[align=center]كذلك يضرب الله الأمثال[/align]
( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) ( الروم :58).
الأمثال جمع مثل، والمثل والمثل والمثيل: كالشبه والشبه والشبيه لفظاً ومعنَى، والمراد به هنا إبراز المعنى في صورة حسية تكسبه روعة وجمالاً.
ومن العلماء من أفرد الأمثال في القرآن بالتأليف، ومنهم من عقد لها باباً في كتاب من كتبه، فأفردها بالتأليف أبو الحسن الماوردي، وعقد لها باباً السيوطي في الإتقان، وابن القيم في كتاب إعلام الموقعين حيث تتبع أمثال القرآن التي تضمنت تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم فبلغت بضعة وأربعين مثلاُ.
وكانت الأمثال لوناً من ألوان البيان الذي نضج في التراث العربي، وأفضله أوجزه وأحكمه أصدقه .
وهي ضروب من الأقوال الفنية البليغة المتضمنة للحكم التي عبرت عن أوضاع اجتماعية أو نفسية أو فكرية أو سلوكية، فلذلك كانت أكثر جرياناً على ألسنة الناس، وكانت الأمثال الموجزة كثيرة في كلام الأنبياء والحكماء، وفي الشعر والخطب، يستحضرها القوم في المناسبات والمنتديات والأسواق الأدبية .
وإذا كان للأمثال هذا القدر الكبير من فإن كتاب الله أولى باستعمالها من أجل الموعظة والتوجيه والاعتبار، لأن رسالة الإسلام جاءت من أجل إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وكل وسيلة تبلغ الإنسان إلى هذه الغاية كان كتاب الله يستعملها، أخرج البيهقي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال وحرام ومحكم ومتشابه، وأمثال، فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال) .
الأمثال، كما في الحديث الشريف، للاعتبار والموعظة، لأنها نبهت الناس لما ينبغي أن يتبعوه أو يجتنبوه•
ولقد أخذ الشعراء والأدباء والخطباء من أمثال القرآن ما يقوي حجتهم، ويكسب أدبهم سمة الجمال والرونق، قال أبو تمام يرد على بعض من أنكر عليه ضرب لون من المثل في شعره:
[align=center]لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلا من المشكاة والنبراس[/align]
ومن خصائص أمثال الكتاب العزيز أنها ارتبطت بالمجتمع في معتقداته وتفكيره وأخلاقه من أجل إصلاح الأفراد، وتوجيههم إلى سبيل الخير، فقبحت الكفر والضلال تنفيراً ، وزينت الإيمان والتقوى ترغيباً، ودعت إلى الاستقامة والعمل الصالح، ولقد ضرب الله مثلاً لقوم أهملوا تعاليم الكتب السماوية، ولم ينتفعوا بها وهي بين أيديهم، فقال تعالى: ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) (الجمعة: 5).
وقال تعالى فيمن لا ينتفع بعمله، ولو كان كثيراً، لأنه لا يقوم على مبدأ سليم: ( فمثله كمثل صفوان عليه تراب ) ( البقرة :264) أي كحجر أملس عليه تراب، فهو غير صالح للإنبات، ولو نزل عليه المطر ليلاً ونهاراً•
وذكر الله أن أمثال القرآن يدرك مراميها وأثرها العقلاء، قال عز وجل: ( وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون) (العنكبوت : 43).
وجاءت الأمثال في كتاب الله لبيان فضل من يعبد إلهاً واحداً يقوم بما كلفه به، ويرجو ثوابه، على من يعدد الآلهة فلا يدري أيها يستقر على عبادته، ويدعوه ليستجيب له، فقال تعالى: ( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون، ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) (الزمر:28).
ومثل من يتمادى في الضلال والكفر والعصيان بالأعمى والأصم، ومن يتبع الهدى بالبصير والسميع والفرق بينهما لا يخفي على أحد، قال تعالى: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، هل يستويان مثلاً، أفلا تذكرون) ( هود : 24).
كما نجد الغاية من ضرب الأمثال في القرآن الكريم زيادة الإفهام والتوضيح والتذكير، فيأتي المثل لتصوير المعنوي بالمحسوس والمشهد بالغائب، فيكون وقعه بذلك أمكن في النفوس، وهذا من شأنه أن يبعد الحيرة والشك عن المترددين وضعاف الإرادة قال تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفروعها في السماء، توتي أكلها كل حين بأذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) ( إبراهيم:26-28 ).
هذا المثل نموذج في البلاغة الرفيعة، والغاية منه هي هداية الناس للتقوى، وتثبيت الإيمان في نفوسهم حيث تبدو الكلمة الطيبة في هذا المثل المعجز، وهي كلمة التوحيد كشجرة مخضرة يانعة، وارفة الظلال، زاهية الأغصان، ناضجة الثمار، ممتدة في السماء، تعطي ثماراً طيبة في كل حين، أما الكلمة الخبيثة، وهي كلمة الشرك والضلال ، فهي كشجرة خبيثة لا قرار لها ولا ثمار ولا ظلال ولا أغصان سوى الشوك الذي يؤذي، ولذلك فهي سهلة الاجتثاث مثل الشرك والكفر لا يثبت أمام الحق.
هكذا كان يضرب الأمثال في كتاب الله من أجل الرجوع إلى كلمة التوحيد قال الله تعالى : ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) (التحريم :10)، وفي الذين ثبتوا على مبدأ التوحيد ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ) (التحريم :11)، (ومريم ابنة عمران ) (التحريم:12 ) .
لكن الذين يصرون على الكفر والعصيان لا تنفع فيهم الأمثال، لأن قلوبهم غلف، قال الله تعالى ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً ) (الإسراء :89 ) .
الأمثال المرسلة في القرآن الكريم
وهي جمل أرسلت إرسالاً من غير تصريح بلفظ التشبيه، فهي آيات جارية مجرى الأمثال ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
1 ـ (الآن حصحص الحق) (يوسف: 51 ).
2 ـ (ليس لها من دون الله كاشفة) (النجم :58).
3 ـ (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) ( يوسف : 41 ).
4 ـ (أليس الصبح بقريب) (هود : 58 ).
5 ـ (لكل نبأ مستقر) ( الأنعام 67).
6 ـ (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)( فاطر: 43)
واختلفوا في هذا النوع من الآيات الذي يسمونه إرسال المثل، ما حكم استعماله استعمال الأمثال؟
فرآه بعض أهل العلم خروجاً عن أدب القرآن.
قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) (الكافرون:6) : جرت على عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند التاركة وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل يتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه.
ورأى آخرون أنه لا حرج في ما يظهر أن يتمثل الرجل بالقرآن في مقام الجد كأن يأسف أسفاً شديداً لنزول كارثة قد تقطعت أسباب كشفها عن الناس فيقول: (ليس لها من دون الله كاشفة) (النجم :58) أو يحاوره صاحب مذهب فاسد يحاول استهواءه إلى باطله فيقول (لكم دينكم ولي دين).
والإثم الكبير في أن يقصد الرجل إلى التظاهر بالبراعة فيتمثل بالقرآن حتى في مقام الهزل والمزاح.
المفضلات