى دمنهور الوحش، من أعمال الغربية بمصر)، المتوفى سنة 1192هـ. و (السلم المنورق) لعبد الرحمن بن سيدي محمد الصغير الجزائري المشهور بـ (الأخضري)، المتوفى في القرن العاشر للهجرة.
21- شرح السلم لشهاب الدين أحمد بن عبد الفتاح بن يوسف بن عمر المجيري القاهري، الشهير بـ(الملوي)، المتوفى سنة 1181هـ.
22- البلاغة الواضحة لعلي الجارم ومصطفى أمين.
23- دلائل الإعجاز لعبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاوي، المتوفى سنة 471هـ، أو سنة 474هـ.
24- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة لعبد المتعال الصعيدي.
25- تفسير ابن كثير.
26- صحيح البخاري.
27- تدريب الراوي للسيوطي.
28- المصباح المنير للفيومي.
هذه الكتب قرأت بعضها كاملًا على الشيوخ، وبعضها لم تكمل قراءته.
هذا عدا الكتب المتخصصة التي درستها في الجامعة ومرحلة الماجستير.
فقد درستُ على علامة عصره أ. د. محمد رفعت محمود فتح الله أبوابًا من (الكتاب) لسيبويه، و(الإنصاف في مسائل الخلاف) لابن الأنباري، و(شرح الكافية) للرضي، و(شرح المفصل) لابن يعيش، و(مغني اللبيب) لابن هشام، و(شرح الأشموني) و(شرح الشافية) للرضي.
وتحدَّثَ –رحمه الله- عن رحلته مع كتاب «شرح قطر الندى وبل الصدى» لابن هشام فيقول:
قرأت هذا الكتاب المبارك على ثلاثة شيوخ علماء أعلام، وذلك من قَبْلِ السابعةَ عشرَ من عُمُرِي، وهم:
1 - الأستاذ الشيخ حامد هلال.
2 - الأستاذ الشيخ عبد الرحمن زين العابدين.
3 - الأستاذ الشيخ مصطفى مزراب.
فأول قراءتي له على الشيخ مصطفى في غرفته الكائنة شرقي جامع العثمانية بحلب الكائن بحي الفرافرة.
وقَرَأْتُهُ ثانيًا على الشيخ عبد الرحمن زين العابدين في « معهد العلوم الشرعية » في حي الفرافرة، ويُعرف بـ «المدرسة الشعبانية» بحلب، ولم يُنْهِ المنهج؛ لأن الشيخ كان كثيرَ الاستطرادِ في العلم، فالتمستُ منه أن يُكْمِلَ لي ما بَقِيَ من الكتاب، فتفَضَّلَ بالقبولِ فكنت أذهب كلَّ صباح الساعة التاسعة، إلى بيته الكائنِ بحيِّ الجميليةِ بصحبةِ أخي في الله الشيخ محمد لطفي -رحمه الله- وكنا نجلس مع الشيخ إلى الظهر، وكان الشيخُ محبًّا للعلم حبًّا جَمًّا، ويَأْنَسُ بطلاب العلم أُنْسًا عجيبًا، فإذا بدأ درسه نَسِيَ نفسه، ولا يَرُدُّ نفسَه عن ذكر فائدة تخطـر في باله وإن لم يكن لها مِساس في الموضوع؛ لأن الطرائفَ والنكاتَ تأتيه بأدنى ملابسة.
وقرأته أخيرًا على النحوي البارع الشيخ حامد، وكان تلميذًا للعلامة الكبير الشيخ محمد الزرقا (1258-1343هـ) وكان مكان الدرس في الرواق الغربي من جامع العثمانية بحلب.
ومما يحسن ذكره أنني بعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب مع الشيخ حامد هلال طلبتُ منه أن يقرأ لي كتابًا آخرَ يختاره، فوافق وترك لي اختيار كتابٍ من كتابَيْنِ:
أحدهما: «شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب» لـ «ابن هشام».
والآخر: «شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك».
واتفقنا على أن يكون موعدُ الدرس بعدَ ثلاثةِ أيامٍ في الرواق الغربي في جامع العثمانية في وقت الضحى، وذهبت إلى الدرس في اليوم والوقت المحدد وانتظرت الشيخ بُرْهَةً، ولكنه لم يحضُر، ومن عادة الشيخ التقيدُ الدقيقُ بالمواعيد، فهرعتُ إلى بيته في طَلعة باب النصر من جهة باب جامع العثمانية الغربي، وطرقت الباب، فكلمتني زوجة شيخي الطاهرة من وراء الباب، وسألتها عن الشيخ ففاجأتني بأن الشيخ قد توفي -رحمه الله تعالى-، فوليت حزينًا مترحمًا على تلك الروح الطيبة الطاهرة.
ومما يجدر ذكره أنني كنت قبل حضور الدرس على الشيوخ، أخلو بنفسي فأحضِّر ما أقرؤه على الشيخ، مع العناية بمطالعة «حاشية السجاعي»، و«الأُلوسي» على كتاب «شرح قطر الندى». وقد انتفعت بهما كثيرًا. والحمد لله.
وكانت تتملكني في حلقة الدرس نشوةُ الطرب، ويهز عطفي أريحيةُ الخطب في أروقة العلم والأدب.
ومما يحسن إيراده هنا ليستفيد منه الأستاذ والطالب ما أخْبَرَنِي به شيخي العلامة الشيخ عبد الوهاب الحافظ الشهير بـ (دبس وزيت) عن طريقته: أنه لا يُلقي درسه على الطلاب إلا بعد تحضيره ومراجعته، ولو كان الدرسُ في متن «نور الإيضاح» للشرنبلالي اهـ. وهو شيخ الشام بلا منازع في حفظ كتاب الله -تعالى- والفقه الحنفي، وكان يُلقب بأبي حنيفة الصغير، أضف إلى ما يتمتع به من ذوق سليم، وخلق رفيع.
فإن كان مثل الشيخ يراجع درسه فما بالك بالطالب؟ أجل هو من باب أولى.
وأفدت من شيوخي الثلاثة فوائد جمّة، ولكل واحدٍ منهم طريقةٌ خاصة، وأسلوبٌ يتميز به، فرحمهم الله رحمةً واسعةً، وحشرني وإياهم في زمرة عباده الصالحين، تحت لواءِ سَيِّدِ المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وقد عُنِيتُ بهذا السِّفْر العظيم وهو «شرح قطر الندى وبل الصدى» عنايةً فائقةً، فكان لي الأساسَ في علم النحو.
وبدأتُ بتدريسه وإقرائه في الثامنةَ عشرَ من عُمْرِي، ودرَّسْتُهُ كثيرًا.
وقد أَقْرَأْتُهُ لطلاب المستوى الثالث المتوسط في «دار نهضة العلوم الشرعية» بأمر سيدي ومولاي إمام الزاهدين الشيخ محمد النبهان -رضي الله عنه- مؤسس هذه الدار والمرشد العام للعلم والعلماء - من أول الكتاب إلى آخره سبع مرّات، في سبع سنوات، كما شرحته في مجالس خاصة مرارًا لبعض الطلاب في حلب ودمشق والأحساء والرياض.
وعملت له حاشيةً مفيدةً كتبتها على حواشي نسختي بخط يدي، كما عملتُ له تلخيصًا سميته: «تقريب شرح قطر الندى وبل الصدى» وكان طلابُ الدار يحفظونه كالمتن، واستفادوا منه كثيرًا، حتى أغناهم غَناءً ما في دراستهم الثانوية والجامعية، وبنوا عليه تحصيلهم العلمي.
وقد زار دار نهضة العلوم الشرعية (الكلتاوية) العلامة الشيخ صالح الفرفور (1319-1407هـ) مؤسس «معهد الفتح الإسلامي» بدمشق، وبصحبته شيوخٌ أعلام من طلابه المعلِّمون في المعهد، وسأل ما يُدَرَّسُ في مادة النحو؟
فقلت: يُدَرَّسُ في المستوى الثالث «شرح قطر الندى»، ثم دفعت إليه «تقريب شرح قطر الندى» المكتوب بخط أحد طلابي، وهو الشيخ أحمد موسى، وقرأ فيه ساعةً من الزمن فَسُرَّ به كثيرًا، ثم أعطاه إلى أحد الشيوخ من تلاميذه قائلًا له: اصنعوا مثلَ هذا.
السير والسلوك عند العارف بالله الشيخ محمد النبهان رضي الله عنه:

(من اليمين: الدكتور محمد فاروق النبهان، السيد غسان النبهان، الأستاذ واصف باقي، السيد عزام محمد فاروق النبهان، الشيخ الدكتور محمود فجال -رحمه الله- ثم المهندس مروان باقي)
كتب لنا، رحمه الله: «كنت أحضر ذكرًا عند أحد الشيوخ، وكان دعائي باستمرار: اللهم دُلَّني على من يدلني عليك، وأبكي كثيرًا، حتى إنّه من شدة البكاء ليلًا والابتهال والدعاء كان والدي يوقظ أمي ويقول لها: تعالي واسمعي محمود يقول كلامًا في المناجاة، ويبكي، أودُّ أن أكتبَه، ولكن الوقت ظلام، وكنت أطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: دُلَّني على من يعرّفني بك يا حبيبي، والطلب في المنام.
وكنت قد سمعت بالشيخ الهاشمي -رحمه الله- بأنه من العارفين، ويسلك عنده المريدون، وأنه مملوءٌ عِرفانًا ومشهود له، فعزمت على السفر إلى دمشق وأخْذ الطريق منه، ودخول الخلوة عنده، وصار عندي هيام شديد، وزاد شوقي إليه أنني رأيتُه في المنامِ بشكل طبيبٍ، ومدّدني على سرير العمليات، ومعه سكاكين ومِقصّ، وشقّ صدري إلى أن وصل إلى قلبي، وأخرج منه شيئًا أسودَ، ثم استيقظتُ وأنا بأشدّ التعلق به، من دون أن أعرفَ شخصَه أو صورته، ونظمت أربعة أبيات على البديهة، وكتبتُها إليه في رسالة، علمًا أنني لا أقولُ الشعرَ، ونسيتُ الأبيات؛ لأنني لم أحتفظ بالرسالة، وكانت الرسالةُ وصفًا لحالتي وهيامي به، وحبي الشديد للقياه والتلمذة على يديه.
وكان عند الشيخ الهاشمي أحدُ أصحابنا ممن دخل عنده الخلوة وأخذ الطريق عنده، وهو الشيخ عبد اللطيف مشلّح، كان يَدْرُسُ معنا في الشعبانية. قال له الشيخُ الهاشمي شيخُ سيدنا -رضي الله عنهما-:
«جاءتني رسالة من حلب ما جاءني مثلُها في المحبة والصدق، ويريد السلوك عندنا». فقال عبد اللطيف: ما اسمه؟ قال الشيخ الهاشمي: محمود فجَّال. فقال عبد اللطيف: هذا صاحبي، ونحن في الشعبانية.
فقال له الشيخ الهاشمي: يا ولدي قل له: اذهب إلى البحر ولا تأتِ إلى الساقية، قال عبد اللطيف: مَنِ البحر يا سيدي؟ قال الهاشمي: الشيخ النبهاني.
وقبل أن يأتيَ عبدُ اللطيف من دمشق ليخبرني بما حدّثه الشيخُ الهاشمي رآني الشيخ محمدُ الحداد -وفارق السن بيني وبينه كبير؛ لأنه أسبق من الشيخ عبد القادر عيسى في العلم في الشعبانية- قال لي الشيخ محمد: شيخك ما هو شيخ ولكن شيخنا شيخ! فقلت له: ومن شيخُك؟ قال: الشيخ محمد النبهاني، فأضاءت هذه الكلمة كلَّ جوانحي وقلبي، وانشرح له صدري، صار عندي تحوّل في المحبة للقاء الشيخ النبهاني الذي خالط ذكره ذراتي، وصرت في نفسي أقول: نبهاني نبهاني، فأخذ لي الشيخ محمد الحداد بعد صلاة الظهر مباشرة موعدًا مع سيدنا، وكان بيته في حارة الباشا.
كنت صغيرًا أشعر بيدٍ ترعاني، وتحفظني حتى أنني كنت راكبًا دراجة (بِسْكِلِيْت) في حي الجابرية، فجاءت سيارة وجهًا لوجه وصدمتني، فركض الناس وأخبروا والدي، وكان له دكان بجوار جامع شبارق، وأسرع أبي فاقدًا عقله، ويقول: محمود محمود، وصل إلى السيارة التي لم يتركها الناس أن تسير فوجد والدي (البسكليت) نصفين، وأنا جالسٌ فوق السيارة، لم أُصب بسوء.
اللقاء الأول مع سيدنا -رضي الله عنه- كان في حدود عام 1953م عندما تكحَّلت عينايَ بالنظر إلى طلعة سيدنا -رضي الله عنه- والجلوس مع جنابه، فوجدته كالسراج الوهاج.
صليت الظهر عند الشيخ محمد حداد في جامع القلمجي في سوق النحاسين، ثم توجهنا إلى الشيخ النبهاني الذي ما رأيتُه من قبل، وأنا لا أشعر أنني أسير على وجه الأرض، وصلنا بسرعة، وصعدنا الدرج لأن سيدنا يسكن في الدور الأول وأنا لابس قبّعة باكستانية وثوبًا عاديًّا وحذاءً أقل من عادي، ووجدنا على الدرج الحاج فوزي شمسي، والحاج محمد ربيع من كبار المحبين، وكان طويلًا ومنورًا وبلحية بيضاء، والشيخ أديب، يريدون التشرّف بالدخول إلى الشيخ النبهاني ولو لإلقاء نظرة إليه فحسب، ولكن قيل لهم: سيدنا عنده موعد، وإذ بمحمود يصعد الدرج وهيأته كما وصفت لكم ومعي الشيخ محمد، فتح لنا سيدنا الباب فانبهرت حينما رأيته، وزاد خشوعي وانبهاري حينما أجلسني بجانبه، وبدأتْ أمواجه كالبحر الهادر يريد أن يتحدث عن كل شيء في السير والسلوك والإسلام.
أذكر أنه تكلم عن السَّيْر بأنه قسمان: سير الشاذلي الذي هو سير المحبة وهذا أسرع، وسير الغزالي وهو سير المجاهدة وهذا خطر، وأن الله أكرمه بالاثنين، وصار يتكلم لي عن الحبيب سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- والمحبة له بكلام ما سمعته من قبل ومن بعد، ثم انتقل إلى محبة الله.
وهو كالبحر المتلاطم الأمواج بعد ساعة تقريبًا يقول لي الشيخ محمد حداد: يا محمود سيدنا ما عاد يسكت والناس على الباب، استأذِنْ، فاستأذنتُ وأنا في أشدّ الوَجْد امتثالًا لأمر الشيخ محمد، وخرجت والدرج مملوء بالإخوان، وسرتُ وأنا لا أرى الدنيا سنينًا. وتذكرت أنني كنت أرى شيخًا بهيًّا في المنام ويأخذ قلبي من جماله فإذا هو النبهاني.
وأوّلُ معرفتي بسيدنا كان بيته في حارة الباشا، وكان سيدنا يأتي إلى صلاة الجمعة فكنت أنتظره في الطريق لأسلم عليه وأمشي معه فبمجرد ما يقع نظري عليه يسيلُ دمعي وأعيش بفرحٍ لا يوصفُ، وهذا لمّا كان المسجد القديم، وكان يدخلُ المسجدَ ويجلس في الجهة اليمنى ويترك الغترة في الغرفة، ويجلس متوجّهًا إلى القبلة وأجلس وراءه، فكنت من شدة الفرح لا أصدق أنني أرى مَلَكًا بهيئة إنسان.
وما كان سيدنا يعملُ ذكرَ حضرةٍ إلا نادرًا، فمرةً عمل حضرة، وكان يمرّ على كل واحد من إخواننا فما تدري ماذا يحدث للشخص من الحضور، وتكاد أرواحنا تطير من شدة اليقظة والفرح بالله، وكنت لما أُقبّل يده أراها ألينَ من الحرير فكنت أشمُّها.
آهًا لها من ليالٍ هل تعود كما كانت وأيّ ليالٍ عاد ماضيها
لم أنسها مذ نأت عني ببهجتها وأيّ أُنْسٍ مِنَ الأيام يُنْسيها
هذه نبذة يسيرة، وكيف توصف الأذواق؟!
من لم يذق طعم العسل فكيف يعرف طعمه بالوصف؟

(من اليمين : الحاج أحمد أفندي -رحمه الله- الدكتور محمد فاروق النبهان، الشيخ هشام الألوسي، عبد الحميد الناصر، عزام ابن الدكتور فاروق، الشيخ الدكتور محمود فجال -رحمه الله- ثم المهندس مروان باقي)
أنا ضامن عقله:
ولما رأى والدي -رحمه الله- عُزلتي والتجائي إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- خاف عليّ فجاء إلى سيدنا -رضي الله عنه- وقال له: يا سيدي أنا أخاف على عقل محمود! فقال له سيدنا: لا تَخَفْ، أنا ضامنٌ عقلَه.
أول اجتماعي بسيدنا -رضي الله عنه- كان اجتماعًا مباركًا مملوءًا بالشرح والتفصيل، سألته عن وِرْدٍ أقوم به، فقال: ما عندنا أوراد خاصة. وما وَرَدَ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نلتزم به. ولكن قل: الله شاهدي، الله ناظري، الله معي.
قلت له: عندي أوراد خاصة من المشايخ. فأجابني رضي الله عنه: إن شئتَ قُلها وإن شئت اتركها. وفهمتُ أنّ مرادَه الشق الثاني (الترك).
وسيدنا لم يكن من مشربه الأوراد الخاصة. وكأن هذا خاص بمشايخ الطريق.
أنا عاصرت شيوخ عصري فما وجدت مثل سيدنا ولا من يقاربه.
محمودٌ ابنُنا:
ذهب سيدنا مرةً إلى بيت عمي الحاج عبدو البيك وكانت في بيته مجموعة حلقة الشيخ محمد لطفي مع الحاج عبدو البيك، فسأله سيدنا أين الشيخ محمود؟ قال له: سيدي، الحلقة لا تريد أن يكون معنا أحد ليس منهم. فقال له: لا. هذا الشيخ محمود ابننا، فأينما كنتُ موجودًا يكن موجودًا.
الانتقال لطلب العلم في المؤسسات العلمية:
دَرَست في الشعبانية حينما كان مديرها الشيخ محمد الحكيم ثم الشيخ طاهر خير الله، وتكونت عندي فكرة العلم للعلم لا للشهادة، وتأثرت بهذه الفكرة بالشيخ محمد المعدّل الخطيب المصقع الذي يرتج المنبر تحت قدميه، وكان من المحبين لسيدنا ولم أكن قد التقيت بسيدنا وكان ينشد على مسامعنا قول شوقي:
واطلبُوا العلمَ لذاتِ العلمِ لا لشهاداتٍ وآرابٍ أُخَر
تشرفت برؤية طلعة سيدنا المباركة، ونهلت من معينه الفياض، والتزمت بتوجيهاته من السلوك والتربية وحبّ العلم، إلا أن فكرة طلب العلم مع الشهادة لم تشق طريقها إلى عقلي وقلبي وبخاصة عندما قرأت عددًا من الكتب على كبار الشيوخ من أهل العلم، وتمكنت في العلوم العربية والشرعية وكنت أقول: لا قيمة للشهادات والهدف العلم فقط.
حتى أنني قدمت امتحانًا في الأوقاف بمدينة حلب في خمس مواد للحصول على وظيفة الإمامة والخطابة فكنت الأول على مئة وعشرين متقدمًا من أهل العلم من بينهم حاملو شهادات جامعية وأنا لا أحمل إلا الكفاءة. وأخبرني بالدرجة الأولى الأستاذ رجب الهِيْب؛ لأنه كان موظفًا في الأوقاف. وعرضت عليّ الأوقافُ أكبرَ جامع شاغر في ذلك الوقت وكان جامع عمر بن عبد العزيز. ورفضت ذلك للبعد عن بيتي في الكلتاوية.
وعندما تزوجت وكان سيدنا مدعوًّا في بيت عمي الحاج عبدو البيك وبعد الطعام وقف سيدنا على المغسلة يغسل يديه والحاج عبدو وراءه ومعه المنشفة لسيدنا ووراءه زوجتي. فقال الحاج عبدو لسيدنا: ورائي زوجة الشيخ محمود.
فقال سيدنا لها: كيف حالك يا عروس مع الشيخ محمود؟
وكنتُ حديث عهدٍ بالزواج، فقالت: بخير ولكنْ لم يقدّم امتحانالبكالوريا.
فقال سيدنا: «يقطع خمله، قولي له: يقول لك سيدنا: قدم على البكالوريا».
وبعد أن غادر سيدنا البيت وجلسنا قال لي الحاج عبدو: اليوم زَوْجَتُكَ خبّصت (هكذا على اللهجة الحلبية). ثم قال لابنته: يا بنتي إذا كنت تريدين أن يقدّم زوجك على البكالوريا ولم يستجب لك فعليك أن تخبري سيدنا في أول السنة لا قبل الامتحان بعشرين يومًا.
