آخر المواضيع
اخترنا لكم




  الرئيسية    هذه الشخصية
ملامح هذه الشخصية



مرات القراءة:8848    
أرسل إلى صديق
أبلغ عن مشكلة في هذه المادة

         

                                  ملامح شخصية السيد النبهان

كان الشيخ طيب الله ثراه يتمتع بشخصية قوية مهيبة ، وفراسة صادقة ، مبعثها صفاء قلبه ، وكان مجلسه مجلس مهابة واحترام ، وكان حديثه مؤثراً ‏بسبب صدق لهجته ، فإذا جلس في مجلسه أحس الجميع بالهيبة بالرغم من تواضعه الكبير وابتسامته الدائمة ، وقلما كان يغضب أو يثور إلا إذا رأى ما يمس الدين فكان يغضب لله ويدافع عن العقيدة الإسلامية والقيم المستمدة من الدين . ‏


كان يغضب لله في المواقف العامة ، ولا يخشى لومة لائم ، ولا يهمه من كان أمامه ، وبخاصة إذا كان من رموز السلطة ، فكان ينصحهم ويوجههم بالكلمة الطيبة ، فإذا لم تجد كلماته صداها في النفوس أعلن موقفه الصامد في الدفاع عن الموقف الذي يراه مناسباً ، ويعتبر أن مهمة العالم في المجتمع أن ينصح ويوجه ويحمي شعائر الدين وقيم الفضيلة .


‏وكان إذا دخل أي مجلس عام أو خاص وقف الجميع احتراماً له ، واذا تكلم أنصت الجميع ، واذا سكت أمسك الجميع عن الكلام ، إلى أن يبدأ بالكلام ، وكانت الهيبة هي الصفة الواضحة في مجالسه ، وهي هيبة احترام وليست هيبة خوف ، فلم يكن يملك سلطة التخويف ، ولا قوة السلطة ، ولم تسمع منه قط كلمة نابية أو مستهجنة أو خارجة عن حدود الأدب واللياقة وإذا ‏سمع كلمة نابية تجاهلها وقد يغادر المجلس بأدب ولا يشعر أحداً بالحرج .


‏كان الأكابر في نظر الناس يهابونه ويحترمونه وينظرون إليه من بعيد نظرة ‏الاحترام ولا يجرؤون على مخالفته ، وكان خصومه يخشونه ويظنون فيه التكبر والترفع فإذا اقتربوا منه وجدوه واسع الصدر في علاقته مع الآخرين متواضعاً من غير تكلف يسع صدره لكل الناس ، ولا يحاسب أحداً على تقصيره ، ولا يعاتب ، والتواضع صفة راسخة فيه من غير تكلف ، فهو مع الضعفاء ، والفقراء ، والمسنين والأطفال والأرامل والعجزة ، وهؤلاء يجدون في شخصيته العطف والحنان والمحبة والرعاية ، وكان يتبسط مع هؤلاء ويباسطهم في ‏الحديث ويمازحهم في الكلام ويسمع شكاويهم ، ولا يضيق صدره بما يطلبونه منه من عون ومساعدة .


ولم يفرق في مجلسه قط بين قوي وضعيف وغني وفقير وحاكم محكوم ولم يرد ضعيفاً قط عن مجلس أو يضيق به ، وكان هؤلاء يحظون بكل الرعاية والعطف ، وإذا دعاه ضعيف أو فقير إلى داره فكان يجيب الدعوة بكل فرحة ، ويأخذ معه كبار إخوانه من أصحاب النفوذ الاجتماعي إلى دار ذلك الرجل الفقير في الأحياء النائية تطبيباً لخاطره ، واشعاراً له بالمكانة .

‏وما زلت استحضر عشرات المواقف التي رأيتها في سيرته التي تعبر عن شخصية متميزة في تكوينها الخلقي ، وكنت أرافقه في كثير من زياراته لأسر فقيرة في الأحياء النائية ، أو لامرأة مسنة عاجزة كانت تدعوه وتجمع أبناءها لاستقباله والاحتفاء به .