فقلت: إذن لا بدّ من الاستجابة لأمر سيدنا والأخذ بالأسباب. وقلت لزوجتي: ابقي عند أهلك مدة الامتحان حتى ينتهي.
وذهبت إلى دار نهضة العلوم الشرعية وكنت قد أنهيت المناهج التي أُدرِّسها من شرح القطر والبلاغة الواضحة وغيرهما حيث كنا على أبواب الامتحان.
فأخبرت المدير الأخ الشيخ محمد لطفي بالأمر الذي جاءني من سيدنا فقال لي: البكالوريا في الثانوية الشرعية لا بدّ من التحضير لها سنة كاملة ثم ضرب مثلًا بنفسه بأنه انقطع سنة كاملة يحضر لها وبخاصة مادتا الرياضيات والإنجليزي حيث درسهما على أساتذة من خارج الثانوية. كما لخص كل المواد بدفاتر. ونجح ودخل الجامعة باستثناء وقرار من رئيس الوزراء الدكتور الشيخ معروف الدواليبي ونصه: «كل من يتخرج في الثانوية الشرعية يسمح له بالدراسة في كلية الشريعة بدمشق من دون النظر إلى تقديره».
ثم قال: لا يمكن أن تنجح وقد بقي لامتحان الثانوية الشرعية أيام. فقلت له: أنا مأمور، وما عليَّ إلا التنفيذ.
قال: إن رسبت هناك ضرر عليك وعلى الدار حيث شخصيتك قوية بين الطلاب ويهابونك فتذهب هذه المهابة من نفوسهم.
قلت: غير مهم. والمهم أن أنفذ الأمر.
طلبت من الشيخ محمد نبيه سالم أن يجمع لي الكتب، فجمعها وكانت كمًّا ضخمًا، وصرت أتصفح الكتب، ونجحت وانتسبت إلى كليتين كلية الشريعة بدمشق وكلية اللغة العربية في الأزهر فاقتصرت على الثانية وتركت الأولى.
كانت مواصلتي للدراسة بأمر سيدنا -رضي الله عنه- وكان سلوكي هو طريق العلم، علمًا أنني أوّلُ ما وعيت أحببتُ العلمَ الشرعي، ففي الصف الثالث الابتدائي تعلمت الخط الحسن، واقتنيت كتبًا لا يقتنيها كبار العلماء في هذا السن، وصار لي هواية في شراء الكتب على قاعدة «شراء الكتب غنى وبيعها فقر» كما يقول شيخنا في النحو الشيخ عبد الرحمن زين العابدين، رحمه الله.
وتأثرت في فكرة عدم الدراسة لأجل الشهادة من أستاذنا في الصرف الشيخ محمد المعدل، إذ كان يردد قول شوقي:
واطلب العلم لذات العلم لا
|
|
لشهــاداتٍ وآراب أُخـــر
|
وحينما صاحبت سيدنا -رضي الله عنه- غيّر مساري، بأنّ العلم والشهادات هو سيري وسلوكي، والفتح يكون فيه.
اللغة الإنجليزية والجبر:
كتبتُ له -رضي الله عنه- رسالةً خاصة، ومما ذكرتُ فيها: أنني مُقَصِّرٌ في المدرسة بمادتين: الجبر، واللغة الإنجليزية، لشيئين:
لعدم ميلي إليهما، ولعدم وجود مَنْ أدرسهما عليه من أهل الصلاح.

(رسالة الدكتور محمود فجال إلى السيد النبهان، وجوابه عليها)
فأجابني بخط يده: «أمَّا عدم ميلك إليهما فهذا نقص، حيث نُرِيدُهُمَا لنتقوَّى على الخصم الداخلي والخارجي. والحقيقة العلم قوَّة للإنسان، مهما كان العلم، سواءٌ كان شرعيًا أم كونيًا، فيجب على الإنسان أن يتكمل، حتى يضع العلم في موضعه، حيث هو المكلف، وهو الواضع. فلا تُفَرِّقْ بين شرعي وكوني؛ لأنهما مرادان، وحاملهما أقوى من حامل أحد العِلْمين.
وأما وجود من تدرس عليه فاختر الأصلح، وكن في الرابطة، ولا تخشَ أحدًا. والسلام».
أستدينُ من نفسي، «الله لا يضيمك لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله معك» :
بلغ سيدنا أنني سأبيع بيتي في حيِّ الكلتاوية، فأرسلَ في طلبي، فحضرت إلى بيته بعد صلاة الفجر، وكان مريضًا في الفراش، فقال لي: سمعت أنك ستبيع بيتك!
قلت: نعم.
قال: لماذا؟
قلت: يا سيدي ألم تأمرني بمتابعة الدراسة، أنا الآن في مرحلة الماجستير والدكتوراه، وبحاجة إلى فلوس.
قال: كم يلزمك؟
قلت: بحدود ثلاثة آلاف ليرة مبدئيًّا.
قال h: أنا أعطيك، وقام من فراشه مسرعًا إلى خزينته ليعطيني.
فقلت له: أسألك بحبيبك رسول الله ألا تعطيني.
فلمّا سمع سؤالي بالحبيب الأعظم ﷺ رجع إلى مكانه وجلس، وكنت على علمٍ بالكلام الذي يُجلِسُهُ؛ لأنني لو أخذت منه شيئًا أشعر كأنّ الجبال أُطْبِقَتْ على رأسي، ولا أستطيع أن أمشي بين الناس خجلًا من ربي (أنا لا أبالغ، وإنّما هذا التشبيه جزء بسيط من واقعي).
قال: يا ولدي، من أين ستأتي بالفلوس إذن؟
قلت: أستدين من نفسي.
قال: كيف تستدين من نفسك؟
قلت: أبيع بيتي، وحينما يغنيني ربي أشتري بيتًا.
قال: ممن تعلمت هذا الكلام؟
قلت: منكم سيدي.
قال: لا تبعِ البيت، وأنا أُعطيك.
وقام مرة ثانية بسرعة ليعطيني، فقلتُ له: أسألك بالحبيب الأعظم ﷺ أن تجلس، فجلس؛ لأنني سألته بعظيمٍ عنده.
قال: مني خذْ، ومن أبيك لا تأخذ؛ فأنا لا أمُنُّ.
قلت: أنا لا آخذُ منك ولا من أبي.
قال: لماذا؟
قلتُ: أنا لست تاجرًا معك، أنا صَحِبْتُك لله.
فما كان من سيدنا -رضي الله عنه- إلا أن ذرفت عيناه، وقال: الله لا يضيمك لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله معك.
وودعته، وسافرت إلى القاهرة، وكان هذا آخر العهد به، عليه سحائب رحمات الله ورضوانه من مربٍّ كامل، يهتمُّ بنا حتى وهو مريضٌ في فراشه.
حاله وقت العسكرية:
كنتُ مجاورًا في الكلتاوية قبل خدمة العَلَم (الجندية الإلزامية)، ثم طُلِبتُ للعسكرية، فكنت أبكي كثيرًا، كيف أذهب إلى العسكرية وأنا رضيع وِصالهم؟
كنتُ أدرس مع الشيخ أبي الخير زين العابدين كتاب المصباح المنير للفيومي، وكان يراني أبكي، فكان يهدئني كثيرًا، ولكن ما أقتنع.
مَحَّضتَني النُّصحَ لكن لَستُ أسمَعُهُ إنَّ المُحِبَّ عَن العُذّالِ في صَمَمِ
ثم ذهبت إلى العسكرية وأنا بدون قلب؛ لأنني تركته في الكلتاوية، والبكاء ما كان ينقطع عني، وما كان أحد يشعر بمأساتي، والذي يشعر يصبرني، ولكن ما يدري أني لم أفطم.
والطفل يؤلمه الفطام:
وكانت عسكريتي في زمن الوحدة بين سورية ومصر، وبعد شهر واحد من عسكريتي قاد الانقلاب عبد الكريم النحلاوي، عام واحد وستين، وبعد سنتين تمامًا سُرِّحت من العسكرية.
ومدةُ العسكريةِ انشغلتُ بالدرس على الشيوخ، ومنهم:
الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، والشيخ حسن حبنكة، والشيخ إبراهيم اليعقوبي، فكنت أقرأ مع الشيخ حسن تفسير أبي السعود يوميًّا بعد الفجر، وأحضر بعد العشاء ليلة الجمعة لقراءة تفسير ابن كثير.
وكانت دورة الأغرار بالنسبة لي شهرًا واحدًا، فقد حُوِّلتُ إلى ثكنة الإشارة أمام جامعة دمشق لعمل الرسم والخط، وجاورت هناك في جامع المعلَّق بواسطة الشيخ عبد الوهاب، وهو قريب من بيته الملاصق لجامع التوبة.
فكنت إذن أقرأ على الشيوخ، وكنت أُدَرِّسُ شرح قطر الندى، ويحضر الدرس طلاب من الجامعة، وضباط الصف، كما كنت أُدَرِّسُ في الفقه كتاب مراقي الفلاح، في دار الحديث التي كانت مدرسة الإمام النووي.
ثم بعد أن سرحت من العسكرية ومدتها سنتان رجعت إلى المجاورة في الكلتاوية، وبعد رجوعي بسنتين تقريبًا فتح سيدنا المدرسة الكلتاوية، وكان لي الشرف بأن كنت أول أستاذ فيها.
حلقة تعالوا بنا نؤمن ساعة:
مِن أعمال السيد -رضي الله عنه- قبل نشأة دار نهضة العلوم الشرعية توزيعُ إخوانه الخواص إلى خمس مجموعات، وكل مجموعة مرتبطة بأمير من أهل العلم ممن له قَدَم وقِدَم عند سيدنا -رضي الله عنه- وهم الشيخ أديب حسون، والشيخ علاء الدين علايا، والشيخ محمد لطفي، والشيخ حسان فرفوطي، وكاتب هذه الكلمة (محمود فجَّال).
والهدف من هذه الحلقات: اجلسْ بنا نؤمن ساعة، وطلب العلم، والتواصي بتلاوة القرآن، وبصوم الاثنين والخميس. وكان لهذه الحلقات لقاءات مع سيدنا في بيت أحد الإخوان، ويُسمح بحضور ضيوف سيدنا وبعض الأفراد من حلقات أخرى بدعوة سيدنا أو صاحب الدعوة.

(الشيخ محمود فجال مع الشيخين أحمد ومحمود حوت وجمع من طلابه)
أوّلُ مُدَرس في الكلتاوية:
عُيّن الشيخ عبد الرحمن حوت مديرًا للمدرسة، وبدأنا باستقبال الطلاب بلجنة مؤلفة من سيدنا وكاتبِ هذه الأحرف. وكنا نقبل الطلاب بامتحان بسيط جدًّا بدون شرط الشهادة الابتدائية.
وكنت أمام سيدنا أقول للطالب: اقرأ واكتب، وأسأله بالحساب.
ثم يقول لي سيدنا: اكتبه ناجح، حتى أن أحد المتقدمين قلت له أمام سيدنا: اكتب عصفور، فرسم عصفورًا! فقال سيدنا: اكتب اسمه مع الناجحين.
وهكذا بدأت المدرسة وكنت أول أستاذ فيها باختيار سيدنا، وكنت وقتها مهتمًّا بالدروس على الشيوخ، ولم يكن عندي شهادات سوى المتوسطة لأنني غير مؤمن بالشهادات (في وقتها)، ودرَّست في الصف الأول مادة الخط والنحو، ومما كلفت به أيضًا المراقبة الليلية.
وكلَّف سيدُنا الشيخَ بشير بتعليم القرآن، وبقية الأساتذة اختارهم سيدنا من إخواننا كحسان فرفوطي والشيخ أديب وغيرهم.
ثم افتتح سيدنا الصف الثاني والثالث، واختار أساتذة من إخواننا كالشيخ صالح بشير، والشيخ صالح حميدة، والشيخ نذير حامد لتدريس النحو في الصف الثالث، والشيخ علاء الدين علايا له دروس، والشيخ محمد حوت للمراقبة الليلية وغيرهم.
وقد درَّست القطر سبع سنوات، ودرّست البلاغة، ودرّست شرح ابن عقيل، وهكذا سارت المدرسة سيرًا قويًّا في العلم، وكل ذلك تحت إشراف وتوجيه سيدنا رضي الله عنه.
سيدنا يأمرك أن تدرّس شرح قطر الندى:
سمعت أنّ المدير الشيخ محمد لطفي -رحمه الله- طلب أستاذنا الشيخ عبد الرحمن زين العابدين -رحمه الله- ليدرّس مادة النحو، والمقرر شرح قطر الندى لابن هشام، ولكنّ الطلبة وبالأخص المرحوم الشيخ محمود الزين كانت أسئلتهم كثيرة وبعضها مُحرج، فزعل الشيخ وترك التدريس، وهو أستاذي وهو متمكِّن في علم النحو ولكنه ترك ولم يعقب. لأن طبيعة طلاب الكلتاوية تعلموا على السؤال وهذا دليل الفهم، ولكن هذا الأسلوب لا يحلو لكل أستاذ.
والمرحوم المدير كان حريصًا أن يأتي بأستاذ يحمل شهادة جامعية، فطلب أيضًا الشيخ زهير الناصر وغيره، ولم يكن سيدي النبهان في حلب، وكان في قرية التويم، فذهب المدير إلى سيدنا ومعه الشيخ علاء الدين علايا فعرضا عليه الشيخ زهير وغيره لتدريس مادة النحو.
فقال سيدي لهما: لِمَ تفكران بفلان وفلان وتتركان الشيخ محمود فجَّال؟! اذهبا إليه في بيته وقولا: سيدنا يأمرك أن تدرّس شرح قطر الندى للصف الثالث.
وكنت صليت صلاة العشاء في جامعي في باب الأحمر، وصعدت أستنشق من نسمات عبير الكلتاوية فجلست متأملًا طربًا ترقص روحي من شدّة الوجد ومن تذكار حركات الحبيب التي تنخلع القلوب لمرآها وسماع كلامه الذي يخترق شغاف القلب لعذوبته. وما كنت أودُّ رؤية أحد.
فجاءني رجلان يمشيان إليَّ على استحياء وهما الشيخ علايا والشيخ لطفي، فقال الشيخ علايا -أعلى الله شأنهما في عليين-: نريد أن تذهب إلى البيت لنؤدي رسالة سيدنا إليك كما أمر سيدنا أن نذهب إلى بيتك.
فذهبت إلى البيت فحضرا، فبدأ الشيخ علايا يحدثني عما جرى تفصيلًا وأننا ذكرنا عدة أفراد لتدريس مادة النحو ليختار سيدنا، فعاتبنا سيدنا، وقال: لِمَ أعرضتم عن الشيخ محمود؟ اذهبوا إلى بيته إرضاءً له وتكريمًا وقولوا: سيدنا يأمرك أن تدرس شرح قطر الندى لطلاب الصف الثالث.
فامتثلت الأمر ودرَّسته سبع سنوات أُنهي الكتاب كاملًا في كل سنة. فأفدت واستفدت لأنني درسته لطلاب نجباء أوفياء.
أنا راض عنه كل الرضا:
كنتُ حينما أريد لقاء سيدنا أحسبُ له ألفَ حساب، أسألُ نفسي: هل أنا مقبول؟ هل أنا مطرود؟
كنت معه على وَجَل، أخشاه، أخافه خوف إجلال.
أهابُكِ إجلالًا وما بِكِ قُدْرَةٌ عليّ ولكن مِلْءُ عين حبيبُها
ما دخل على قلبي يومًا ما أنه راضٍ عني أو أنا قريب منه، أو يحبني، لا..لا. وإن كنت أشعر بالاطمئنان والارتياح حين الجلوس معه، بل كنت أشعر بكثرة الغفلة والذنوب، وأحاسب نفسي قبل اللقاء به، وكنت أطلب من بعض أصحابي أن يسأل عني سيدنا، هل هو راض عن محمود أم غاضب؟
فيقول سيدنا: «أنا راض كلَّ الرضا»، ثم يقول: «ومن قال أنا غير راض عنه يقطع خملهم».
أراقبُ نفسي فأراها غير مطهرة، فيها مأوى كل شر وإن كنت لا أؤذي أحدًا، ولا أشمت بمصيبة أحد)، لكنها غير مزكّاة، فيها الدنيا، وفيها الهوى، فيها الغفلة، وكلما داويت جرحًا سال جرح.
حينما أشرُف بمجالسة سيدنا -رضي الله عنه- تنكشف لي غفلتي من فرقي إلى قدمي، وأشهد تقصيري، فأقول لنفسي: يا مأوى كل شرّ، إلى متى هذا الحجاب وهذه الغفلة؟!
وأخرج من مجلس سيدنا -رضي الله عنه- بروحانية، ولا أريد أن ألقى أحدًا مهما كانت مرتبته، حيث تجدني كأني مع الملائكة وهو حاملني، وإذا سمعت مدحًا من سيدنا أستغربه ولا أطمئنّ لنفسي، أقول: هذا منسوب لله- عزّ وجلّ- لا تأمنْ مكر الله.
سمعت سيدنا -رضي الله عنه- يقول: الصاحبَ الصاحبَ، الصاحبُ الصادق الذي يريكَ نفسَك على ما هي عليه، لا يريك زيادة ولا نقصانًا، لا تشتر مرآة تكبّر وتصغّر، بل اجعل لنفسك مرآة حجريَّة تريك الشيء على ما هو عليه. اهـ. وأخيرًا، وما بالذات لا يزول!
ستشاهد كل ذلك ذوقًا بنَفَسٍ واحد:
كتبت بخط يدي كتاب بوارق الحقائق نسخة أحضرها لي الشيخ محمود مهاوش -رحمه الله-، فكتبت نسختين واحدة لي والثانية له، ثم استحييت أن أبقي نسختي عندي فقدمتها لسيدنا. ولكن سيدنا قال لي: (اتركها عندك، ولما تأتيك المحبة ستشاهد كل ذلك ذوقًا بنَفَسٍ واحد)، ثم قال لي: الفتوحات المكية عند العارف كألف باء.
فاللهَ تعالى أسألُ أن يرزقنا المحبة الصادقة؛ لنصل إلى ما وصل إليه من محبة الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
رسالة إلى سيدنا رضي الله عنه:
مرةً كتبت رسالة إلى سيدنا متعلقة بأمر زواج. وأرسلتها إلى سيدنا ليعطيني الجواب، وأنا كنت أخشى من غضب سيدنا، فقلت للشيخ محمد لطفي: ادخل لعند سيدنا، واستمع ماذا سيكون تعليقه على الرسالة. قرأ سيدنا الرسالة، وقال: جاءتني هذه الرسالة تعلّم العارف بالله كيف الأدب مع الحضرة الإلهية.
مبشرات رآها -رحمه الله-:
رأيت سيدنا في المنام في ربيع الأول عام 1419هـ وهو مستلق على الفراش فوق الكعبة في الحرم المكي الشريف، وحول الكعبة إخواننا وهو يتحدّث إلينا.
وكان من عادته -رحمه الله، ورضي عنه- في حال حياته يستلقي على سريره في الكلتاوية بعد العِشاء أمام غرفته للنوم ونحن حوله وهو يذاكرنا إلى أن ينام.
ورأيتُ في المنام في أشهر الحج أنني في الكلتاوية، وهي واسعة، فنظرت من علُ، فإذا بي أرى فيها المسجد الحرام والكعبة، والمسجد النبوي والقبة الشريفة.
فتعجبتُ وقلت في نفسي: ما دام المسجدان الحرامان هنا، والحج هنا، فَلِمَ يتهيَّأ الناس للذهاب إلى الحج في بلاد الحجاز؟! هذه الرؤيا من خمسين سنة تقريبًا.
ورأيت في المنام -في أوَّل معرفتي- بسيدنا أنني في «الجامع الكبير» بحلب داخل المسجد أسمع صوتًا خافتًا متواليًا: يامحمود يا محمود يا محمود! فاتجهتُ نحوَ الصوت، فإذا هو صوت سيدنا، وكان جالسًا في حجرةٍ بجانب مقام سيدنا زكريا، والحجرةُ مملوءة بالكتب.
فقلت: نعم يا سيدي. فقال: أنا أُناديكَ من زمنٍ فأين أنت؟! ووجدتُ مكتوبًا على باب الحجرة بخطٍ جميل مُذْهب: «ولا تعرِّج على غيرِ أهلِ الصدقِ».
محمود من الدرجة الأولى:
كتب لنا الشيخ أحمد الحوت -رحمه الله- قال: سمعت أنا من سيدنا -رضي الله عنه- يقول عن أستاذنا الفاضل محمود فجال: (عندي الشيخ محمود من الدرجة الأولى).
تلاميذه:
قرأ على يديه مئات طلاب العلم في التعليم الرسمي، وفي الحلقات العلمية في المساجد والمنزل، قرابة خمسين عامًا قضاها في التعليم.
ففي مدينة حلب كان يُدرِّس في دار نهضة العلوم الشرعية قرابة ثلاثة عشر عامًا.
وفي مدينة أبها درَّسَ اثني عشر عامًا في كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية النحو والصرف والعروض، في قسم اللغة العربية وقسم الشريعة، منذ عام 1398هـ إلى عام 1411هـ.
وبعد ذلك درَّس أحد عشر عامًا في مدينة الأحساء في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء، في أقسام اللغة العربية، والشريعة، وأصول الدين، إلى عام 1422هـ، فتخرَّج مئات الطلاب والطالبات على يديه.
أعماله الوظيفية:
تصدَّر للتعليم في مدينة حلب في دار نهضة العلوم الشرعية، وفي الحلقات العلمية، وكان خطيبًا في مساجد عِدَّة، وبعد حصوله على درجة الدكتوراه العالمية من جامعة الأزهر بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى ارتحل إلى المملكة العربية السعودية، فدرَّس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية خمسةً وعشرين عامًا في مدينتي أبها والأحساء، وشَغَل عِدَّة مناصب إدارية، منها وكالة قسم اللغة العربية، ثم رئاسته بجامعة الملك خالد (وكان اسمها آنذاك كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بأبها)، وعضوية المجلس العلمي في جامعة الإمام، ورقى إلى درجة الأستاذية.
شارك في مناقشة كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه، وتحكيم الإنتاجات العلمية، للنشر في المجلات العلمية أو للترقية إلى رتبتي أستاذ مشارك، وأستاذ.
درَّس في جامعة المعرفة العالمية على الشبكة المعلوماتية.
قرأ عليه آلافُ الطلابِ النحوَ والصرفَ والعروضَ واللغةَ والقراءاتِ القرآنيةَ.

(نموذج من خطه)
رحلته مع الخطّ العربي:
أخذ الخطَّ الرقعي وعمره عشر سنوات، في مدينة حلب عن الأستاذ «عبد القادر جاويش»، في مسجد حيّ «المستدامية»، ثم تدرَّب على سائر الخطوط العربية فيما بعد على خطاط حلب الشهير الأستاذ «إبراهيم الرفاعي».
ويحكي -رحمه الله- أنه بعد مدة يسيرة من التحاقه بحلقة الأستاذ عبد القادر جاويش امتنع الأستاذ من كتابة سطر له، وعندما راجعه والده -رحمه الله- ليعرف السبب قال له: «خطه صار مثل خطي».
فقد كان -رحمه الله- يتميَّز بحدة الذكاء، وسرعة الفهم، والمهارة الكبيرة في إتقان كل جديد، فأجاد أغلب الخطوط العربية، وكان ماهرًا في الرسم، مع أنه مقلّ فيه.
وكان يكتب مؤلفاته بخطه الرقعي الجميل، وعندما يدفعها إلى الطباعة يُصِرُّ أصحاب المطابع على طباعة الكتاب بخط المؤلف نفسه، ولا تُعاد كتابته بالحاسوب، إلا أنه لم يكن يوافق على ذلك.
رحلته مع الكتب:
كان -رحمه الله- يهوى الكُتُب، ويقتنيها منذ صغره، وأصبح عنده مكتبتان كبيرتان، إحداهما في مدينة حلب بسورية، والأخرى في مدينة الرياض، تحتوي المكتبتان على آلاف الكتب النفيسة، ذوات الطبعات الفاخرة القديمة، في أكثر من خمس وثلاثين خزانة.
وفي مقابلة صحفِيَّةٍ معه وقد سُئل عن الكتب قال الآتي:
هوايتي في الحياةِ (الكتابُ) أَعْشَقُهُ، وأهيمُ به، وهو ليلايَ ولُبْنايَ، وأرغبُ الطبعـاتِ المشرقَة، المنوَّرةَ المصحَّحَة، والمطبوعةَ على الورقِ الأبيضِ الصقيل.
وكان البدءُ لاقتنائي الكتاب في العاشرةِ من عُمُري، اشتريتُ وأنا طفلٌ «صحيح مسلمٍ»، طبع البابي الحلبي، غيرَ مشكول، وبعضَ أجزاء من «المبسوط» للسرخسي، ويبلغ ثلاثين جزءًا، أملاه مؤلفه وهو مسجون في الجب.
كما اقتنيت تفسير «الكشاف»، وطبـع في آخـر الجزء الرابع «الكافي الشاف» لابن حجـر.
و«الأعلام» للزركلي الطبعة الأولى، وكانت في ثلاثة أجزاء كاملة على ورقٍ أصفرَ، وهي باكورةُ «الأعلام»، فالظاهـر أنّ «الزِّرِكْلِيَّ» زاد فيه حتى أصبحَ بهذا الحجمِ الكبيرِ الذي وَصَلَ إليه الآن.
و«الترغيب والترهيب» للمنذري في خمسة مجلدات على ورقٍ أبيضَ مصقول.
و«حاشية الخضري على شرح ابن عقيل» الطبعة الأزهرية.
وكانت أمي الطيبة - رحمها الله - تطاردني، وتقول لي: أنتَ تقرأُ في هذه الكُتبِ الصفراءِ، ولا تذاكرُ دروسَك، فكيف ستنجحُ؟! وكنتُ يومها (في الصف الرابع الابتدائي، في مدرسة النصر بحلب)، والورقُ الأصفرُ هو العلامةُ المميزةُ لها من الكتبِ المدرسيةِ، وربما كانت تُوبِّخُني وتُعَنِّفُني، ولكنني لا أَرْعَوِي عن محبوبي، ولا أهتمُّ بعذلِ العذَّالِ، وأتمثَّلُ بقولِ القائل:
مَحَّضْتَنِي النُّصْحَ لَكِنْ لَسْتُ أَسْمَعُهُ إنَّ المُحِبَّ عنِ العُذَّالِ في صَمَمِ
وحينما كنت أرى كتابًا في المكتبة وأُريد شراءَه، ولا أملكُ ثمنَه لا يَهْدَأُ لي بالٌ، ولا يرتاحُ لي قلبٌ، ويذهبُ النومُ من عَينيَّ حتى أجمعَ ثمنَه لشرائه، وأضمَّه إلى مكتبتي، وكم أكونُ حزينًا منكسِرًا إن فُقِدَ الكتابُ مني، أولم أستطعْ أن أَشْتَرِيَه.
مشايخه:
تلقَّى -رحمه الله- العلوم الشرعية واللغوية في الحلقات العلمية على أيدي كبار العلماء في مدينتي حلب ودمشق، وقد اعتنى في أول أمره بتزكية النفس، وبالعلوم الشرعية من الحديث النبوي الشريف والفقه، واعتنى كذلك بالقرآن الكريم، والمنطق، والنحو، والخطّ، والسلوك، وتولَّى بعد ذلك التدريس في الحلقات العلمية وفي دار نهضة العلوم الشرعية، ثم في مرحلة البكالوريوس والدراسات العليا تخصص في اللغة العربية لتكون معينًا له على العلوم الشرعية.
وكان من أشهر العلماء الذين أخذ عنهم في مدينة حلب:
الشيخ محمد نجيب خياطة (القرآن والتجويد).
والشيخ عبد الله سراج الدين (علم الحديث ومصطلحه).
والشيخ محمد الملاح (الفقه الحنفي).
والشيخ محمد الرشيد، الفقيه الحنفي الكبير.
والشيخ محمد أسعد العبجي، مفتي الشافعية (أصول الفقه الشافعي).
والشيخ عبد الرحمن زين العابدين (النحو والصرف والبلاغة).
والشيخ عمر عنداني (النحو والصرف والبلاغة).
كتب لنا عنه الشيخ محمود فجال، رحمه الله: درست على الشيخ عمر عنداني كتاب شرح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري، وكنا نقرأ أحيانًا في حاشية العطار عليه، وكان عمري لا يتجاوز الرابعة عشر، ومكان الدرس جامع البياضة أسفل جامع الكلتاوية، ويقرأ الدرس لي وحدي، وكان الشيخ عمر هذا حافظًا متقنًا، وكنت أمشي معه إلى جامع الشيخ أبي بكر يصلي فيه إمامًا، وكنت لا أسمع منه أي كلمة؛ لأنه كان كثير الصمت إلا في العلم، وكان من العارفين بسيدنا النبهان تمامًا؛ لأنه في سنّ سيدنا، وكان في حلب قد ظهر شيخ مربٍّ له تلاميذ كثر، وله حضرة ذكر، -وسيدنا لم يعمل ذكرًا وإنما يربي أصحابه بالمذاكرة وبالنظر ويحببهم بالعلم-، فقلت للشيخ عمر: أيهما أفضل الشيخ فلان أم الشيخ النبهاني؟ وكنت قريب العهد بالمجيء إلى سيدنا، فقال بحماس: يا ولدي حضور مذاكرة واحدة عند الشيخ النبهاني أفضل من سبعين مجلس ذكر عند فلان. اهـ.
ومن شيوخه:
الشيخ محمد المعدل، والشيخ أحمد المصري، والشيخ حامد هلال، والشيخ جميل عقَّاد، والشيخ عبد الوهاب سكَّر، والشيخ سامي بصمه جي، والشيخ محمد زين العابدين جذبة، والشيخ مصطفى مزراب، والشيخ محمد أبو الخير زين العابدين.
وفي مدينة دمشق أخذ عن بعض العلماء أمثال:
العلاَّمة الشيخ عبد الوهاب الحافظ الشهير بدبس وزيت (الفقه الحنفي والأصول).
قال، رحمه الله: كنت أقرأُ مع الشيخ عبد الوهاب (الاختيار لتعليل المختار) في الفقه الحنفي، وإن لم أحضر الدرس-حتمًا بإذنٍ منه- لا يقرأُ الدرسَ، ويحوّله إلى قراءة القرآن الكريم، ويقول: لم يحضر محمود.
وكان الشيخ يحبُّ أن أتحدَّثَ له عن شيخي وسيّدي محمّد النّبهان -رضي الله عنه- يوميًّا بعد انتهاء الدرس لمقدار نصف ساعة، وكان يتشوق للقاء سيدنا النبهان شخصيًّا أو جسديًّا. وطلب مني أن أعرفه عليه، فاستأذنتُ سيدنا لزيارته، فرحب سيّدنا بذلك، وحين اجتمعا تحدث الشيخ (دبس وزيت) بما اختصَّ به من علوم، ثم سكت، فتحدث سيّدنا -رضي الله عنه- في المحبة الإلهية ومراتب الإحسان، فدهش الشيخ به، وقال له: ادعُ الله لي يا سيّدي أن يحشرني تحت لوائك يوم القيامة. وقد قال عنه سيدنا -رضي الله عنه-: الشيخ عبد الوهاب نادرة في العلماء.
زار أبو حنيفة الصغير في عصره الشيخُ عبد الوهاب دبس وزيت -رحمه الله- سيّدَنا النبهان -رضي الله عنه- وبصحبته الشيخ ملا رمضان البوطي الرجل الصالح، ونادى سيدي ومولاي السيد النبهان -نوّر الله ضريحه-: يا محمود: تعال إلى شيخك. فجئت على استحياء وأنا في غاية الخجل، وقبلت أيديهم، ففي الغرفة سيدنا والشيخان وخادم سيدنا فاضل قربللي -رحمه الله- وكاتب هذه الأحرف.
ووضع لهم الطعام صينية كباب مشوي بالفرن، وفي هذا اليوم كان لسيدنا حال قوي لم أر مثله من قبل، يطعمهم بيده وينادي بصوت عالٍ شجيّ: «ضيوفك يا رب، أكرمهم» يكررها مرّات.
اللهم اجعله ذا الجناحين من علماء الظاهر والباطن:
ثم تحدث الشيخُ عبد الوهاب عن كاتب هذه الحروف بثناءٍ كثيرٍ أستحيي أن أذكره، ثم طلب الشيخ عبد الوهاب من سيدنا الشيخ محمد النبهان الدعاء لي فقال سيدنا: ادعُ أنت وأنا أؤمن، فدعا الشيخ عبد الوهاب لي كثيرًا، وسيدنا يقول: آمين، آمين، ومن جملة الدعاء: اللهم اجعله ذا الجناحين من علماء الظاهر والباطن، وعند وداعهما لسيدنا قال لي سيدنا: اذهب معهما إلى المطار. هذا خلاصة المجلس، وهناك كلام خاص لا أتذكره. وقد كان الشيخ عبد الوهاب من الأبدال. اهـ.
هذه الرسالة من الشيخ عبد الوهاب بعد هذا اللقاء مع شيخنا بمجرد وصوله إلى دمشق -رحمه الله- وصلتني من سيدنا بواسطة الحاج مصطفى سروجي، رحمه الله.
ونصها:
« سيدي مربي السالكين ومرشد الكاملين المستمد من بحر سيد المرسلين المربي الكبير العلامة الأستاذ الشيخ محمد أفندي حفظه المعيد المبدي آمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: تشرفنا بزيارتكم في محلكم المبارك لا زال ولا يزال إن شاء الله عامرًا بالإرشاد والمواعظ ونشر العلم والفضيلة بوجودكم، ونسأله تعالى أن يديم نفعكم، وأن يمدنا من أنواركم وبركاتكم ويحشرنا جميعًا تحت لواء سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
والرجاء إبلاغ السلام للإخوان وطلب دعائهم وبالأخص الأخ الشيخ محمود فجَّال، ولا تنسونا من دعائكم . حفظكم الله وأدام نفعكم.
تشرين الثاني ٦4
عبد الوهاب الحافظ
الملقب بـ (دبس وزيت ) ا.هــ »

(رسالة الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت إلى السيد النبهان)
مع الشيخ إبراهيم اليعقوبي:
قال الشيخ محمود -رحمه الله-: لما كان عمري عشرين عامًا التقيت العلامةَ التقيَّ الصالحَ الشيخَ إبراهيم اليعقوبي الحسني -رحمه الله- في دمشق، وهو آيةٌ في العلوم النقلية والعقلية، ويكاد لا تغيب عنه المذاهب الأربعة الفقهية، قرأتُ عليه كتابَ شرح السُّلَّم للدمنهوري وأنهيته، وشرح السّلّم للملوي ولم نكمله، وكلاهما في المنطق، وشرحَ ابن عقيل على الألفية ولم نكمله.
والعالم الجليل الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي لم يولد حينما درستُ على والده، وعلمُه كلُّه من والده مع الدراسة التقليدية، وأنا زرتُ والدَه بعد الدكتوراه فكان ملازمًا لوالده من صغره. اهـ.
ومن شيوخه:
الشيخ حسن حبنكة الميداني (التفسير والنحو).
وفي مدينة القاهرة أخذ عن بعض الأساتذة الأجلاء أمثال:
الأستاذ الدكتور محمد رفعت محمود فتح الله.
والأستاذ الدكتور عبد السلام محمد هارون.
والأستاذ الدكتور أحمد حسن كحيل.
والأستاذ الدكتور محمد طه الزيني.
إضافةً إلى من تلقَّى عنهم العلم في الثانوية الشرعية بحلب، وكلية اللغة العربية في الأزهر.
وكان مشايخه يصفونه بالنبوغ والذكاء، وبعضهم يأبى أن يقرأ الدرس إن لم يحضر (الشيخ محمود).
مؤلفاته:
صنَّف كثيرًا من الكتب في علم النحو وأصوله والفقه، وقد طُبع كثير منها في حياته، ولقيت قبولًا كبيرًا، وكُتِب فيها تقريظات كثيرة.
وله تحقيقات متعددة مطبوعة، وبحوث علمية منشورة في مجلات مُحكَّمة، ومقالات منشورة في صحف اليومية، تربو عناوينها على السبعين، منها:كتاب (الحديث النبوي في النحو العربي).
كتاب (السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث في النحو العربي).
كتاب (ارتكاز الفكر النحوي عند سيبويه على الحديث والأثر).
كتاب (الإصباح في شرح الاقتراح للسيوطي).
كتاب (القلائد الذهبية في قواعد الألفية)
كتاب (سبل الهدى في تهذيب شرح قطر الندى).
كتاب (الوافية في علمي العروض والقافية).
كتاب (الصحيح والضعيف في اللغة العربية).
كتاب: (التدريب على الإعراب في النحو العربي).
تحقيق كتاب (الاقتراح في علم أصول النحو وجدله للسيوطي).
تحقيق كتاب (فيض نشر الانشراح من روض طيِّ الاقتراح لأبي الطيب الفاسي).
تحقيق كتاب (تخريج أحاديث الرضى على شرح الكافية).
تحقيق كتاب (الكافي في شرح الهادي للزنجاني). (وهو رسالته للدكتوراه).
تحقيق كتاب (شرح قواعد الإعراب للكافيجي). (وهو رسالته للماجستير).
تحقيق كتاب (معيار النظار في علوم الأشعار).
تحقيق رسالة في إعراب حديث: «كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل لابن هشام».
تحقيق رسالة في (نسبة الجمع لابن كمال باشا).
تحقيق رسالة (الإذن إلى توجيه «لاها الله إذن» للسيوطي).
كتاب (روح وريحان) وهو مجموعة مقالات في القرآن الكريم.
كتاب (الإبانة عن حمل الإنسان للأمانة)، شَرَحَ فيه قوله تعالى: إنَّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا) (الأحزاب 72).
كتاب (القول المبين في معنى قوله تعالى: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)
كتاب (أحكام الحج على المذاهب الأربعة).
كتاب (الخلق العظيم في حروب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم).
كتاب (الإعلامُ عن حركةِ راءِ «اللهُ أكبرُ» في الإعلامِ)
كتاب (القرآن الكريم منهج متكامل لإصلاح المجتمع).
كتاب (الروضة الندية) في السلوك.
كتاب (الطريق إلى طلب العلم).
كتاب (أبو بكر الصديق h فضائل، خصائص، مواقف).
كتاب (أمير المؤمنين عمر بن الخطاب h فضائل، خصائص، مواقف).
كتاب (فضل اللغة العربية على اللغات كفضل القمر ليلة البدر على الكواكب).
كتاب (تحقيْقُ مَعْنَى إِضَافَةِ الأَوْقَافِ إِلى الأَمْوَاتِ).
كتاب (مقالات في السياسة والمجتمع).
كتاب (النحو قانون اللغة وميزانُ تقويمها).
كتاب (كنز الأخيار في الجمع بين اللباب والاختيار) في أحكام الفقه الحنفي.
كتاب (فوائد ومختارات).
بحث: الحديث النبوي ينبوع فيَّاض للنحو العربي.
مقال: عقودُ الجُمان في أمثال القرآن.
بحث: ضرائر النثر في النحو العربي.
بحث: قضايا نحوية حول التناسب في الفاصلة القرآنية.
بحث: الضرائر الشعرية والنثرية في النحو العربي.
بحث: في التراث الإسلامي العربي وقيمته الحضارية.
بحث: الاحتجاج في العربية: المحتج بهم – زمان الاحتجاج.
بحث: توجيهات نحوية للحديث النبوي: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا.
بحث: النحو العربي: ادعاء صعوبته – طريق معرفته.
بحث: نظرات نحوية في لغة طيِّئ.
بحث: الزنجاني: حياته ومؤلفاته.
بحث: الكافيجي: حياته ومؤلفاته.
بحث: ابن كمال باشا: حياته ومؤلفاته.
بحث: عبد القادر البغدادي: حياته ومؤلفاته.
بحث: أولًا وسلاسلًا عربيتان فصيحتان محكيتان.
بحث: مواضع استعمال حروف الجر مع الفعل أرسل.
بحث: شيوع الألفاظ والتراكيب الأعجمية وأثره في اللغة العربية.
محاضرة: الطريق إلى طلب العلم.
محاضرة: قيمة المخطوطات.
محاضرة: ملحة الآداب في حلية الطلاب.
وغيرها من التآليف والتحقيقات والبحوث والمختصرات ومختارات الفوائد.
وفاته:
انتقل إلى رحمة الله تعالى ظهر يوم الخميس الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 1437هـ، وصُلِّي عليه في جامع الراجحي بمدينة الرياض، ووري جثمانه الثرى في مقبرة النسيم، وقد نعاه أبناؤه وطلابه ومحبوه شعرًا ونثرًا، وأُعلنت وفاته في الصحف والقنوات الفضائية ومواقع الأخبار في الشبكة العالمية.
وكان يومُ وفاتِهِ خلاصةَ حياتِهِ كاملة، فقد كان يومُه الأخير في هذه الدنيا في قيامٍ وذكرٍ وصلاةٍ وعلمٍ واجتماع مع أسرته، وقد نقل من على مائدة العلم في موضع صلاته إلى مثواه الأخير، آنسه الله وطيّب ثراه من طيب الجنَّة وزادها ضياءً ونورًا.