‏رأيته مرات كثيرة يعتذر عن دعوة شخصيات ذات نفوذ اجتماعي ويضيق صدره بهذه الدعوات ، وتتفرج أساريره لزيارة أسرة فقيرة ويسرع لزيارتها لإشعارها بالرعاية ، فكان هذا من خصوصيات شخصيته .


‏ورأيته مراراً يقف لمدة طويلة يسمع شكوى من طفل ضاق صدره بأهله أو ضاق صدر أهله بمطالبه ، فجاء يشكو للشيخ مما يعانيه من أمه وأبيه ، فيسمع من الطفل ما يؤلمه ، ويستدعي الأبوين ويوصيهما بأن يتسع صدرهما لمطالب ذلك الطفل وتفهم حاجاته .


‏وجاءه مرة أحد إخوانه يشكو إليه من همومه وآلامه بسبب ما يلاقيه من متاعب أطفاله الصغار الذين أقلقوا راحته في داره فطلب منه أن يحضر أطفاله إلى داره لكي يقوم بنفسه برعايتهم ، فخجل الأب من نفسه ، وعاد إلى أطفاله يرعى شؤونهم .


‏كل ذلك رأيته وعشته بنفسي ، ولم أشعر قط أن هذه المواقف متكلفة ، أو أنه يفعلها لكي ترتفع مكانته عند الخلق ، فهذا مما لا يخطر بباله ، فلم يؤد أي عمل بتكلف ، أو لإرضاء أحد ، كان هذا هو خلقه ، ولا قوي ولا ضعيف في ‏مجلسه ، ولا غني ولا فقير ، والكل سواء ، .


وعندما كان يموت أحد إخوانه الضعفاء ، ويترك أسرة وأطفالاً ولا مال لهم ولا معيل ، كان يعتبر نفسه مسؤولاً عنهم ، ويرعى شؤون الأطفال الأيتام ماديأ وتربويأ ويحظون منه بكل الرعاية والحنان .

ولم يضق صدره قط بصاحب حاجة جاء إليه يطلب منه مساعدته لرفع الظلم عنه أو لمساعدته المادية أو لحل خلاف مع شريك في العمل أو لتحقيق صلح بين الزوج وزوجته والأب وأولاده ، وكان وقته يتسع لكل ذلك برحابة صدر ، ولم يعتذر قط عن أمر كلف به أو صلح طلب منه ، أو مفاو ضة بين مختلفين ، وكان يقوم بكل ما يمكن أن يساعد الأخوين ، فإذا توقف حل الخلاف على أمر مادي كفل بأن يدفع من ماله الشخصي ما ينهي الخلاف ، فإن كان في ضائقة مادية استدان من الأخوين وحل المشكلة .


‏كان يأتيه أحد إخوانه أو أي أحد ولو كان لا يعرفه من قبل ، فيشكو له من مرض أصابه أو أصاب زوجته أو أحد أطفاله ، فيتصل بالطبيب المعالج ويطلب منه تشخيص مرضه ويشتري له الدواء ، ويجري له التحاليل الطبية والصور الشعاعية ويتابع أمره بنفسه ، إلى أن يأخذ علاجه ، فيتكفل له بالعودة إلى موطن إقامته إذا كان في قرية ، ولما أبلغ أن بعض من يطلبون مساعدته ليسوا صادقين في أقوالهم ، أجاب : أخشى أن أتردد في مساعدة من كان صادقًا منهم ، وربما يكون بعضهم محتاجاً ولا يجد من يقف معه وكان يستدين ويساعد الأخوين .


وإذا جاءه من يطلب مساعدته لشراء قمح أو أرز أو زيت أو سكر أو ما كان ضروريأ لمعاشه اشترى له ما يحتاج إليه بما يكفيه لمدة معقولة ، ويطلب أن ‏يعود إليه إذا ما انتهى هذا المقدار من الطعام .

وكان يرد على بعض من يجد في ذلك مشقة عليه بأن الله تعالى قد سخره لخدمة هؤلاء المحتاجين ، والخلق عيال الله ، وأحب الناس إلى الله أنفعهم لعياله ، وأن هؤلاء لو أرادوا الاقتراض لما أقرضهم أحد ، ولذلك كان يقترض لرفع الحاجة عنهم .