قبر الدكتور محمود فجَّال (رحمه الله)
قال فيه الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي:
بَدْرُ السَّماءِ تَبَدَّى اليومَ مكتئبًا
ينعي إمامًا عَلا في العلم مَنْزلةً
بَحْرُ البيان إمامُ النحو ذُو أَدَبٍ
فَلْتَبْكِ محمودَ هذا اليومَ مكتبةٌ
فلتبك محمود هذا اليوم كوكبةٌ
عليه من رحمات الله صيِّبها
|
|
ينعي المكارمَ والأخلاقَ و الأدبا
فوق السِّماك تُسامي الأنجم الشهبا
جمٍّ وفضل به قد جاوز السُّحُبَا
مِنَ التآليف فيها العلم قد كُتِبا
مِنَ التلاميذ صاروا سادةً نجُبا
تَسْقِي ثراه بغيثٍ سَحَّ مُنْسَكِبا
|
رحمه الله، آنسه الله، جمعه الله بأحبابه في عليين.
رثاؤه:
كتب فيه العلامة الدكتور محمد فاروق النبهان حفيد السيد النبهان h:
انتقل إلى رحاب الله صباح اليوم في الرياض الأخ الصديق العالم الكبير الباحث المتمكن الأستاذ الدكتور محمود فجال -رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته- عرفت الأخ الشيخ محمود فجال منذ أكثر من خمسين عامًا في الكلتاوية النبهانية، وكان من الملازمين لمجالس الجد السيد النبهان، والمحبين له، والصادقين، وكان محبًّا للعلم ويبحث عن مجالس العلم في كل مكان، ويتصل بالعلماء. ويأخذ عنهم العلم، وكان ملازمًا للكلتاوية ولم ينقطع عنها، وكان يتميز بأخلاقية العلماء في حياته وحديثه ويتميز بالأدب والهدوء والحكمة، وكان عالمًا متمكنًا، وأهداني بعض كتبه العلمية، وهو من أعمدة الكلتاوية العلمية، ومن أساتذة علمائها ورموزها، وكان يتميز بالاستقامة والاعتدال، وكان يحظى بمكانة لدى السيد النبهان -طيب الله ثراه- وقد أطلعني على بعض ما كتبه من ذكرياته عن السيد النبهان ويملك الكثير مما يحتفظ به في ذاكرته وهو ممن يوثق بما يرويه فهمًا ودقةً وحفظًا وأمانة، وأتمنى أن تنشر بعض هذه الذكريات المهمة والمعبرة، وكان مما أوصاه السيد النبهان به كما حدثني بنفسه أن تكون عبادته هي العلم، وأن يتفرغ له، ولا شيء غيره، وكان دقيقًا في تحقيقاته العلمية.
وإنني أقدم صادق العزاء والمواساة لأسرته الصغيرة، وأنجاله، وإلى أسرته الكبيرة الأسرة النبهانية، وإلى الأسرة العلمية في كل مكان، فقد أضاف الكثير من عطائه العلمي في مجالات اختصاصه اللغوي والشرعي. أدعو الله أن يتغمده برحمته الواسعة وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكتب عنه الشيخ العلامة جمال شاكر النزال:
الحمد لله الحي الذي لا يموت، صاحب العزة والجبروت، والصلاة والسلام على من أنزل عليه القرآن وآله وأصحابه أجمعين، والرضى عن سيدنا محمد النبهان، قدس سره الشريف.
إني أُعَزيكم لا على أَمَلٍ مِنَ البقاء ولكن سُنَّةُ الدِّين
فلا المعزّى بباق بعد ميته ولا المعزيّ وإنْ عاش إلى حين
هكذا هي الدنيا نزول وارتحال، ونعم الختام يا شيخ محمود فجال.
لقد عرفناك وأنت شاب في الحضرة النبهانية، ذلك الفتى المتوقد الهميم، ودارت الأيام وبعد فراق لسنين عدنا فالتقينا في الربوع النبهانية المشرفة، وإذا بك بتلك الهمة والجدية والمحبة بل قد زانك الله هيبة ورفعة.
فأقول على ما عرفت عنك:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ (الأحزاب 23).
هنيئًا لك يا أبا محمد هذه الخاتمة فلقد صدقت الله فصدقك الله. صدقت بمحبة واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وصدقت باتباع سيدنا محمد النبهان -رضي الله عنه- فصدقك الله، فها هي الخاتمة تعلن لنا عن مكانتك، فقد رحلت في ديار الغربة ونلت شهادة الاغتراب، وانتقلت وأنت تطالع الكتاب، ونزلت قبرك عصر يوم الجمعة للقاء الأحباب.
فيا أبا محمد أسأل الله الذي ختم لك هذا الختام الشريف أن يجعل قبرك روضة من رياض جنانه ويكللك بحلائل رضوانه، وأن يجعلك قرير العين بلقاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واستقبال مرجعنا سيدنا محمد النبهان -رضي الله عنه-، فالمرء مع من أحب.
وكتب الشيخ هشام الألوسي:
واحزناه !!! وامحموداه!!! وا أُخيياه !!!
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا سادة وبعد:
فقد كنت أسمع بالشيخ الدكتور محمود يوسف فجَّال دون رؤية لجنابه قبل انتقال سيدنا الحبيب محمد النبهان -عليه السلام-، ثم كتب لي أن أتشرف برؤيته وأنا في الرحاب الطاهرة، إذ كنت أقيم الشهر والشهرين والثلاثة بجوار سيدنا في ضيافته مع جناب السيد أحمد أبي فاروق -آنسه الله وأرضاه- وكان الشيخ محمود فترة تواجده في حلب يصلي الفجر في الكلتاوية، وابن سيدنا الحبيب يقدمه إمامًا، فرأيته رجلًا تعلوه الهيبة والسكينة والوقار، فإذا فرغ من الصلاة قبل يد ابن السيد الحبيب، وخرج دون أن يبت ببنت شفة، ذلك ديدنه كل يوم، وحظيت بمجالسته فترة إدارة السيد بشار -حفظه الله- يحضر المجلس وهو على حالته تعلوه المهابة والأدب والحياء، لكنه بالنسبة لي لغز لاأعرف عنه غير الاسم والرسم وهيئة العلماء، وأنه واحد من الرعيل الأول الصادقين مع سيدنا الحبيب h ولم نلتق بعد غزو العراق في 9 نيسان 2003م حتى هيَّأ الله -سبحانه- لنا أن نتواصل عن طريق منتدى النفحات النبهانية، الذي جمع الشتات ووثق الصلات، فبادرني برسالة تقييم لكتاب السيد النبهان h ثم مضت سنتان وكأنهما ساعة من نهار، بدأت كوامن الكنز المخفي تتكشف، قناة علوم وفهوم ربانية، وعين بصيرة نبهانية تستلم وترسل دون ملل أو كلل في غيث متواصل وسيل الكتروني نبهاني لا يتوقف، يكتب عن سيدنا النبهان الحبيب ويعلق ويتابع ويدقق ويحقق لتكون كلمته القول الفصل فيما ما ينشره المنتدى، وإخواننا يترقبون رسائله ويتطلعون لما يبثه وينثره من شلال عذب من قمة جبل أشم، فلا تلحظ في كلامه رنة الشهرة، ولا حظا لنفس ولا دعوى، ومن خلال تواضعه وتنزله الحنون أشعرنا أن محبي سيدنا روح نبهانية واحدة، ونور واحد وحالة لا تتجزأ، وأنهم أمة واحدة في خيمة الحبيب السيد النبهان -رضي الله عنه- وظلاله، يتجه همهم واهتماهم على حفظ العهد والود لحضرة الوارث المحمدي، الذي جمع الانتساب إليه جموعًا غفيرة من أطراف المعمورة، رجالًا ونساء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، مضوا على الصراط المستقيم والنهج الاحمدي القويم في بوتقة محبة وسرور، وكهف اتباع ونور، ومن خلال نفحات هذا المنتدى المبارك توفرت لنا فرص التعرف على الكنز أكثر، وتألقت بيننا شخصيته، وهو يتسق إشراقًا ويتسع هلالًا ليلة البدر، لشدة ما ينعكس عليه من تجليات سيده الذي رباه وهذبه وأدبه واجتباه، وجعله عينا من عيونه سراجًا منيرًا ومنارًا كبيرًا يهتدي به السراة إلى سيرة سيد البرية -عليه الصلاة والسلام-، ووارثه سيدنا النبهان -رضي الله عنه-، وأدركنا حينئذ شيئًا من مكنون علمه وحلمه وإخلاصه وصدقه ونقاء جوهرته، وعظيم منزلته التي يغبطه عليها الأمير والعالم والوزير، وانغمس بقلوبنا حب عميق لشخصه، وتركت لنا وفاته خطبًا جللًا، وألمًا وحزنًا شديدًا لفقده، وأحدث رحيله ثلمة لا تسد، وفجوة لا يملؤها غيره.
نعم فجعتنا المصيبة وألهبت صدورنا، وكيف لا نحزن على بدر اختفى وجوهر لا يتكرر، وهل حزننا عليه لكونه صاحب مؤلفات كثيرة وعلوم غزيرة، وأنه يحمل شهادات عليا ويمنحها أم هناك سر آخر؟
فأقول: نعم هناك سر تخلل ذاته، وتشربت به ذراته، وطفحت به حياته نورًا وجاذبية وعلومًا ومعارف لدنية، أترك لحضراتكم الإجابة عليه، وكلنا أمل أن نحذو حذوه مع كونه ضربا من الخيال.
وختامًا أتقدم بالتعزية إلى سيدي عميد الأسرة النبهانية الطاهرة الدكتور محمد فاروق النبهان -حفظه الله وأخويه، وإلى أسرة الشيخ محمود وذويه ومحبيه، ولقد رأيت الأستاذ الفقيد واقعة قبل منتصف الليلة الماضية، وإلى جنبه إحدى الحواري، وهي تضحك، فارتدَّ بصري خجلًا، ثم رأيته ضحوة اليوم ثانية، وهو في مجلس كبير يستقبل معزيه، رحمه الله وآنسه في عليين في حضرة سيدنا محمد عليه الصلاة وأتم التسليم، وبمعية من رباه مولانا ومولاه سيدنا محمد النبهان -رضي الله عنه-، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.

وكتب لنا في رثائه الشيخ حامد الصخي:
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ (فاطر 29)
شيخنا الحبيب أبا محمد الأستاذ الدكتور محمود فجَّال، رحمه الله، آنسه الله، في ذمة الله.
أتقدم بواجب العزاء والمواساة بوفاة الدكتور الشيخ محمود فجَّال الى أهل الكلتاوية جميعا الى آل سيدنا محمد النبهان وأصحابه، وأخصّ اولاده الكرام واهله وكلّ محبيه. إنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون.
سيدي أبا محمد: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ، طبتَ حيًّا وطبتَ ميتًا وطبتَ بمعيّة سيدي محمد النبهان. لن يغيب عنّا ذكرك ولن ينقطع برّك وعلْمُك، نستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
سيدي ابا محمد: لقد كُنْتَ الركنَ الركين الذي نأوي اليه إذا ادْلّهَمت المُهمات، وبنور بصيرتك وصفاء سريرتك وبِسرّ رابطتك بشيخك ومرجعك تَنْحَلّ العُقد وتعطي الجواب الشافي بنفحاتك النبهانية، ليجعل اللهُ لك القبول ويُلْقي عليك محبةً منه، وَالله يختص بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ والله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
لقد مَنّ اللهُ عليّ بفضله أن أكون مع الحاضرين في تأبين الشيخ محمد لطفي -رحمه الله- الذي أقامه سيدنا الكريم في جامع الكلتاوية بعد وفاته بأربعين يومًا، ويأتي اليوم الذي أرثي بكلماتي المتواضعة رفيق دربه.
بدايةً استعرتُ من الشريف الرضي بعض أبياته في رثاء أمه:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي
وَأعُوذُ بالصّبْرِ الجَميلِ تَعَزّيًا
كم عبرة موهتها بأناملي
مَا مَاتَ مَنْ نَزَعَ البَقَاءَ، وَذِكْرُهُ
|
|
وَأقُولُ لَوْ ذَهَبَ المَقالُ بِدائي
لَوْ كَانَ بالصّبْرِ الجَميلِ عَزائي
وسترتُها متجملًا بردائي
بالصّالحاتِ يُعَدّ في الأحْيَاءِ
|
سيدي أبا محمد:
لقد وهبكَ اللهُ تعالى قَدَمَ الصدق وَقِدَمَ الصحبة، اختاركَ سيّدُنا الكريم لتكون مُوَجّهًا لطلاب الكلتاوية ومُدرسًا فيها واسْتَخْلَفك عليها عند حَجّهِ، وانْتَدبَكَ في المواقف والمهمات فكنتَ أحقّ بها وأهلَها لأنّك على مراده وأنتَ المريد المراد، وكأنّي بالقائل يعنيك:
الحَزْم والعزم كانا من طبائعه ما كُل آلائه يا قومُ أُحْصِيها
كلماتُك في منتدى النفحات النبهانية مطرّزة بالنور في قلوبنا، فمنك تَعَلّمْنا أَدَّبَ الخطاب وخطابَ الأدب، وحُرمةَ المقام وتعظيمَ الكرام، كرمُ شمائلكم ولطفُ معشركم وسعة صدركم وحسنُ حكمتكم زرعتْ فينا معاني القيم ومعالي الهمم لأنّك تربية المرجع الكامل الذي يقول: «المُرّبى غالي»، «أدَبْ يا هُو».
جزاهُ اللهُ عنّا خيرَ الجزاء وأكْمَلَهُ وأتَمّه.
سيدي أبا محمد:
لقد كنّا معكم أمسِ الجمعة روحًا وقلبًا على بعد المسافات. وكأني بوليّ نعمتنا سيدنا محمد النبهان -قُدّسَ سِرّه العزيز- يضمكم الى صدره الشريف وهو باسم الثغر مُرَحِبًا بقدومكم، وعن يمينه الشيخ محمد لطفي وعن شماله الشيخ محمد حوت رفيقاك في الجنة.
هنيئًا لكم شهادة الحب الذاتي وشهادة العلم وشهادة الغربة، هنيئًا لكم صدقكم واستقامتكم.
شيخنا الحبيب أبا محمد وأنتَ في عالم اللطف واللطافة أبْلِغْ سيدنا محمد النبهان منّا تحيةً وسلامًا واذكرْنا عنده بدعوة مقبولة، اللهم اكْتبنا في ديوانه من المقبولين.
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف 101).
(كلمة الشيخ حامد صخي في ندوة الوفاء والشكر يوم الأربعين في منتدى النفحات النبهانية)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله الذي جعل الموتَ تُحْفَةَ المؤمن، وراحتَهُ بلقاء ربه، المؤمنُ كريمٌ على الله، فإذا قَدِمَ عليه أتْحَفَهُ وأرضاه.
المقام أجلّ وأسْمى لأهل الله وأوليائه الذين اختصهم بلّذةِ النظر والمناجاة، ثَوَابًا مِّنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ.
والصلاةُ والسلام على سيدنا ومولانا محمدٍ أبي القاسم وابراهيم وعبد الله، وعلى آلِهِ وأصحابه ومن اتبعه ووالاه.
أحبتي الأكارم:
نجتمعُ اليومَ في حضرة سيدنا محمد النبهان بقلوبٍ ملؤها الحب والوفاء لتأبين شيخنا المفضال الدكتور محمود فجَّال.
لقد كان لنا القدوة الحسنة والمثل الأعلى والأسوة الصالحة
لعمرك ما الرزيةُ فقدُ مالٍ ولا فرسٌ يموت ولا بعيرُ
ولكنّ الرزية فقدُ حرٍّ يموت لموته خلقٌ كثيرُ
قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لموت قبيلة أيسر من موت عالم».
وقال الفاروق سيدنا عمر -رضي الله عنه-: «موت ألف عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه».
وقال سيدنا علي -كرَّم الله وجهه-: «إذا مات العالم ثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه».
سائلين اللهَ -تعالى- أن يجعل أبنائه البارّين وطلابه البررة خلفًا منه، وما ذلك على الله بعزيز.
لقد كان فقيدُنا الغالي عَلَمًا من أعلام الإسلام، ورُكنًا نبهانيًا نستنيرُ بنفحاته في المهمات، ونأوي إلى سعة صدره وعظيم حكمته في المُلمّات.
لَهُ محطاتٌ لا تُنْسى وبصماتٌ لا تُمْحى، كانَ بَلْسَمًا شافيًا وترياقًا مُجَرَبًا كافيًا لكلّ معضلةٍ حيّرتْ طلبتَهُ أو أشْكَلت على علماء عصره، فهو بحقّ شيخُ النحاة وفقيهُ الدعاة، والله ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ (آل عمران 74).
إخوتي الأفاضل:
نقفُ اليومَ بكل تواضع واجلال لتأبين فقيدنا الغالي اقتداءً بسيدنا الذي أبّنَ الشيخ محمد لطفي -رحمه الله- في مثل هذا اليوم، وكلّنا يعلم بأنّ سيدنا مظهرُ الشريعة وشيخ الطريقة ومعدن الحقيقة، وهو في الشريعة كالسمك في الماء، وهو القائل: الشريعة فوقنا نعمل بمقتضاها والسلام. من هنا كان اجتماعنا اليوم عبادةً وصلةَ رَحْمٍ وتعظيم أهل الفضل والمعروف.
أبا محمد:
إن وقفتُ اليوم على شاطئ بحركم أذكر بعضَ فضلكم فما ذاك إلا لأنكم حسنة من حسنات السيد النبهان رضي الله عنه.
عبيدٌ ولكنّ الملوك عبيدهمُ وعبدهم أضحى له الكونُ خادمًا
أبا محمد:
لن يُطْوى ذكرك ولن يضيع أجرك، ولن أنسى وصيّتك لي في المنتدى بقولك: أنصح نفسي وأخي الشيخ حامد أن يديمَ النظر في الكتبِ وبخاصة تلاوة القرآن ومطالعة العلم والفقه.
لقد اشتقنا لتوجيهاتكم ونصائحكم، شيخنا المحمود يامن حُمِدَتْ سجاياهُ وبُورِكَتْ بالنبهانِ شَمائلُهُ وخُطاه، إنّ لحديثكم سِرًّا يسري سرُورُهُ الى القلوب. لأنك جعلتَ مرضاة الله نصب عينيك فجعل اللهُ لكلامك رونقا وقبولا، وكانت كلماتُك عظيمةَ المعاني والمباني تحملُ في طياتها أنوار المريد المراد الذي تَجرّدَ من الأغْراض وبهذا أذْهَلَتْ قارئَها مكنونات أسرارها.
أبا محمد:
نستضيئُ بنوركم إذا الليل ادلّهم، وبنفحاتكم نزدادُ همّةً وقربا كلّما دهى أمْر وألّم
أيا زمنَ الرَّندِ الذي بين لَعْلَعٍ تَقَضَّى لنا هل أنْتَ يا عصرُ راجعُ
لقد كان لي في ظِلِّ جاهِكَ مَرْتَعٌ هَنيءٌ وَلِي بِالرَّقْمَتَينِ مَرَابِعُ
عرفنا الشيخ محمود فأحببناه، نبهانيًّا ذاتيًّا من أهل العناية يدور مع النبهان حيثما دار، كلّما ازدادَ قُربًا ازداد تواضعًا وخشيةً، ويُسعدُنا مَنْ يَسعُنا، وقد وَسِعَ جَمْعَنا باللطف والرحمة والسعة والحكمة، جزاه الله عنّا خير الجزاء وحفظ اللهُ اخواننا وألّفَ بينهم وجعلهم شهداء الله في الارض وشُفعاءَ مُشَفّعين في الآخرة
أبا محمد:
نحتسبك عند الله -تعالى- من الذين قال فيهم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب 23).
لقد منحك العارف بالله سيدنا محمد النبهان -قدس الله سره- أوسمة النجاح والفلاح، منحك مرتبة الحفظ حين قال لك في قصة مشهورة (معك إذا ما راحت مع مين تروح) إنها ثقةُ العارف المُربي بمريده الأمين
وبَشَرّكَ سيدنا بالفتح، وقال لك: «الله لا يضيمك لافي الدنيا ولافي الآخرة والله معك» فهنيئًا لك هذه الدعوة المباركة المستجابة.
وبشرك فقال: «سيظهر في وجهك كنز»، وقال عنك: «هو عندي في الدرجة الأولى»، وقال لك: «ستشاهد بوارق الحقائق ذوقًا بنَفَسٍ واحد»، وقال عنك: «أنا راض عنه كل الرضا»، وهي المرتبة التي حظي بها أخوك ورفيقُ دربك الشيخ محمد لطفي -رحمه الله- عندما قال عنه سيدنا الكريم: «أنا راضٍ عنه كلّ الرضا».
أبا محمد:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ
عـلـيك ســلامُ الله مـني تـحيةً ومنْ كلِّ غيْثٍ صادِقِ البرْقِ والرَّعْدِ
سلامٌ على تُرْبِ النسيم وثراهُ الذي ضمّ جسدك الطاهر، سلامٌ على روحك الطيبة ونفسك الزكية المطمئنة، فَنَمْ قريرَ العين بمعية حبيبك سيدنا محمد
النبهان رضي الله عنه.
﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء 69).
اللهم ثَبّتْنا على ما يُرْضيك وقَرّبْنا مِمّنْ يُواليك واجعل غاية حبنا فيك. اللهم اختم لنا بالسعادة التي ختمت بها لأوليائك واجعل خير أيامنا وأسعدها يوم لقائك برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين اللهم آمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب لنا في رثائه تلميذه الشيخ محمود العبيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد عليه أفضل السلام وأتم التسليم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إخوتي الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعزي نفسي وأعزيكم أحبتي بوفاة أستاذنا ومعلمنا الشيخ محمود يوسف فجال الذي وافته المنية يوم الخميس 13 ربيع الأول 1437هـ، عظم الله أجركم وأحسن عزاءكم.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا أبا محمد لمحزونون. نعم فقدنا عالمًا من علماء اللغة العربية العظماء. فقدنا كنزًا من كنوز الكلتاوية المباركة، فقدنا درة نبهانية كريمة وجوهرة ثمينة غالية، نعم إنه لمصاب جلل لنا ولطلاب العلم خاصة وللأمة الإسلامية عامة.
وإن في انتقاله ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه، والحمد لله ترك ذرية صالحة مثقفة، ومؤلفات جمة في العلم الذي ينتفع به، وأرجو من الله تعالى أن يكون حصل على الخصلة الثالثة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الصدقة الجارية، وهذه بينه و بين ربه -سبحانه- و في الحديث الشريف: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة من صدق جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له».
ومن منا لا يعرف فضل أستاذنا الراحل في جديته وصدقه وفطرته ومحبته لسيدنا الكريم العارف بالله الشيخ محمد النبهان رضي الله عنه.
رحل في شهر ربيع الأنور يدلنا ذلك على صفائه ونورانيته، نعم رحل وهناك عيون دامعة وقلوب حزينة لفقد أولئك العلماء العظماء المخلصين، حشرنا وإياهم تحت لواء سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ووارثه الكامل الشيخ محمد النبهان -رضى الله عنه وأرضاه- الذي ربانا وعلمنا وهذبنا وكلنا حسنة من حسناته.
جمعنا الله به وبأحبائه في مستقر رحمته في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إخوتي الأعزاء:
إن فقيدنا الغالي الشيخ محمود قد قضى عمره المديد المبارك بالعلم والتعليم وخاصة في الغربة ونقل إلى الرفيق الأعلى من المحبرة إلى المقبرة كما قيل. طلب العلم للعلم، وصبر في سبيل طلب العلم، وقدم كل ما يملك في سبيل تحقيق ذلك، فأعطاه الله تعالى كل ما تمناه، والحمد لله رب العالمين.
أبا محمد وين رايح التفت، سلم علينا، ما شبعنا من حنانك وعلمك، وما روينا منك، ومن حبك وإخلاصك، وتفانيك في حبِّ الله تعالى وحب حبيبه الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحبِّ وارثه شيخنا وحبيبنا السيد محمد النبهان -رضي الله عنه- يشهد على ذلك اتباعك لحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وعمامتك البيضاء وجبتك الأنيقة ولحيتك البيضاء زاهية الأنوار .
أستاذنا أبا محمد:
لقد اختبرتَ من قبل السيد الكريم رضى الله عنه وأرضاه ونجحتَ في الاختبار بتوفيق الله تعالى لك لحرصك وإخلاصك لما ضاقت عليك الدنيا وأردت بيع بيتك لتكمل مسيرة العلم دعاك السيد الكريم -رضي الله عنه- إلى مكتبه وقال لك: يا شيخ محمود تبيع بيتك وأنا موجود؟! وسحب السيد الكريم درج الطاولة ليخرج لك مالًا. إنه والله اختبار صعب إذا أخذت منه أو رفضت طلب حبيبك ولكن العناية الإلهية وفقتك أن ترد العرض بكل أدب واحترام لصاحب الكرم والجود أبي أحمد. فقلت له: سيدي ومولاي سألتك بحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم لا أريد مالًا ولا آخذ من فضيلتك مالًا أنا لم أصحبك لأجل الدنيا. فنجحت في هذا الاختبار الصعب فحصلت على درجة الامتياز الأولى من الرضا. لذلك قال عنك السيد الكريم رضى الله عنه وأرضاه: (محمود أنا عنه راض). هنيئًا لك هذا الوسام يا أبا محمد لأنك لم ترد من حبيبك الدنيا وإنما أردت محبته فقط.
إخوتي الكرام: الرضا هو السعادة الا بدية التي يتمناها كل مؤمن قال الحق سبحانه لموسى عليه السلام: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ ( طه 83-84).
وقال الحق سبحانه لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ (الليل 19-21)
إخوتي الكرام:
لقد خَبِرتُ أستاذنا الشيخ محمود عن قرب لما كنت طالبًا في مدرسة دار نهضة العلوم الشرعية بحلب فكان نِعمَ المعلم، ونعم المدرس، ونعم المراقب. قدم لنا كل خير وكل علم مفيد وكل رعاية أبوية حانية.
1- هو أول من كلفه السيد الكريم بالمراقبة والتدريس في مدرسة دار نهضة العلوم الشرعية بحلب.
2- أول من كلفه السيد الكريم بلف عمائم الطلاب الأوائل.
3- ثم علمني لف العمائم للطلاب فكنت ألف لإخوتي الطلاب عمائمهم.
ثم خبرته لما كنت مراقبًا ومدرسًا في مدرسة دار نهضة العلوم الشرعية بحلب، فكان نعم الأخ ونعم الصديق الوفي، رحمه الله تعالى.
ومرة أرسلت له رسالة لما كان في مصر يخبرني عن نتيجة اختباري في كلية اللغة العربية في السنة الثالثة لأن أحد زملائي أخبرني أني راسب أرسلت إليه رسالة وهي محفوظة عندي في سوريا قال فيها: «كن راسبًا وأنت ناجح، ولا تكن ناجحًا وأنت راسب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
فلم أفهم منها شيئًا ولكن بعد الاطلاع على النتيجة من قبل بعض الأصدقاء عرفت سر هذه الرسالة كان يقصد -رحمه الله تعالى- أن أطلب العلم للعلم لا لنيل الشهادة، وعلي أن أخلص العمل لله تعالى، و أن أحظى برضا الله تعالى لأنه هو بغية كل مؤمن.
ولقد شرفني بزيارة منزلي لما كنت مريضًا في الدمام فقال لي: لا تخف من الموت إن شاء الله لن تموت الآن بإذن الله لأن لحيتك أكثرها سواد، وكان عمري آنذاك خمسًا وعشرين عامًا، والآن والحمد لله رب العالمين شارفت على السبعين وأرجو من الله تعالى حسن الخاتمة.
كان آخر عهدي بمجلس الشيخ -رحمه الله تعالى- قبل نحو سنتين ونصف تقريبًا حين جاء مع ولده الدكتور يوسف إلى منتجع في شاطئ نصف القمر على مقربة من الدمام فلما علمت بمجيئه اتصلت به وسلمت عليه و دعوته بإلحاح، فاعتذر بشدة لأمر ما، فاتصلت بالأخ الشيخ إبراهيم منصور وأخبرته بأن أستاذنا الشيخ محمود فجال في شاطئ نصف القمر ودعوته فاعتذر، حاول أنت معه لعله يستجيب فنحظى برؤيته و نتبارك بمجالسته، والحمد لله استجاب أستاذنا لدعوة الأخ الشيخ إبراهيم منصور، وكانت جلسة روحانية عامرة بالحب والمودة بين أستاذ جليل وأبناء شغوفين بحبه مشتاقين لرؤيته بعد مدة طويلة من الزمن وكانت ساعة صفاء وسرور من الجنة والحمد لله رب العالمين.
أستاذي ومعلمي العالم النحوي الراحل أبا محمد: أعزي فيك نفسي وإخوتي الكرام الذين نهلوا من علمكم، كما أعزي الأسرة النبهانية التي كنت من بقية أوائلها، وأعزي أسرتك الكريمة وأولادك البررة وإخوتك الكرام وكل من يلوذ بك من قرابات وأرحام وأحباب ومحبين، وأعزي أسرة المنتديات النبهانية المباركة التي كنت من المشاركين فيها بعلمك وفكرك ونصحك وإرشادك و إخلاصك.
وأهنئك بحسن الخاتمة ولقاء الأحبة من الأسرة النبهانية التي سبقتك إلى عالم الآخرة وعلى رأسهم صاحب الفضل علينا بعد الله أبو أحمد حبيبنا وقرة أعيننا الشيخ العارف محمد النبهان h هذه آمالنا جميعًا السابق منا واللاحق.
كلمة الشيخ محمود العبيد في ندوة الوفاء والشكر يوم الوفاء والشكر يوم الأربعين:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إخوتي الأكارم امتثالًا لأمر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بقوله: «اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم»، وتنفيذًا لسُنّة علمائنا الأفاضل وعلى رأسهم الحبيب سيدنا محمد النبهان -رضي الله عنه- في تأبين موتانا وحضورهم أربعينيتهم من ذلك حضور السيد الكريم تأبين الشيخ محمد لطفي -رحمه الله تعالى- وحضور سيدنا -رضي الله عنه- أربعينيته، وأيضًا شهادة الأخ لأخيه الميت مقبولة عند الله تعالى لأن المؤمنين شهداء الله في الأرض والملائكة شهداء الله في السماء، لقد ورد في الحديث الشريف: أنه مرت جنازة برسول الله صلى الله عليه وسلم فأثني عليها بخير حتى تتابعت الألسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت، ومرت جنازة فأثني عليها بشر حتى تتابعت الألسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت-، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله قلت في الجنازة الأولى حيث أثني عليها خيرًا: وجبت، وقلت في الثانية كذلك، فقال: هذا أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار إنكم شهود الله في الأرض مرتين أو ثلاثًا، وفي رواية أخرى: الملائكة شهود الله في السماء وأنتم شهود الله في الأرض.
لذلك أقول وبالله التوفيق:
إننا نشارك اليوم في 21 ربيع الآخر1437 هـ في أربعينية أستاذنا ومعلمنا محمود فجال -رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته- أستاذنا الشيخ محمود فجال علم من أعلام اللغة العربية وطود من أطواد الجامعة حيث العطاء الثر والتنوع العلمي والتجسيد السلوكي الصافي من منبع السيد الكريم h الذي يحمله أستاذنا الفاضل، وقد حول هذا السلوك إلى الواقع صدقًا وإخلاصًا ومحبة.
ونحن عندما نتحدث عن أستاذنا الراحل العلامة النحوي بعطاءاته نجد أنه كان علامة النحو متميزًا في طريق الصعود العلمي منذ أن نشأ وترعرع ومنذ أن اعتلى منابر الفكر ومجالات المعرفة فأعطى ما استطاع أن يعطي.
إخوتي الكرام:
أستاذنا الراحل طلب العلم للعلم وصبر في سبيل ذلك، وقدم كل ما يملك في سبيل تحصيل العلم فأعطاه الله ما تمناه، والحمد لله رب العالمين، ولقد ورد في الحديث الشريف قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» (سبق تخريجه).
وإن أستاذنا الراحل والحمد لله قد حصل على هذه المكرمات الثلاث إن شاء الله تعالى الصدقة الجارية هي بينه وبين ربه والعلم مؤلفاته ومشاركاته العلمية وتعليمه لطلابه منذ اعتلائه منابر التدريس إلى آخر يوم من حياته كما قيل: «من المحبرة إلى المقبرة» والولد الصالح خلف أولادًا مثل الأقمار على درجة من العلم والخلق والدين نرجو من الله تعالى أن يجعلهم هداة مهتدين رجالًا صالحين مخلصين.
إخوتي الأفاضل:
والله إنها لتعجز الكلمات عن التعبير في أستاذنا الراحل!
كيف لنا أن نكتب عنه وهو من طوع الحروف وشكلها؟!
كيف لنا أن نمسك القلم من أجله وهو سيد الأقلام؟!
وكيف يكون للتلاميذ حضور في حضرة معلمهم وأستاذهم؟!
رحمك الله أبا محمد يا رمز الوحدات ويا سعد الكلمات من منا لا يحب أبا محمد ومن منا لا يرثيه.
كما قال الشاعر:
إن كان غادر حِبّنا الدنيا فقد
|
أفضى إلى رب يثيب ويسعد
|
نم مطمئنًا كلنا عهد على
|
إتمام مشوار لمثلك يسعد
|
كرم وإقدام وعلم نافع
|
قلب سليم واللسان مفرد
|
وقال الآخر:
وإن يك دمع عيني غير مُجْدٍ
|
فدمْعُ الحرف مغنٍ في الشعور
|
وتبغتنا المَنون بغير إذن
|
وتسلمنا العمارة للقبور
|
إخوتي الأعزاء:
إن فقيدنا الراحل حبب إليه من العلوم علم اللغة العربية نحوًا وصرفًا وخطًّا والفِقْه وإن كانت اللغة العربية هي الأولى من تلك العلوم.
وكان جمع الكتب عند أستاذنا الفاضل أحب إليه من جمع الذهب، ومن معين علم اللغة العربية أنهل طلابه وأعلهم، وكنت بحمد الله منهم في دار نهضة العلوم الشرعية في حلب، وكنت من أوائل طلاب دار نهضة العلوم الشرعية.
أنا الفقير لله -تعالى- عاصرت أستاذنا الراحل وأنا طالب ومدرس ومراقب وصديق وأخ وفي، ففي كل مرحلة له أسلوبه الخاص.
في أيام الدراسة عهدت منه الحزم والعزم والهيبة وفي مرحلة التدريس عهدت منه التودد والملاطفة تختلف تمامًا عما عهدته في أيام الدراسة حتى لكأنه رفع بيني وبينه الكلفة في تلك المرحلة، والحق أنه ما رفعها ولكنه الفرق بين تعامل الأستاذ مع طلابه وتعامله مع زملائه في التدريس وإني تعلمت منه الكثير والكثير في العلم والأدب والأخلاق وغير ذلك.
من ذلك كتابة كل معلومة مفيدة لأنه كان -رحمه الله- يرد على مسامعنا قول الشاعر:
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُهُ قَيِّدْ صُيُودَكَ بالحبال الواثقة
فَمِنَ الحماقَةِ أنْ تَصيْدَ غزالة وتدعها بين الخلائق طالقة
مما تعلمته منه: أسلوبه الرائع في توصيل المعلومة، وإني أضرب لكم مثلًا بي.
جئت إلى الكلتاوية لا أفقه من النحو شيئًا، وكنت لمّا يقال لي أعرب الجملة التالية: (أكرم صالح خالدًا)، كنتُ أُهَجِّي الكلمات تهجيًا لأني لا أميز بين الفعل والفاعل والمفعول به والاسم المجرور، لا أميز بين الفعل والاسم والحرف.
وبعد شهرين من الدراسة عمل لنا الاختبار النصفي فأخذت في النحو 16/20، وأخذت الدرجة الثالثة على أكثر من 25 طالبًا، والحمد لله، وكان ذلك بفضل الله تعالى، ثم بفضل أسلوب أستاذي ومعلمي الراحل، رحمه الله تعالى.
ومما تعلمته منه أيضًا: الحلم والتواضع.
وأضرب لكم مثلًا بي. دعاني مرة لغرفته حيث كان يومها مراقبًا في المدرسة ومدرسًا، كان ذلك في الأيام الأولى من دخولي في مدرسة دار نهضة العلوم الشرعية في حلب لأنني كنت أكبر الطلاب عمرًا 18 سنة تقريبًا فقال لي: تعرف تحلق بهذه الآلة؟ قلت له: لا أعرف الحلاقة بهذه الآلة. فقال لي: الأمر سهل جدًّا. أمسك الآلة هكذا ثم حرك أصابعك فقط، فأخذت آلة الحلاقة، وأنا خائف أن أسيء استعمالها وعند ذلك آخذ عقابًا شديدًا من أستاذي الشيخ محمود فجَّال لأنه كما قلت لكم كان حازمًا وشديدًا في تعامله مع طلابه.
ولما بدأت بحلاقة رأسه من الخلف طبعًا لأنه هو الذي حلق مقدمة رأسه والجانبين أيضًا فعلقت الآلة بشعره فصاح بي فتركتها معلقة برأسه فالتف إلي وقال لي: ما هذا؟!
وكنت خائفًا من العقوبة قلت: عفوًا أستاذي قلت لكم ما أعرف الحلاقة بهذه الآلة فكانت المفاجأة التي ماكنت أتوقعها منه يا ولدي كأنك بحياتك ما أمسكت بآلة الحلاقة لا بأس انزعها من شعري بلطف وإذا جاء أخي محمد الحوت سيكمل لي الحلاقة الله يعطيك العافية اذهب إلى إخوانك، وخرجت من عنده وما كنت مصدقًا أن أخرج بدون عقوبة على فِعْلي هذا.
ومما تعلمته منه: تبسيط الوعظ والإرشاد على حسب مستوى السامعين له قال لنا مرة ونحن طلاب في السنة الأولى من الدراسة جئنا من القرى لا نعرف شيئًا عن الآداب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مع العلماء الأفاضل وخاصة مع الوارث المحمدي الكامل سيدنا محمد النبهان -رضي الله عنه- وحتى الأدب مع مكة المكرمة والمدينة المنورة ولا الأدب مع المكان الذي نحن فيه وهي الكلتاوية المباركة
قال: يا أولادي هذه الكلتاوية فيها مكنسة كبيرة جدًّا تكنس كل وسخة فيها ديروا بالكم أن يعمل واحد منكم مخالفة أو قلة أدب فإن المكنسة تخرجه من الكلتاوية فورًا، فكان أكثر الطلاب خائفًا من هذه المكنسة لأنهم كانوا صغارًا لا يدركون ذلك ولكني كنت أكبرهم عمرًا ماكنت أستوعب ذلك كيف يكون هذا الأمر، ولكن ما عرفت سِرَّ هذه الموعظة وهذا الإرشاد الطيب إلا فيما بعد، أنه كان يقصد بذلك أن الكلتاوية كالمدينة المنورة تنفي خَبَثَها كما ينفي الكِيْرُ خَبَثَ الحديد، ولقد ذكرته بهذه المكنسة -رحمه الله تعالى- عندما زارنا في آخر زيارة في مدينة الدمام منذ سنة ونصف تقريبًا في بيت أخي الشيخ إبراهيم منصور فقال لي نعم هذا الذي كنت أقصده بهذه المكنسة، وهكذا تعلمت منه الكثير ثم الكثير، جزاه الله عني خير الجزاء.
وأخيرًا أقول:
لا إله إلا الله، سبحان الحي الذي لا يموت، اللهم اغفر لأستاذنا الشيخ محمود فجال، اللهم ارحمه وأكرم نزله ووسع مدخله واستقبله بوابل رحماتك ورضاك وأفسح له في قبره ونور له فيه وأحسن خلافته في عقبه وأجزه عنا وعن العلم وأهله خير ما جزيت عالمًا عن علمه اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلفنا خيرًا منها آمين يا رب العالمين.

وكتب لي عنه تلميذه الشيخ حسين الأحمد -رحمه الله-:
الحمد لله رافع الدرجات لمن انخفض لجلاله، وفاتح البركات لمن انتصب لشكر أفضاله، والصلاة والسلام على من مدت عليه الفصاحة رواقها، وشدت به البلاغة نطاقها، المبعوث بالآيات الباهرة والحجج، المنزل عليه قرآن عربي غير ذي عوج، وعلى آله الهادين، وأصحابه الذين شادوا الدين وبعد:
لقد فوجئنا برحيل الفقيد، وجاءنا النبأ كالصاعقة، رحل الفقيد بصمت وترك جرحًا في القلوب لا ينسى، رحمه الله، آنسه الله، أكرمه الله منعمًا في أحضان سيدنا ومربينا السيد النبهان قدس سره العظيم.
أستاذنا الكريم فقيدنا العظيم: عرفتك في بداية حياتي وأنت في عنفوان شبابك وأنا في الفوج الثاني في الكلتاوية، وفارقتنا وأنا قد تجاوزت الستين.
عاصرت الفقيد وهو موجه جليل، وعشت في كنفه مدرسًا لنا مادة النحو والخط، وعرفته أبًا عطوفًا حنونًا.
مراحل ثلاث في حياة الفقيد أتذكرها وأتحدث عنها:
في شبابه -رحمه الله- كان من أوائل من كلف بالتوجيه في الكلتاوية مع فضيلة الشيخ صالح بشير –رحمه الله- فكان الفقيد متصفًا بالجلال والهيبة والوقار، ما رأيناه إلا الرجل الجلالي الحازم في الأمور كلها لا يجامل، يقول كلمة الحق، لايجد المزاح طريقًا إليه، شديد المحاسبة، كله مهابة وجلال، كله حرص على توجيه الطلاب، وأن لا يضيعوا شيئًا من الوقت في غير طلب العلم وتحصيله حتى أثناء الفسحة بين الدرسين لا يرضى لأحدنا أن يكون في الباحة وليس معه كتاب يُحضّر للدرس القادم، لا يرضى أن يرى طالبًا غافلًا أو لاهيًا أو ضاحكًا، كله مهابة وجلال.