‏وما رأيت رجلأ يفعل الخير ولا يتكلفه ولا يضيق به ، ويؤديه بعفوية وتلقائية كما كان يفعل وكان إخوانه يشفقون عليه ، فيبتسم بفرحة ويقول هذا رزقهم سخرني الله لكي أقدمه لهم ، ولا فضل لي في ذلك .

ولم أجد فيه قط كبراً على الناس أو ترفعاً على الضعفاء ، أو ضيقأ بمطالب المحتاجين أو تبرماً بما كان يلقاه أحيانأ من مشقة في أداء هذه المهمة ‏الإنسانية ، وكان كل من يعرفه ويحضر مجالسه اليومية يرى ذلك فيه ويشاهده ، وهو سعيد بكل ما كان يؤديه .


‏ولم يدخر مالاً قط في داره ، فما يأتيه في كل يوم ينفقه فإذا أنفق ما عنده كله قال بصراحة : ليس عندي مال . . وكان يردد في مجالسه أننا لا ننكلف وكان يكره التكلف في أي أمر من الأمور والمال في نظره يؤدي مهمة وخلق لغاية هي الإنفاق المشروع على الحاجات الضرورية.


‏كان كريمأ بغير حدود وسخياً من غير تكلف ، فلم يتكلف الكرم والسخاء ، وكان ما يحتاج إليه في داره يأتي به ، وما لا يحتاج إليه لا يأتي به ، وما يحتاج إليه هو الضروري للحياة من الطعام والملبس والعلاج بالقدر الذي يحتاج إليه الإنسان ، ولم يعرف إنفاق الترف وعوائد الترف في داره وعوائد حياته ، وكان يضيق بهذه العوائد التي تصرف القلب عن عبادة الله .


‏ولم يشغله أمر المال قط ، جمعاً وادخاراً ، ولم يفكر فيه ، فإذا جاء المال أنفقه في مصارفه الضرورية على النفس والأسرة والمحتاجين ، وإذا غاب المال فلا ينبغي للقلب أن ينشغل بذلك ، لأن ذلك مما تولى الله أمر تدبيره .


وكان يقول دائماً في تعريف الإيمان بأن حقيقة الإيمان تتطلب الامتثال لأمر ‏الله تعالى والاستسلام لقهره ، وأنه لابد من إسقاط التدبير مع الله تعالى ، فالله تعالى هو المدبر للأمور وقيام العبد بالتدبير هو نوع من أنرع الشرك بالله ، فالله بحكمته هو الأقدر على اختيار الأفضل للإنسان ، والتدبير سابق على وجود العبد  فكما كان تدبير الله قبل وجود العبد فكذلك تدبير الله سبحانه وتعالى للعبد بعد وجوده لقوله تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) (التوبة 111) والله هو الذي يتولى أمر تدبير مملكته والتصرف في شؤون عباده ، وليس للعبد أن يتولى تدبير شؤونه والتدبير يشغل القلب عن الله تعالى وهو الجانب المذموم فيه .


‏وكان يردد : أن الإنسان عبد لله وأن عليه أن يتحقق بعبديته ، فمن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى ، واذا عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز ، واذا عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة وناداه : يا غني يا عزيز يا قوي . . وأن مما يجعل العبد قادراً على تحمل الآلام علمه بأن الله تعالى هو المتصرف في الوجود وهو صاحب الاختيار ، والله أرحم بالعبد من نفسه فكيف يتصور ألأ يكون رحيمأ بعباده وهو المتولي لأمرهم بحسن الاختيار وحكمة التدبير .