وعاصرت الفقيد وهو مدرس يدرسنا النحو والخط، ودرست عليه كتاب قطر الندى، فكان مثالًا في العطاء، لا يألو جهدًا في عطائه، يبذل كل قوته وعلميته في إغناء الدرس وعدم إضاعة أية ثانية، يتابع الطلاب فيما أعطاهم، يحاسب كل طالب لم يحفظ درسه، لا يتساهل في هذا الجانب، لقد كان بصدقٍ معطاءً ضابطًا للدرس بكل ما تعنيه هذه الكلمة، يكرم المتفوق، ويثني عليه، ويغرس التنافس بين الطلاب في العلم.
وذات يوم ونحن في درسه فوجئنا بكوكبة من الرجال يدخلون الصف ومعهم المدير المرحوم الشيخ محمد لطفي -رضي الله عنه- (عرفنا بعد ذلك أن الملحق الثقافي في سفارة الكويت وبعضًا من أعضاء السفارة وأعضاء الجمعية هم من حضر الدرس)، فلم يتغير حديثه ولا عطاؤه، وقد نال إعجاب الجميع عرفنا بعد ذلك وكما قيل لنا أنه بعد الانتهاء من الدرس أحبوا أن يتعاقدوا مع الفقيد وسألوا عن الشهادة التي يحملها، ولم يكن يحمل شهادة جامعية، فأسقط في أيديهم، ومن وقتها كان قد شمر عن ساعد الجد وعزم على متابعة التحصيل العلمي، وكان -رحمه الله- لا يملك من الدنيا إلا البيت الذي يسكنه والكتب التي يعشقها، ولكن في سبيل الهدف الذي عقد العزم عليه (وهو الحازم في أموره) ترخص زخارف الدنيا، فباع بيته الذي يؤويه والكتب التي يعشقها، وتابع تحصيله العلمي في جامعة الأزهر، وحصل على ما حصل مما هو غني عن التعريف.
والتقيت الفقيد وهو رب أسرة في القاهرة، فرأينا شخصًا غير الذي نعرفه، كله حنان وعطف ورحمة، ورأينا آنذاك ابتساماته الحلوة التي ما كنا نعرفها، فهومن رآه على بعد هابه لجلاله، ومن خالطه أحبه لتواضعه وحبه، رأيناه كله تواضع، لين الجانب، عذب الكلام، يطيب خواطرنا بكلام كله حب ومودة، ويصغي لكلامنا، ويسأل عن كل فرد، من الذي تابع دراسته ومن الذي لم يتابع دراسته.
وكان آخر لقاء لي به -رحمه الله- أثناء آخر زيارة له إلى الكلتاوية وكنتُ واحدًا من أعضاء الهيئة التدريسية في الكلتاوية، التقينا به في تلك البقعة الطاهرة الأم مأوى الأولياء وملجأ ومنبع العلماء وشرفت بمرقد الوارث المحمدي المربي سيدي النبهان قدس سره العزيز، وألقى محاضرة حضرها المدرسون والطلاب، وضمتنا مأدبة غداء تعرّف على كل فردٍ منا، وانقطع الاتصال به -رحمه الله- وفي أحد الأيام وأنا أتصفح ما أرسل على منتدى النفحات النبهانية رأيت كلمة للفقيد -رحمه الله- وقرأت تعقيبًا له إن دل على شيء فهو يدل على تواضعه وعلى حرصه واهتمامه بكل من يحبه ويسألني أن أبدي الرأي في كلمته أستاذي الكريم، كم خجلت منك؟! فمن أنا حتى أبدي الرأي؟! لكن فهمت المغزى من ذلك حرصك على دوام واستمرار التواصل، ولما عرف بمغادرتي المنتدى كان يرسل لي -رحمه الله- كل الكلمات التي كان يرسلها للمنتدى، وكانت آخر كلمة أرسلها كلمته بمناسبة شهر المولد.
فأي رجل هذا؟! وأي مرب؟! إنه تربية الدوحة النبهانية.
أستاذنا الكريم وفقيدنا الغالي كأني بك الآن في كنف السيد النبهان وقد فارقتنا ولسان حالك يقول: غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، التقيت بالسيد النبهان وأخيك الشيخ محمد حوت والشيخ محمد لطفي والشيخ حسان فرفوطي وغيرهم ممن سبقك إلى أحضان السيد النبهان، طبت حيًّا وميتًا يا أبا محمد.
والله إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكتب لنا عنه تلميذه الشيخ الدكتور عثمان العمر:
وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نعزي أنفسنا ونعزي أتباع السيد النبهان -رضي الله عنه- ونعزي آل الفجال الكرام.
وكما نعزي آل بيت النبوة وامتنا الإسلامية بفقيدها العالم العامل الحسيب النسيب معدن التقى وبيت الكرم والجود والتواضع الأستاذ الدكتور محمود يوسف فجال، رحمه الله، وأنزل عليه سحائب رحمته ورضوانه.
عرفت الفقيد من عام 1966م يعني من خمسين عامًا درسنا النحو والخط ولم يكن أخذ الثانوية العامة وكان عزبًا لم يتزوج بعد لكنه في ذلك الوقت كان عالمًا دؤوبًا في المطالعة والتحصيل.
من أين ابدأ وإلى أين أنتهي بالحديث عن بعض الصفات التي كان متميزًا بها؟! والله لا أدري. فصفاته العظيمة جمة، ويكفي أنه كان صادقًا متميزًا مع المربي العظيم فريد الدهر سيدي ومولاي محمد النبهان رضي الله عنه.
قلت في بداية حديثي أعزي آل بيت النبوة به لأنه كان من هذه الشجرة الطيبة، فهو الحسيب النسيب والذي لا يعرف هذا عنه إلا القلة القليلة لأنه من تواضعه كان -رحمه الله- لا يريد أن يعلن عن هذا أو يعرف به فهو من قبيلة الويسات -رحمه الله- المنتسبين لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نزاهته -رحمه الله- وعصاميته: كان -رحمه الله- شغوفًا بشراء الطبعات النادرة من الكتب لكنه لما كان يدرس في الأزهر لم يستدن ولم يمد يده لأحد ليساعده بل باع كتبه العزيزة عليه من أجل الدراسة. ومع مرور الأيام وفي الدراسات العليا احتاج لبيع بيته في حلب ولما علم سيدنا النبهان -رضي الله عنه- قال له: يا شيخ محمود تبيع بيتك وأنا موجود؟! وسحب السيد درج الطاولة ليخرج له فلوسًا فما كان من أستاذنا إلا أن قال: يا سيدي ومولاي سألتك بحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم لا أريد فلوسًا ولا آخذ من فضيلتك فلوسًا أنا لم أصحبك لأجل الدنيا.
وقد نكون معه في السوق فيشتري حاجة ويحتاج نصف ليرة أو أكثر أو أقل فيدفعها أحد تلامذته فما تمر الساعات أو اليوم إلا ويردها لمن دفعها ومهما تمنع الطالب وأراد ألا يأخذ ما دفع لا يقبل ذلك -رحمه الله وآنسه- ويصر كل الإصرار على رد ما أخذ قل ذلك أو كثر.
أما تواضعه: فما رأيته في يوم من الأيام سمح لأحد تلامذته أن يقبل يده الكريمة، وقد نكون معه ونحن طلاب في السوق وقد يكون عددنا ثلاثة أو أربعة فيقول: ليبق فلان وليسبقنا البقية إلى المدرسة كي لا يكون في مظهر المشيخة شيخ وراءه طلابه ومحبوه.
هذا ديدنه. وهذا شانه في حياته مع طلابه. متواضعًا لهم ناصحًا للصغير والكبير منهم.
علّمنا في المدرسة شرح قطر الندى وبل الصدى كما علمنا الخط (خط الرقعة).
كما درست وتعلمت على يديه -ومعي أخي الأكبر الشيخ علي عمر وحبيبنا الغالي المرحوم الشيخ محمد ناصر حوت وكان موجهًا في المدرسة- بعض كتاب أوضح المسالك في جامع الحديدين، وللشيخ محمد حوت -رحمه الله- خصوصية كبيرة عنده.
من رآه عن بعد هابه وذكر الله. ومن خالطه معرفة استأنس به وأحبه. كنا نزوره في بيته في مصر في مرحلة دراسته الماجستير وفي إحدى الزيارات تفاجأت إذ وجدته قد وضع قطنًا وراء قزاز نضارته فسألته وأنا قلق على صحته فقال: لا شيء سوى أن نظري يتعب من المطالعة والكتابة فأريح عينًا وأقرأ بعين. لأنه كان يقرأ ويكتب في اليوم والليلة ما يزيد على خمس عشرة ساعة. لا يعرف الملل ولا التعب. سعادته كتابه. وزرته في أبها مرتين. المرة الأولى: كانت بصحبة أخي الغالي الشيخ محمود الزين -رحمه الله- وأخي الكبير الشيخ علي، ونزلنا ضيوفًا في بيته المبارك فكان مثال الجود والكرم وحسن الضيافة والتواضع ينقلنا من مسألة علم إلى مسألة علم أخرى ومن كتاب إلى كتاب لأنه لا يترك كتابه لا في ليل ولا في نهار ولا في سفر ولا في حضر.
والزيارة الثانية: كانت مع زوجتي الثانية ونزلنا ضيوفًا عنده في بيته العامر، فأكرمنا غاية الإكرام، ومما يلفت النظر أن أحد غرف بيته وكان بيته طابقين في الإضافي غرفة فيها طاولات دراسية لأبنائه ولوح للشرح، فلنعم الطلاب طلابه وهم أولاده ولنعم المعلم الكبير العظيم هو فقيدنا الغالي المرحوم الأستاذ الدكتور محمود فجال أبو محمد. هذا الجهد في التعليم أنتج الأنجال الزهور العلماء الذين كانوا قرة عين لأبيهم ولنا وللأمة الإسلامية والنبهانية، فحققوا ما أراد وتمنى لهم. وحصل الأنجال الأربعة على شهادة الدكتوراه في النحو والصرف، وبعضهم على مرتبة الأستاذية. وفقيدنا الذي قال فيه أحد زملائه في أبها قصيدة جميلة وهو الدكتور عبد الهادي حرب:
وعِمامَةُ العُلَماءِ فَوقَ جَبِينِهِ تاج يَشُعُّ النُّور مِنْ عِقْيانِهِ
وفي يوم من الأيام وأنا عائد من سورية إلى دولة الإمارات وصلت مدينة الأحساء الساعة الثانية ليلًا ونزلت فندقًا وكان المرحوم الفقيد مدرسًا فيها وفي الصباح الساعة العاشرة خرجت من غرفتي مع الأهل وقلت أستاذنا هنا لا بد أن أسلم عليه ولو بالهاتف فاتصلت به -رحمه الله- وإذ به يسألني أين أنت الآن؟ قلت: في الفندق الفلاني وأنا مسافر إلى دبي.
قال لي: يا شيخ عثمان أنا في الأحساء وتنزل بالفندق كيف يكون هذا؟! كيف سمحت لك نفسك أن تنام بالفندق وأخوك في الأحساء؟! قلت: مولانا أنا وصلت الساعة الثانية ليلًا قال: حتى ولو الساعة الثالثة علمًا أنني كنت مستيقظًا في الساعة الثانية. انتظر ولدي متوجه إليك لأراك. ونحن في زمن قلّ ما تجد هذه المعاملة من صديق ندّ فضلًا من أستاذ كبير، والحقيقة كانت روح الأبوة فيه ظاهرة بينة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
والله يا أحبائي أكتب لكم وعيناي تذرفان دموعًا بالبكاء وكأن الموقف متجسد متجدد أمامي في هذه اللحظة وهذه الساعة وكان هذا في شهر رمضان المبارك يعلمنا الكرم والمحبة بين إخواننا النبهانيين خاصة والمسلمين عامة يعلمنا كرم الأخلاق وكرم اليد وكرم الضيافة كيف لا وهو التلميذ الصادق لصاحب الكرم والجود الذي
ما قال لا قَطُّ إلا في تَشَهُّدِهِ لولا التَّشَهُّدُ كانت لاؤُهُ نَعَمُ
نبهاني ويكون بخيلًا؟! هذا لا يكون أبدًا... أبدًا.
نبهاني ويكون جبانًا؟! هذا لا يكون أبدًا.. أبدًا.
ولما وصلت بيته رجع يكرر عليَّ اللوم يا شيخ عثمان تنام في الفندق وأخوك محمود في الأحساء كيف يكون هذا؟!
رحمك الله أستاذنا الجليل أبا محمد. علم، وعمل، وتقوى، وتواضع جم، وكرم ضيافة.
وأختم كلمتي بقول الشاعر:
هو البحر مِنْ أيِّ الجهات أتيتَهُ فَلُجَّتُهُ المعروفُ والجود ساحِلُه
نسأل الله أن يلحقنا بالركب من غير أن نبدل أو نغير. وما كتبته عن شيخنا وأستاذنا وعالمنا غيض من فيض ونقطة من بحر.
نسأل الله أن يجمعنا بهم عند مليك رحيم غفور والسلام عليكم أحبتي ورحمة الله وبركاته.
وكتب لنا عنه تلميذه الدكتور عبد الله الحسن:
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين القائل: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
وفي هذا اليوم 13 من ربيع الأول 1437هـ الموافق 24 كانون الأول 2015م وَدَّعَ العالم الإسلامي أحد علماء وأعلام هذا العصر الشيخ الأستاذ الدكتور محمود يوسف فجَّال -رحمه الله- فنعزي أولًا الأمة الإسلامية لفقدها عمودًا من أعمدة العلم، ونعزي أنفسنا وطلابه الذين تفرقوا في جنبات الأرض وأحبابه الذين عرفوه ولازموه ممن نرى أثره فيهم من خلال الرسائل العلمية والتراث الذي حققه ونشره وأكبوا على النهل منه. ووسائل التواصل المختلفة التي تدل على التواصل به والاستفادة منه واستشاراته في أمورهم العلمية والعامة والخاصة، ونعزي الأحبة من زملائنا وأحبابنا الذين يتابعون بشغف وانتظار مطلع كل شهر من الشهور الهجرية المباركة لما يتحفنا به من نفحات صادقة مؤثرة في النفوس وما تتركه من أثر في السلوك.
ونعزي آل فجَّال الكرام أبناء وإخوة وأصهارًا وأرحامًا ونسأل الله أن يربط على قلوبهم ويلهمهم الصبر والسلوان وأن يجعل شيخنا وأستاذنا في أعلى عليين مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
ومن حق شيخنا علينا بل من أوجب الواجبات أن نذكر ما عرفناه وما لمسناه من سيرته العطرة وما غاب عنا أكثر مما كان في السر مما ادخره بينه وبين ربه وما لم يطلع عليه إلا خاصته، وما نقوله اليوم في هذا الجانب ليس هو مجرد إطراء بل هو من باب ماروي عن سيدنا أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ «قال تلك عاجل بشرى المؤمن». ونحن الآن نقول هذا وهو في عالمه الآخر الذي لم يعد لكلامنا هذا بالنسبة له شيء، وإنما هو وفاء التلاميذ لمربيهم، ولنشر فضائل الفضلاء ليقتدي بها الأحياء.
ولقد وقفت للحظات أتأمل من أين أبدأ الحديث وأي جانب أسلك فوجدت أن من يريد أن يرقى إلى مكان أو مكانة لا بد أن يبدأ بالسلم من الدرجة الأولى، فأول ما اكتحلت عيناي برؤية شيخنا كان لما دخلت المدرسة في أول طلبي للعلم الشرعي فكان هو المستقبل الأول لنا في حياتنا العلمية فهو الأستاذ للعلوم التأسيسية كالنحو والصرف والبلاغة والعروض والخط، وهو أيضًا الموجه والمراقب، فكان أول انطباع لنا لمسناه في شيخنا هو الحزم والانضباط، وكان هذا يظهر على محيا وجهه الكريم وفي نظراته وكلامه الذي يحسب فيه وقع كل كلمة وفي مشيته وجلسته، فكان مُهابًا يخيل إليك أن كل من في المدرسة منضبط ويحسب حساب أي تصرف لا ينبغي.
وكان -رحمه الله- شديد العفاف وصارمًا على نفسه في ذلك، وكان يؤصل فينا هذا الخلق.
كما كان -رحمه الله- معروفًا بقول الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم وبشجاعته في طرح رأيه، ومساجد حلب عرفته خطيبًا جهوري الصوت بليغ الكلمة مؤثرًا في النفوس، وكانت خطبه في الملمات التي ينتدب لها من قبل السيد -رضي الله عنه- ترتج لها جنبات المحافل، وإذا وقف مؤبنًا ذرفت لكلماته العيون وخفقت القلوب لصدق اللهجة وقوة التعبير عن المكنون.
وهناك جانب آخر مهم في سيرة شيخنا -رحمه الله– وحديثنا فيه على قدر اطلاعنا عليه ولكن ربما لو تكلم عنه من زامله أو لازمه لكان كلامه أوفى لأننا طلاب ولا يتاح لنا إلا القليل مما نشاهده أو نلمسه، أقول وهذا الجانب هو جانب علو الهمة الذي كان يتصف به شيخنا -رحمه الله- فكان دؤوبًا في طلب العلم ومطالعة الكتب والتزامه العجيب بقراءتها كاملة على الشيوخ ولم يقتصر على من هم في بلده وإنما كان يذهب قاصدًا إلى معاقل العلم والعلماء في بيوتهم ومساجدهم فيدرس عليهم وبصفة خاصة علماء دمشق، واستغل فترة خدمته في الجندية فلازم كثيرًا من العلماء والصالحين في دمشق، وكانت له عندهم مكانة خاصة ومنزلة مميزة كيف لا وهو الذي كان زاهدًا في الشهادات مخلصًا في طلب العلم حتى أشار عليه السيد -رضي الله عنه- أن يسلك إلى جانب القراءة الخاصة على العلماء طريق الدراسة النظامية، وفي هذا ملمح مشرق لما سيؤول إليه أمره ولِما سيكون سببًا في الفتح عليه في ميادين العلم ورحابه وفي معاقل الجامعات، فعصرنا إلى جانب العلم الغزير يحتاج إلى الوسائل للولوج إلى تلك الميادين التي وضِعت لها قيود وضوابط، والتي أصبحت في عصرنا قبلة المتعلمين ولا يعترف إلا بالشهادات الصادرة من قِبَلها، ولا يُمَكّن أهل العلم إلى الولوج إليها إلا إذا كانوا يحملون هذه الشهادات، فبدأ شيخنا الدراسة وحصل على الثانوية ثم التحق بالجامعة حتى أنهى الدراسة فيها، ولكن همته العالية لم تكن لتقف عند هذا الحد الذي وقف عنده كثير من أقرانه واكتفى به فعقد العزم على مواصلة الدراسة فالتحق بجامعة الأزهر كلية اللغة العربية على قلة في ذات اليد فباع بيته ولم يُجِز لنفسه أن يقترض من أحد حتى من أعز الناس وأقربهم إليه، وفي مرحلة تحضيره لرسالة الدكتوراه قُدِّر لي أن ألتحق أيضا بكلية أصول الدين لاستكمال الدراسة، فأدركنا شيخنا هناك وكنا نعاود زيارته وكان ذلك أيضا شأن معظم الطلاب في مواسم الامتحانات فوجدنا فيه جانبًا آخر فالمهابة التي كانت عندما كنا طلابًا في المدرسة وجدناها الآن رحمة ورقة وتواضعًا وتواصلًا.
فألفيناه معتكفا في بيته على الدرس والعلم والمطالعة والتحضير للرسالة ولا يخرج إلا للضرورة بل حدثنا أن أهله عندما كانوا يصنعون الطعام يضعونه وراء الباب لئلا ينشغل عما هو فيه من التحصيل.
ولم يكن في ذلك الوقت تلك الأجهزة الحديثة والفهارس الآلية للكتب التي يتوصل فيها اليوم إلى المعلومة بضغطة زر على مفتاح الحاسب الآلي، فكان يمسك الكتب التي يحتاجها مثل كتاب (سيبويه) وأشباهه فيفهرسها بطريقة فنية ليصل إلى المعلومة بسهولة عند الحاجة إليها، وهذا عمل لا يطيقه إلا افراد قلة لأنه يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، ولا يظهر أثره في العمل العلمي ولا يدركه إلا من يعايش تلك الكتب ويعرف صعوبة الوصول إلى مثل تلك المعلومات الدقيقة.
ولما يسَّر الله له مناقشة الرسالة قدَّر الله أنّ لجنة من جامعة محمد بن سعود الإسلامية وصلت إلى القاهرة للتعاقد مع أساتذة في اللغة، فتواصلوا مع جامعة الأزهر فأشار عليهم عميد كلية اللغة العربية - وكان على ما أعتقد هو المشرف على الرسالة أو عضوًا في مناقشتها - فأشار عليهم بالتعاقد معه لما يعلم من مكانته العلمية ورسوخ قدمه في هذا الميدان فاغتنمت اللجنة هذه النصيحة ولم تأبه بالخبرة التي هي من شروط التعاقد أو من مرجحات التفاضل بين المتقدمين وقد تم ذلك وكان اغتباط اللجنة به عظيمًا.
فكان -رحمه الله- قامةً في الهِمّة، وكنت إذا استشارني أحد في مواصلة الدراسة أو إعداد رسالة كنت أضرب له المثل بشيخنا ودأبه في ذلك وصبره وذلك لشحذ همته، ولم يكن نيل هذه الشهادة هو نهاية المطاف بالنسبة له بل كانت فاتحة للعطاء العلمي الغزير والمتميز يدل على ذلك ما تركه من مؤلفات وتحقيقات فريدة في نوعها حتى بلغ رتبة الأستاذية وأصبح رأسا في هذا العلم إلى جانب ما يتقنه من فنون العلم الأخرى المختلفة، واستمر هذا حتى آخر لحظة في أنفاسه ففارق الحياة وهو على مكتبه يصحح كتاب (الكافي)، وبقيت الأوراق والنماذج مكدسة على المكتب شاهدة له بأنه لم يترك لحظة تمر دون فائدة، محييًا بذلك سُنّة العلماء السابقين الذين كنا نقرأ سيرهم في الكتب ممن تطاول الزمان بيننا وبينهم.
فرحم الله شيخنا رحمة واسعة وبارك له في ذريته من بعده فقد غرس فيهم حب العلم ومما يدل على أن هذا البيت بيت مبارك وبيت علم هذه الكوكبة من أبنائه الكرام الذين يحملون الشهادات العليا التي قلَّ أن تجتمع في بيت من البيوت.
هذا وهناك جانب هام جدًّا في حياة شيخنا ولعله مقدم على ما ذكرنا وهو ما كان عليه من قدم راسخة في السلوك، وصدق في الاتباع، ومنزلة في هذا المقام فريدة تقاصرت عنها همم الكثيرين، يعرفها كل من له صلة به، ولكني لم أخض في بيان هذا الجانب؛ لأن مثلي لا يرقى إلى أن يتحدث عن منازل هو ليس من أهلها.
هذا ما وفقت إليه ولا شك أن عند زملائنا وإخواننا ممن أتيح لهم تجدد اللقاء والمصاحبة الكثير الذي ننتظر منهم أن يتحفوننا به
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ورثاه تلميذه الشيخ إبراهيم منصور فقال:
(كلمات في تأبين شيخنا وأستاذنا الشيخ الدكتور محمود فجَّال، رحمه الله).
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله.
وبعد: لقد فُجعنا وفُجئنا بنعي شيخنا الحبيب وأستاذنا الكبير الدكتور محمود فجال أبي محمد، عليه رحمات الله تترى.
كنا نَعلم أنّ كل نفس ذائقة الموت. ولكن إِلفنا أُنسه والتواصل معه وإدمان لَطائفه عبر هذه النفحات أذهلنا عن هذه الحقيقة.
أجَل، رحل عن هذه الدنيا هذه الأيام عالِم عَلَم. حاله ليس من حال أهل هذا الزمان.
حيث يخيَّل إلى من يستعرض حياته أنه يقرأ في (صفة الصفوة) أو (سير أعلام النبلاء).
كان طالب علم بالفطرة. صوفيًّا بالفطرة، متأدبًا متعففًا جادًّا حازمًا متنسكًا بالفطرة، لم يولد في بيت علم، ولكنه فَتح عينيه حين فتحها على العلم والعلماء والكتب والدروس ومجالسة الصالحين.
كان جمعُ الكتب أحب إليه من جمع الذهب.
وأن يُدخل على بيته مصنفًا من الأمهات أحبُّ إليه من أن يدخل إليه طعاما أو أريكة أو بساطًا أو نحو ذلك من أثاث ومتاع، مع حاجة البيت إلى ذلك الأثاث والمتاع.
ومع ضيق ذات يده في شبابه فقد كنا نسمع ونحن في سن الطلب أنه كوَّن في بيته مكتبة عامرة زاخرة فاخرة، قلَّ أن تجد مثلها إلا في بيوت الموسرين من طلبة العلم والمثقفين.
حُبِّب إليه من العلوم علمُ العربية نحوًا وصرفًا وخطًّا والفِقْهُ، وإن كان بأولهما أذكر وأشهر.
ومن معين علم العربية أنهلَ طلابَه وأعلَّهم -وكنتُ بحمد الله منهم- في دار نهضة العلوم الشرعية في حلب، كما أنهل وأعلَّ طلابَه في الجامعات التي عمل فيها بالمملكة العربية السعودية.
أما دروسه الخاصة فكانت متنوعة المعارف والعلوم كما علمت ذلك من خلال بعض من كان يقرأ عليه العلم في منزله في الرياض.
لما عزم الشيخ الشاب محمود فجَّال على مغادرة مدينة حلب إلى القاهرة للدراسات الجامعية والعليا، باع مكتبته العامرة وشقته في حلب -وليس له غيرها- ليغطي نفقة دراسته وإقامته في القاهرة متفرغًا للدراسة.
ألم أقل لكم: إن حاله لم يكن من حال أهل هذا الزمان؟!
في صيف عام 1975م كنا جيرانه في ذات العمارة رقم 3 في حي رابعة الشهير في القاهرة.
زرناه مرة فوجدناه منهمكًا في تحقيق مخطوطة مصورة على فيلم موضوع على جهاز بروجكتر يعكس صورة صفحات المخطوطة على الجدار. فيقرأ الشيخ ويدقق ويحقق.
وكانت أول مرة تقع فيها أبصارنا على هذا النوع من التقنية التي عددناها آنذاك من العجائب.
كانت المفارقة اللافتة التي لا أنساها في تلك الزيارة هي ما لمسناه من الشيخ -رحمه الله- من تودد وملاطفة تختلف تماما عما عهدناه منه أيام الكلتاوية من حزم وهيبة. حتى لكأنه قد رفع بيننا وبينه الكلفة في تلك الجلسة.
والحق أنه ما رفعها، ولكنه الفرق بين تعامل الشيخ مع طلابه وتعامله مع ضيوفه.
وإلا فإن الهيبة والوقار وهالة الأدب ولغة العلم هي التي تجلُّل مجلسه وجلساءه شاؤوا أم أبَوا.
أنهى دراساته العليا الرسمية وأتم أبحاثها وأحرز شهاداتها، وانتقل إلى التدريس في الجامعات السعودية، ولكنه لم ينته من البحث في العلم وتحقيق المصنفات وتصنيف الكتب.
إنه أخو التأليف والتصنيف، وجليس المصنفات والمخطوطات، وقرين القلم والقرطاس وضيف المكتبات والمطابع ودور النشر.
يشهد له بذلك ميراثه العلمي الثري. وخاتمته الحسنة؛ حيث كان آخر عهده بالدنيا مكتب ومصحف وقلم وقراطيس أثبت عليها تحقيقاته وملاحظاته.
هذا والعلة مستحكمة، والحركة متثاقلة والتنفس متعسر متعثر.
ولكن مجالسة الكتب جَنته وأُنس نفسه وغذاء عقله وسعادة روحه.
وأعجبتني عبارة صحيفة «سبق» الإلكترونية حين قالت في تأبينه: «من المحبرة إلى المقبرة».
كثيرون هم الذين أحبوا العلم وجمعوا منه مثل أو أكثر مما جمع هذا الإمام النحوي الباحث المتبحر.
ولكن ميزة شيخنا أبي محمد -رحمه الله- أنه جمع إلى ذلك تربية صارمة وسلوكا قويما راضَ نفسه به على عين شيخه سيدنا محمد النبهان، قدس الله سره.
وقد كان علمه وسلوكه السمة الأبرز في مجلسه حتى عندما يخرج من بين الكتب والقراطيس المطبوع منها والمخطوط.
شرَّفني مرات بزيارة منزلي في الدمام إبان إقامته في الأحساء حيث كان يتردد لزيارة صهره عمار ابن أخينا الكبير المرحوم الشيخ عبد الله الجاسم. وذلك قبل نحو ربع قرن.
فكان مجلسه الموقر بين حديث عن سيدنا وتوجيهاته ومواقفه. وحديث عن علم النحو والصرف وخدمته وتطبيقاته وأسفاره الضخمة ومراجعه.
أذكر أنني في إحدى تلك الزيارات كنت أتحين الفرصة في الجلسة لأسأله عن قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ (سورة النجم 23).
لِمَ لَم تُمنع (أسماءٌ) في الآية من الصرف كما مُنعت (أشياء) في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ﴾؟! (سورة المائدة 101).
وكانت المفاجأة أن حديثه عن بعض شؤون النحو وشجونه انتهى به إلى إيراد إشكالي قبل أن أسأل. وبيان جواب ذلك الإشكال؛ من قَبِيل أن الهمزة في (أسماء) ليست همزة أصلية وإنما هي منقلبة عن واو أصلية، وقد عددتُ ذلك مكاشفة منه وكرامة له.
وإنّ صفاءه ونقاءه بذلك لجدير. جزاه الله عنا خيرا.
وفي جلسة له أخرى في منزلي في الدمام، وقد حضرها عدد من زملائنا طلاب الشيخ في حلب. فجرى على لسان أحدنا كلمة (نَحَوي) بفتح الحاء، فالتفت شيخنا إليه وقال: (نَحْوي) بسكونها.
وفي نفس تلك الجلسة أيضًا وكأنها أمامي الساعة، جرى على لسان أحدنا كلمة (فَهرَس). فتح فيها الفاء والراء، فالتفت إليه شيخنا المحقق المدقق وقال: (فِهرِس). بكسرهما.
كان يحب العلم والمذاكرة فيه.
وكنت كلما عرض لي إشكال نحوي كتبت به إليه عن طريق البريد الإلكتروني لابنه الدكتور أنس. فلا يلبث أن يأتيني الجواب مفصلًا مؤصلًا. حتى اجتمع لدي من ذلك مسائل جمعتها على سطح المكتب في الحاسب في ملف أسميته «الفتاوى النحوية للدكتور الفجَّال».
ويؤسفني أن الهارد قد تعطل وضاع مني هذا الملف مع جملة من الأبحاث الأخرى.
وأحسب أني لو راجعت بريد الدكتور أنس لوجدت الأسئلة وأجوبتها.
وعندي الآن على سطح مكتب الحاسب ملف بعنوان (إشكالات نحوية).
فيه أربعة إشكالات أنتظر أن يجتمع منها المزيد لأرسل بها إلى أستاذي دفعة واحدة. ولكن أجله بادر تأجيلي.
فمن لها بعدك يا شيخ نحاة العصر؟!
ما كان لي أن أختم هذه المقالة التأبينية التي أردتها كلمات فكانت كلمة. قبل أن أعرِّج على واحدة من مكارم أخلاقه الكثيرة ألا وهي كرم ضيافته وثراء مائدته وسروره البالغ بأضيافه.
شهدتُ ذلك بنفسي حين زرته أكثر من مرة في الأحساء بصحبة الشيخ عبد الله الجاسم، رحمه الله. والشيخ أحمد ناصر حوت. والشيخ محمد مهدي نجم. بارك الله في عمريهما مع العافية.
ولقد سبق أن حدَّثتُ بذلك غير مرة زملاءَ دراسة لم يعرفوا الشيخ عن كثب كما عرفتُه.
كان آخرُ عهدي بمجلس الشيخ -رحمه الله- قبل نحو سنة ونصف حين جاء به ولده الدكتور يوسف إلى منتجع في شاطئ نصف القمر على مقربة من الدمام.
هاتفني أخي الشيخ محمود العبيد فقال: كلمني الشيخ محمود فجَّال. وهو موجود في الشرقية وقد دعوته بإلحاح فاعتذر بشدة. فحاول أنت معه لعله يستجيب فنحظى برؤيته.
اتصلتُ به فسلمت ودعوته فاعتذر. فأذكر أنه كان مما قلت له: سيدي. من حقنا عليكم وأنت في الشرقية أن تزورنا. ولسنا نتنازل عن حقنا. ولستم ممن يضيع الحقوق.
فأجاب مشكورًا مأجورًا، واشترط دعوة الشيخ محمود العبيد لأنه الأسبق في الدعوة. في جملة شروط أخرى وفَينا بالممكن منها.
وكانت ساعة من الجنة صفاء وسرورًا. كان جماله فيها طاغيا على جلاله بشكل ملحوظ.
كان البِشر يكسو محياه والبسمة لا تكاد تفارق شفتيه. والدعابة تتردد في كلامه.
أشعرني بحنان أبوة فقدتها منذ الطفولة، جزاه الله عن إحسانِه إحسانَه، سبحانه.
حضرت مجلس التعزية في الرياض بصحبة أخينا وشيخنا الشيخ محمود العبيد.
وفي مجلس التعزية قلت: عزاؤنا في شيخنا حديث النبي ﷺ: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له».
أما الصدقة فبينه وبين ربه. الله بها أعلم. وأما الولد الصالح فسيما الأبناء في وجوههم، حفظهم الله ورعاهم.
وأما العلم الذي ينتفع به فهذه مصنفاته. وهؤلاء طلبته الذين لا يحصون عددًا.
وكل عِلم من عِلمه ينفعون به فلهم أجره. وله مثل أجرهم، فهنيئًا له الأجر الموصول.
ومن لطائف الموافقات في هذا الباب أنه دخل مجلس التعزية ونحن فيه شاب من الجنسية المصرية، ظننته أحد تلامذة الشيخ أو أحد معارفه.
ولكنه لما تكلم تبين أنه تعرَّف على الشيخ للتو بعد وفاته عن طريق البحث عن أحد مؤلفاته، قال إنه يبحث عن كتاب «الاقتراح في أصول النحو» للإمام السيوطي -رحمه الله- وقد طال بحثه عنه دون جدوى، إلى أن دخل قبل يومين مكتبة كبيرة في الرياض فلم يجد فيها إلا نسخة واحدة هي نسخة صاحب المكتبة. وهي ليست للبيع، اطلع على النسخة فوجدها بتحقيق الدكتور الفجال، باسم «الإصباح شرح الاقتراح» فسأل صاحب الكتاب عن كيفية الحصول على (الإصباح) فقال: أنا لا أعرف الدكتور الفجال المحقق، ولكن خذ هذا الرقم فسوف يصلك بمن يدلك عليه.
وبعد سلسلة اتصالات أجراها تَوَصَّل إلى رقم أحد أبناء الشيخ.
فلما سأله عن الوالد وعن الكتاب، أخبره بأن الوالد توفي أمس، فسأل عن مكان التعزية وجاء معزيًا متأثرًا.
سيدي وأستاذي العالم الفاضل الراحل أبا محمد، أعزي فيك نفسي وإخواني الذين وردوا معين علمك.
وأعزي الأسرة النبهانية التي كنت من بقية أوائلها.
وأعزي أسرة هذا المنتدى الذي كنت تاجه وسراجه وركن أركانه ولسان ميزانه.
وأعزي علم العربية الذي فقد أحد أهم رؤسائه وأخلص جلسائه.
وأعزي القلم الذي فارقته أناملُك وهو لا يدري أنه فراق الا بد.
وأعزي القرطاس الذي لن يسعد بعدها بمس راحتيك وتقليب ناظريك.
وأعزي الأمة الإسلامية التي فجعت بفقد أحد علمائها وصلحائها.
وأعزي أسرتك الكريمة وأولادك وإخوانك وكل من يلوذ بك من قرابات وأرحام وأحباب ومحبين.
وأهنئك بحسن الخاتمة. ولقاء الأحبة من الأسرة النبهانية التي سبقت إلى عالم البرزخ.
ويا لسعادة اللقاء بتلك الكوكبة برعاية حامي الحمى أبي أحمد.
هذه آمالنا جميعا السابق منا واللاحق، وبالله رجاؤنا وعليه اتكالنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وكتب لنا عنه تلميذه الشيخ الدكتور علي مشاعل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، وإنا لله وإنا إليه راجعون. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أستاذنا يا شيخنا يا معلمنا يا حبيبنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.
شيخنا الجليل:
مصابك الذي لم يكن له عندنا مقدمات، ولا تمهيد، كان مصابًا جليلًا وخطبًا عظيمًا وهائلًا. لقد فجعنا بك فاجعة موصولة بفاجعتنا العظمى بسيدنا ومولانا وحبيبنا النبهان h. وها هو يستقبلك يا شيخنا بالأحضان، وتلتقي الروحان وتمتزجان حبًا وشوقًا وفناء منك يا شيخنا في حبيبك ونور ذراتك.
شيخنا الجليل الغالي:
رحمك الله رحمة واسعة، ورفع درجتك، وهنأك بالمعية الكاملة مع سيد الوجود حيث الوارث والموروث تراهما - كما قلت قبل أيام في كلمة شهر ربيع الأول - واحدًا وليس اثنين حيث لا توجد اثنينية ولا يوجد اثنان. وقد كنت تعاني من المرض ما تعاني، وما كنت تبوح بما تعاني بل كنت صابرًا محتسبًا مسلمًا مستسلمًا لحبيبك راضيًا غير شاكٍ لأحد ولا متضايق من مرضك، وذلك لعظيم يقينك وجميل صبرك، ولشعورك بقرب حبيبك منك. وكان مما قلت يا شيخنا الحبيب. يا من صرت في جوار الحبيب القريب:
(الكلمة الشهرية لشهر ربيع الأول 8 ربيع الأول 1437 هـ، من نفحات المولد النبوي):
الإخوة الأعزاء سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ها قد مددت يدي وأنا العبد الراجي إليكما بل إليك (لا توجد اثنينية)
فلا تردها بدون نوال.. ما لي في يوم المعاد سواك.. يا من صدحتَ بقولك: أنا لها أنا لها
ورحم الله القائل:
كن لي شفيعًا يوم لا يُغني الورى
وإذا دعوت الله خشية زلةٍ
|
|
فيه شفاعةُ صاحب وخدين
فأجبْ دعائي منك بالتأمين
|
صلى الله عليك يا علم الهدى ويا كعبة الحسن ما هبت النسائم وما ناحت على الأيك الحمائم، والسلام، وكل عام وأنتم بخير. محمود فجال.
شيخنا الحبيب: عزاؤنا فيك إجابتك أمر حبيبك، واستجابتك لدعواه، وقدومك عليه، وشوقك إليه، وكونك بلغت عنه ما بلغت، وأديت الأمانات التي حملت. لقد صحبناك في آخر مرحلة من مراحل حياتك يا حبيبنا في هذا المنتدى منتدى النفحات النبهانية فكنت نعم الأستاذ ونعم الشيخ ونعم الدكتور والباحث ونعم المربي والمرشد أنت ونعم المصلح اللطيف ونعم الموجه الرحيم مع أبنائك وأصحابك وأحبابك. زاد لطفك وكبر حلمك وعظم تحملك وجمل.
يا حبيبنا الغالي:
لقد كانت هذه الصحبة والأخوة هي آخر محطة لنا معك في هذه الحياة نرسل إلى روحك الطاهرة وقلبك الكبير كل الحب والود والشوق ممزوجًا بدموع الحزن التي انسابت من محبيك بعفوية وحنان ونرسل معك يا حبيبنا كل شوقنا وسلامنا وتحياتنا وتفانينا إلى طب قلوبنا ودوائها وعافية أبداننا وشفائها ونور أبصارنا وضيائها سيدنا وحبيبنا وشيخنا ومربينا ودليلنا ومرشدنا ومعرفنا وحياتنا وأرواحنا صاحب المرتبة النبهانية التي أوجدها الله له ولأجله السيد النبهان رضي الله عنه.
حبيبنا الأستاذ الدكتور محمود فجَّال المحب المحبوب الفاني المتفاني في الحبيب في أمان الله وفردوسه في معية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، والحبيب النبهان، رضي الله عنه وأرضاه.
وأنتم يا عائلة شيخنا زوجة وأولادًا أبناء وبنات أحفادًا وأصهارًا وأرحامًا وقرابة عظم الله أجركم وأحسن عزاءكم ورحم فقيدنا وفقيدكم وألهمكم الصبر والسلوان ولكم يا تلاميذ الشيخ الجليل ويا مريديه ويا أحبابه ويا من صحبتموه ورأيتم أنواره ولطائفه لكم مني أحر التعازي والمواساة.
واليوم وبعد مرور أربعين يوما على وفاته -رحمه الله- أقول:
يا أيها الإخوة الأحبة:
بهذه المناسبة وبعد مرور أربعين يومًا على فقد أستاذنا وشيخنا الدكتور محمود فجال -رحمه الله- أحببت أن أسجل هذه الكلمات وفاء وحبًا ودعاء له، رحمه الله.