‏وكان شديد التفاؤل بسبب إيمانه بالله ، مهما اشتدت المحن عليه ، ولم أره قط متشائماً من أمر أو حزينأ أو مغتماً في أقسى الظروف ، وكانت الدنيا بكل أثقالها لا تعنيه ولا تساوي بالنسبة له شيئًا إذ كان مسلماُ أمره لله راضيأ بقضائه ‏وقدره ، عظيم الثقة بربه ، وما يأتيه من ابتلاءات يتقبلها بهدوء نفس وكأنها جاءت لغيره ، وكأنها محمولة عنه ، ولا يضيق بها لأنها كما يقول ابن عطاء الله :((مثل المدبر مع الله كمن بنى بناء على شاطىء البحر كلما اجتهد في بنائه كثرت عليه الأمواج فتداعى هذا البيت ، والمدبر مع الله يبني مباني التدبير وتهدمها واردات المقادير ، وأن العبد إذا انصرف لخدمة مولاه تكفل الله بأمره لأنه في خدمة سيده ، وكان يرى أن التدبير من أمر الله وهو المختص بالتدبير ، وهو المنفرد بالحكم والتسيير ، وكان يردد هذه المعاني في أحاديثه ومذاكراته ويقول: إن المنع من الله كالعطاء بل إن المنع هو عين العطاء كلاهما من أمر الله ،
‏وليس من اختصاص العبد أن يتدخل في أمر مولاه ، إذا أعطاه شكر واذا منعه صبر ورضي بما اختاره الله له .


ولم يكن أمر التدبير يشغله ، ولم يمنعه هذا الاعتقاد من الاشتغال بالدنيا ، والعمل والإنتاج ، وكان هذا من السعي الذي يكلف به العبد ، لا لأجل الرزق ، واثما امتثالاً لأمر الله في العمل ، أما الرزق فقد تكفل الله به ، والله هو الرازق وقد أمضى الله أمر الرزق في سابق القضاء ، ولم يذكر كلمة الرزق في مجال العمل والسعي ، فالأمر بالعمل والسعي فيه لا لأجل الكسب ، وإنما لأجل القيام بأمر الله ، وكان يردد في مجالسه الآية القرانية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2-3) وقد نسب الله الرزق إليه للإشارة إلى أن الله هو الرازق ، والعمل هو سبب للرزق ووسيلة له ، ولكن الرازق هو الله ، والمتكفل بأرزاق العباد هو الله ، وربط الرزق بالأسباب الظاهرة إشارة من الله إلى الأخذ بالأسباب ، لتطبيب القلوب وتشجيعها على العمل والسعي .


واشتهر بالشجاعة في مواقفه دفاعأ عن الحق والتزاماً بالقيم الإسلامية ، وكان غيورا على الحق ، لا يساوم فيه ولا يتنازل ، فإذا كان الحق مرتبطا بنفسه كان يسقط حقه ولا يطالب به ، واذا كان الأمر يتعلق بغيره كان يدافع عنه ،


‏واذا كان الأمر يمس العقيدة أو الأخلاق أو يسيء إلى الاسلام فهذا موطن شجاعته ، ولا حدود لغضبه من غير انفعال ولا تهاون في قضايا الدين والأخلاق ، ولا يقبل أي مساومة في أمور الدين ، ولا يخشى حاكما مهما كان قويا أو زعيما مهما رسخت مكانته أو مركزا من مراكز القوى الاجتماعية ، فالدين في نظره مقدس ، ولا يقبل التنازل في أي حق من حقوق الله ، ويصبح في أمور الدين كالمحارب الذي يدافع بكل وسيلة ، مهما كلفه ذلك من تضحيات .


‏وما زالت مدينة حلب تذكر مواقفه الشجاعة في وجه خصوم الدين الذين يسيئون لعقيدة الأمة وينتهكون حرمة الدين بكلمة أو عبارة أو موقف ، وكان ‏يعتبر نفسه في مواقف الدفاع عن الدين جنديا في معركة إلى أن يعود الحق إلى نصابه .


‏وما زلت أذكر حادثة وقعت في مدينة حلب في بداية الخمسينيات عندما تعرض صحافي بارز في مقالة نشرت في جريدة حلبية شهيرة للإسلام وأساء لعقيدة الأمة ، وخرج الشيخ غاضبا لله في مسيرة باتجاه دار الحكومة وانضم إليها عشرات الآلاف من سكان حلب تأييدا لموقف الشيخ تطالب بمعاقبة ذلك الكاتب الذي أساء للدين .

انتهى من كتاب الشيخ محمد النبهان للدكتور محمد فاروق النبهان