لقد بحث فقيدنا عن المربي صادقًا فرأى في النوم الولي الهاشمي الذي وَصَلته من الفقيد الباحث عن المربي وَصِلته رسالة تقطر صدقًا فما كان من الشيخ الهاشمي -رحمه الله- إلا أن سمى نفسه الساقية ونصحه بالبحر وأفصح عن البحر باسمه وأنه هو (السيد محمد النبهان) رضي الله عنه.
لما رأى الوارث المحمدي -رضي الله عنه- صدق هذا الباحث فتح له بيته ومجلسه وقلبه وأعطاه من وقته القدر الثمين في الوقت الذي كان العلماء والقاصدون يقفون ويجلسون وينتظرون على الأبواب.
لقد أخذ العارف المحقق قلب هذا الباحث المدقق وعرف -رضي الله عنه- ما يصلح كل باحث مريد وما يصلح له فكان يوجه مريده المأخوذ به إلى كتابه ودراسته الذي فيه سلوكه وإنتاجه وإثماره.
وهكذا شأن المربي الكامل الذي يعرفه ربه -سبحانه- حقيقة كل مريد وسلوكه الذي يناسبه وحجابه الخاص به.
لقد علم المربي الفذ -رضي الله عنه- أن مريده الفقيد لا يحركه الجمال الطبيعي.
كما يحرك الشباب ولا يستميل نفسه، فأرسل معه تلك المرأة التي لم تكن متحجبة، أرسلها معه في وسيلة نقل عامة، وكان المربي مطمئنًا إلى أمانة مريده وعفته ونزاهته وانجذاب قلبه إلى الجمال المحمدي وتلاشي كل جمال دونه.
لقد كان فقيدنا -رحمه الله- صاحب إرادة صادقة مع نفسه ومع غيره، فلم يكن يتساهل مثقال ذرة قي محاسبة النفس؛ لأنه تَعَلّم من المرشد -رضي الله عنه- أن تساهل ذرة يوصل إلى تساهل مجرة فأبى -رحمه الله- أن يأخذ من تلك المرأة التي أمره المرجع بإيصالها إلى أهلها من حلب إلى دمشق أبى أن يأخذ منها تفاحة أو يجيبها على سؤالها:
كم الساعة؟ لله درك يا شيخ!
وهنيئًا لك تلك الثمار ثمار المحاسبة والشدة والصرامة مع النفس.
إخوتي الأحبة:
لقد علم العارف المحقق قوة أستاذنا الفقيد فجعله خليفة له على المدرسة خمسة وخمسين يومًا هي فترة ذهابه الى الحج فقد رآه الكفء الذي لا تغمز قناته في تحمل المسؤولية والأمانة والقيام بالإدارة والتوجيه والتربية والتعليم.
وعلم قوة قلبه ودوام رابطته وصدق معيته في المسير والتنقل والحج والزيارة مع السيد بينما هو قائم في الإشراف على المدرسة ورعاية الطلاب.
كشف السيد الجليل عن قدرة مريده على حسن الصحبة لغيره وحسن التوجيه والتربية لصاحبه عندما آخى الطالب والمريد (الشيخ محمد حوت) مع فقيدنا الأستاذ الدكتور محمود فجَّال -رحمهما الله- فكانت هذه المؤاخاة تتضمن الصحبة والتوجيه والتربية من الكبير للصغير ومن الفقيد لصاحبه فلما توفي الشيخ محمد حوت وهو في مقتبل العمر وريعان الشباب في بداية العقد الثاني وخرج السيد الجليل -رضي الله عنه- في جنازته بكى على قبره ولم يكن البكاء على الفقد إنما كان لأنه رأى حبيبه الأعظم لأول مرة يحضر جنازة قائلا له: حضرت لأنك تحبه ومعلوم أن المرجع لا يحب إلا أهل السبق والصدق والأدب والهمة العالية والذاتية الصافية.
لقد قلد المرجع فقيدنا وسامًا رفيعًا عقب تلك الحادثة الفاجعة بقوله: «هذا تربيتك، أنت ربيته».
فكان فقيدنا ينقل تعليق أخيه ورفيق دربه الشيخ محمد لطفي على كلمة السيد السابقة: هذه بشارة لكم يا شيخ محمود.
لقد كان فقيدنا من أهل الرابطة مع المرجع وقليل ما هم حيث كان أهلًا لقول المرجع وكتابته له: خذ الرابطة ولا تخش أحدًا.
لذلك كانت رابطته مع سيدنا -رضي الله عنه- قوية ومتواصلة ومحبته له عميقة ومتميزة.
وقد أشار -رحمه الله- إلى طرف منها بقوله: «لو وجدت رجلًا مثل السيد النبهان ما تركت سيدي ولا استبدلت به أحدًا وهل يوجد أحد يبدل أباه؟!».
لقد متع الله فقيدنا بعقله وعلمه وقوته حتى آخر يوم فلم يضيع وكيف يضيع وقد ضمن السيد الوجيه عند الله لوالد الفقيد عقله وذلك عندما شكى إليه خوفه على عقل ولده وهو في الخلوة والعزلة فقال له السيد الحبيب: أنا أضمن عقل محمود.
أجل إنه المربي والمرشد والعارف والنادرة والمحقق الذي من الله عليه بما من فكان سمعه وبصره.
لقد كان فقيدنا رابط الجأش قوي القلب ممدودًا من مرجعه تحوطه عنايته وتشمله رعايته.
رشح الفقيد للكلام في ثلاثة مواقف عصيبة ورهيبة -فيما أعلم- فكان أحق بها وأهلها.
الموقف الأول: يوم دفن الشيخ محمد حوت، رحمه الله.
والثاني: يوم الصلاة على الشيخ محمد لطفي، رحمه الله.
والثالث: كان قبلهما يوم المولد النبوي الشريف الشاهد على أنوار السيد والمشهود بحضوره وحضرته h.
تكلم في هذه المواقف الثلاثة بعد أن طلب منه ذلك مع وجود أكابر العلماء والصلحاء ممن هم أكبر منه سنًّا.
لقد كان فقيدنا -رحمه الله- فيما أرى أحد مظاهر (كير الكلتاوية) الذي أشار إليه نادرة الأزمان h وأنه مثل كير المدينة.
حيث كانت شدة فقيدنا في الحق وصرامته في التربية وحدته في التوجيه والمراقبة وهو يشرف ويوجه ويعلم طلاب دار نهضة العلوم الشرعية.
كان كل ذلك منه بغير نفس ولا حقد ولا انتقام فكان مطهرًا من الخبث، طاردًا لمن يحمل شيئا منه أو يقع في شيء من العبث.
لقد علم سيدنا ومرجعنا -رضي الله عنه-جِدَّ فقيدنا واجتهاده ودرسه ودأبه ومحاسبته ورابطته وأدبه وتربيته فرضيه أن يكون في المدرسة أول أستاذ ومعلم.
وثاني اثنين -مع السيد- إذ هما في الإدارة يقابلان الطلاب المتقدمين للدراسة.
لقد كان فقيدنا -رحمه الله- آية في الأدب مع مرجعه ومع الآخرين.
وظهر هذا الأدب في عفته، ونزاهته، وذاتيته، وبعده عن المصالح والأغراض والأعراض.
وأوضح موقف على هذا عندما احتاج فقيدنا الى الفلوس لسفره همَّ أن يبيع البيت فعرض عليه السيد الجليل -رضي الله عنه- في مجلس خاص وأخرج له صرة فاعتذر المريد العفيف النزيه وتوسل بالحبيب الأعظم كي يعفيه من هذا العطاء... لماذا كل هذا؟ لأنه تعلم منه العفاف والنزاهة والحب والصحبة الصادقة الذاتية دون غرض أو مصلحة لقد بشره السيد الجليل -رضي الله عنه- بأن أمامه في طريقه وحياته كنزًا.
وتجلى هذا الكنز بالجوهر المكنون داخل قلبه من الحب لسيده والولاء له والمعرفة به ومن الجد والمثابرة في طلب العلم وتجاوز مراحله.
ومن التصدر للتدريس والتعليم والتوجيه والتربية والاستشارة عقودًا من الزمان.
ومن التأليف القائم على التجديد والابتكار والعمق والتحقيق ومن العائلة المشتملة على الصفوة الذين وفقه الله لتربيتهم وتأديبهم وتعليمهم ومن جواهر وعلوم وفهوم ومعارف لم يجد فقيدنا -رحمه الله- مجالًا لكشفها ونشرها وإظهارها.
لقد عرفتك يا أيها الأستاذ الفقيد المرحوم عن كثب وأنت في العقد الثالث من العمر مدرسا ضابطًا لطلابك مربيًا مؤدبًا لهم ومعلمًا بحالك وفعالك وكلامك يغلب عليه الجلال والهيبة والوقار والسكينة فكنت نعم المعلم والمؤدب.
وعرفتك وأنت في العقد السابع في العامين الآخرين من حياتك أبا رحيمًا لطيفًا موجهًا ومعلمًا ومشيرًا ومربيًا ومرشدًا لمن استرشدك فكنت نعم الأب والمربي والمعلم.
رحمك الله رحمة واسعة ورضي عنك وأرضاك بما أعطاك ووفقنا للسير على منهج حبيبنا وقدوتنا ورزقنا الصدق تمامه وكماله ودوامه والاتباع ظاهرًا وباطنًا وأزال حجب قلوبنا وغشاوة أبصارنا وزكى نفوسنا وأوصلنا إلى ما نعتقد في شيخنا ومربينا من الدرجات العلى وجعلنا ذاتيين من أهل الأدب والذوق، آمين يارب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ابنك وتلميذك ومحبك ومن فجع فيك ومن قلت له يومًا في هذا العام: «أنا وأنت أخوان وصاحبان ولكن اتركها بيني وبينك. علي مشاعل».
ورثاه تلميذه الشيخ الدكتور محمود ناصر الحوت في ندوة الوفاء والشكر يوم
الأربعين:
حمدًا لإلهٍ يتفضل فيهب، ويسترد فيأجر، ويُبقي الثواب ويُفني الحَزَن، والصلاة والسلام على فقيد المسلمين الأول سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، والرضى عن سيدي ونور قلبي وقرة عيني الفرد المحقق الفرد المحمدي الذاتي سيدي محمد النبهان -قدس سره العزيز- وبعد:
عينُ جودي بدمعك المدرارِ عَصَبَتْ بي زَوَابِعُ الإعْصارِ
واسكبيها على الفقيد عيونًا فلعلّ الدموع تُطفي أُواري
في الثاني عشر من ربيع الأول الماضي أي منذ أربعين يومًا نزع العلم عن رأسه عمامته لينشرها للموت، وخلع المجد رداءه ليجعله كفنًا للفقيد.
من هذا الفقيد؟!
ماذا تقول أيها الناعي؟!
من تعني يا شيخ عثمان العمر؟ (هو من بلغني)
ما الخبر؟ من الذي رحل؟
هل انطفأت منارة العلم والعلماء؟!
هل حوّمت راية الصدق والتقى والإخلاص؟!
هل غاب بهجة المحافل وزين المجالس؟!
هل طوى النسر جناحيه؟ هل غاب الألمعي الجهبذ العالم العامل الحر الأبي؟!
هل رحل شيخ النحاة والأدباء والعلماء؟!
هل سافر بلا وداع؟!
هل غاب ذو الجناحين كما لقبه الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت؟!
كان الشيخ عثمان يكلمني ولا أعي ما يقول:
«لقد مات أستاذنا ومعلمنا الشيخ محمود فجَّال».
واستسلمت للحزن والبكاء، فاستعصى عليَّ الدمعُ، فلجأت إلى القلم فبكى، وشعرت بأن خواطري ماتت بموت هذا الفقيد العظيم.
اليراع توقف وكبا، واللسان تلجلج، والدموع جمدت في المآقي، وسيطر الحزن العميق.
اتصلت بنجل الفقيد الأكبر فضيلة الدكتور محمد فجَّال معزيًا له في والده وقلت له:
من شاء بعد والدك فليمت، كما قال سيدنا حسان -رضي الله عنه- في حبيبه الفقيد الأعظم صلى الله عليه وسلم:
كنتَ السوادُ لناظري* فعمِي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت* فعليك كنت أحاذرُ
ولمّا نعى الناعي سألناه خشيةً* وللعين خوفَ البينِ تَسكابُ أمطارِ
أجاب: قضى، قلنا: قضى غاية العلا* فقال: مضى، قلنا: بكل فخار
لذلك أرجو أن أُعذر في تأخري عن تأبين فقيدنا الراحل وأستاذنا ومن له فضلٌ علينا بعد الإمام الأكبر سيدنا محمد النبهان، قدس سره العزيز.
الحقَّ أقول لكم:
لقد كان الفقيد مرجعي في أموري وفي حياتي بعد مرجعي الأكبر سيدي الوارث المحمدي الكامل الفرد المحقق سيدي محمد النبهان رضي الله عنه.
أستاذي ومعلمي: إن الزمان بعدك أقوى في الدلالة عليك والشهادة لك، كما تكون الظلمة بعد غياب القمر شرحًا طويلًا لمعنى ذلك الضياء.
أستاذي وفقيدي: لقد غرستَ فيّ أشياء لا أنساها مدى الحياة، وكان أهمَّها حبُّ السيد النبهان وحب العلم ومحاسبة النفس.
أستاذي ومعلمي وفقيدي: لقد شهد لك سيدنا مربيك ومنشؤك السيد النبهان رضي الله عنه بأنك (صادق)، وبأنك (من الدرجة الأولى)، وبأنك (حقيقة ممتاز) كان يقول: (حقيقةً الشيخ محمود ممتاز) كانت لك مكانة سامية عنده، فرضي الله تعالى على من ربّاك وخرّجك وأنتجك.
كنت قويّ الشخصية مهيبًا، صاحب هيبة في النفوس، وكانت فيك حدّة، والحدّة كما قال -صلوات الله عليه-: «الحدّة تعتري خيار أمتي».
لقد كنتَ لي معلمًا وأخًا ومربيًا وموجهًا وناصحًا، تعهدتني منذ نعومة أظفاري وأنا في التاسعة من عمري قبل أن أطلب العلم في دار الإيمان دار السيد النبهان رضي الله عنه.
كنت تكتب لي بعض المقالات وتطلب مني حفظها لألقيها في جنبات معهد دار نهضة العلوم الشرعية وأمام طلابها، فتضع لي كرسيًّا ثم ترفعني بيديك الأيّدتين على هذا المنبر الصغير فأصدح بصوتي الحادّ، ولم أدر بأنك تؤهلني لأعتليَ صهوة منبر الكلتاوية العظيم، ولم أدر أنني سأقف في موقف حضره سيدي وحبيبي سيدنا محمد النبهان في باحة الكلتاوية، ووقفت متكلمًا والسيد النبهان يسمعني وأنا أخاطبه، ومن جملة ما قلت: يا سيدي أنت المُترَع عظمة وأمانةً وسموًّا، يا سيدي أنت منبع الصدق والإخلاص، يا سيدي أنت منارة الهدى والهداية.
ولما انتهيت من كلمتي صفق لي السيد العظيم صفق بيديه الكريمتين، فصفق الأساتذة والمدعون الذي غصت بهم باحة المدرسة القوراء، لكن السيد النبهان - رضي الله عنه- نبه الحاضرين وقال لهم: «هكذا صفقوا» أي بباطن كف اليمين على ظاهر كف الشمال، فصفق الجميع مرة أخرى كما علمهم مرشدهم ومعلمهم رضي الله عنه.
وموقف آخر وقفته أمام السيد العظيم كنت أنت الذي شجعتني ودفعتني إليه وهو يوم الأربعين لمديرنا الشيخ محمد لطفي -رحمه الله- حضره أيضًا سيدنا ومربينا وقرة عيوننا سيدنا النبهان - رضي الله عنه، قبلتُ يده الشريفة فقبلني وقال: فتح الله عليك، وكنت يومها في السابعة عشرة من عمري، وأذكر أنني قلت: لا مصيبة مع الإيمان، ولا معزيَ مع وجود السيد النبهان لأن الشمس تسليك عما حلّ بالقمر.
وقلت يومها: يا سيدي إننا نعاهدك على المحبة والاتباع، فاللهم ارزقنا محبته واتباعه وثبتنا على العهد.
أستاذي ومعلمي وفقيدي: لست أنسى يوم أخذتَ بيديّ وأدخلتني غرفة مدير الدار أستاذنا الشيخ محمد لطفي عام 1967م وأنا في الحادية عشرة من عمري وقلتَ له: هذا نريد أن نسجله عندك طالب علم، وأنا كفيله وضمينه، فكان لك الفضل عليّ في ذلك من أول يوم طلبت فيه العلم.
أستاذي ومعلمي وفقيدي: لقد آخى بينك وبين أخي وشقيقي الشيخ محمد حوت، آخى بينكما السيد النبهان -رضي الله عنه-، فكنتما توأمين، وكنت شقيقًا لشقيقي رحمكما الله.
ولقد حدثتني أنك في سفرك إلى مصر جاءك الشيخ محمد وذلك بعد وفاته بأربع أو خمس سنوات وأنت مقيم في مصر إذا بالشيخ محمد حوت واقف أمامك بجسده لا بجسمه أي بروحه المتجسدة وهو ينظر إليك وتنظر إليه.
ولقد حدثتني أيضًا وطلبت مني أن أكتم الحديث لكنني الآن في حلٍّ من الكتمان بعد انتقالك إلى عالم البرزخ والرفيق الأعلى.
ولقد حدثتني أيضًا أن الله كشف عن بصيرتك فرأيت النبي ﷺ في مشهده بالطائف وقد آذاه أهلها وهو يقول: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس.
أستاذي ومعلمي وفقيدي: لقد تركتَ إرثًا عظيمًا من علومك ومعارفك ونصائحك وتوجيهاتك وأسفارك العلمية وموسوعاتك النحوية، وخلّفتَ أبناءً لك هم قمةٌ في الأدب والعلم والتربية، فالابن الأكبر الدكتور محمد صاحب العلم والأدب الجمّ الغزير، والدكتور يوسف حبيب أبيه صاحب الهمة والعلم والذكاء والبهاء، والدكتور عبد الله وأكرمْ به من باحث وعالم ومفكر، والدكتور أنس الفتيّ الذكي الألمعي، أبقاهم الله ذخرًا للأمة الإسلامية وتذكارًا لوالدهم الذي ربَّى فأحسن التربية، وأنجب فأحسن الإنجاب.
أستاذي ومعلمي وفقيدي: رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته وجزاك الله عن العلم والعلماء وطلاب العلم وعني خاصة أعظم الجزاء وخير الجزاء وأتمَّ الجزاء.
واللهَ أسأل أن يُجزل لك المثوبة والعطاء والنور، فلقد أديتَ الواجب ونصحتَ الطالب، فشكرك شأوٌ بعيد لا تبلغه أشواطي.
وآخر ما أقول: إنَّ في الحلق لغصةً، ومن وراء الصدر نفثات كاوية ما كان أسعدني أنْ أبثها وأشرحها، ولكن فلتُحبس النار في الأعماق، فربَّما اتخذت منها قبسًا ينيرُ لي الطريق، أو أجدُ على النار هُدى.
وكانت في حياتك لي عظات* وأنت اليوم أَوْعَظُ منك حَيًّا
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مصادر الترجمة:
§ محادثات مباشرة ومراسلات مع الأستاذ الدكتور محمود فجَّال، رحمه الله.
§ مقابلة في صحيفة الجزيرة السعودية.
§ «الروضة الندية» تأليف الأستاذ الدكتور محمود بن يوسف فجَّال.
§ «تذكرة الأجيال« تأليف الأستاذ الدكتور محمد بن محمود فجَّال.
§ أبناء الفقيد: أ. د. محمد، وأ. د. يوسف، ود. عبد الله، ود. أنس.
§ الدكتور محمد فاروق النبهان، والشيخ هشام الألوسي، والشيخ حامد صخي، والشيخ محمود العبيد، والشيخ حسين الأحمد، والدكتور عثمان العمر، والدكتور عبد الله الحسن، والشيخ إبراهيم منصور، والدكتور علي مشاعل، والدكتور محمود ناصر حوت، مراسلة كتابية.
ملفات مسموعة:
*محاضرة للدكتور محمود فجَّال عن طلب العلم في الكلتاوية، يقدمه الدكتور محمود حوت.
*الرابطة ولا أرضى بحبي بديلًا، والقراءة على الشيوخ.
*رؤيا للشيخ محمود فجَّال يقظة.
*ما في أطهر من قلب محمود فجَّال.
*في بيت الحاج عبدو البيك.
*كلمة للدكتور محمود حوت في رثاء شيخه الدكتور محمود فجَّال.
*كلمة الدكتور علي مشاعل في رثاء شيخه الدكتور محمود فجَّال.
انظر كتاب «الدرر الحسان في تراجم أصحاب السيد النبهان» (ج 2 صفحة 261).
نشر في موقع أحباب الكلتاوية بتاريخ 14-3-2022م.