أنوار من سورة القدر
ليلة اختصها الله عز وجل من بين الليالي ، ليلة العبادة فيها هي خير من عبادة ألف شهر ، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، ألا وهي ليلة القدر مبيناً لنا إياها في سورتين :
قال الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2}
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ {5}
و في سورة الدخان :{ إنا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركةٍ إنا كنا مُنذٍرين * فيها يُفرَقُ كلُ أمرٍ حكيم }.
تحليل سورة القدر :
قوله تعالى: "إنا أنزلناه" يعني القرآن، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة؛ لأن المعنى معلوم، والقرآن كله كالسورة الواحدة.
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } تنويهٌ بشأنِ القرآنِ الكريمِ وإجلال لمحلِه بإضمارِهِ المُؤذنِ بغايةِ نباهتِهِ المغنيةِ عن التصريحِ بهِ كأنهُ حاضرٌ فِي جميعِ الأذهانِ ، وبإسنادِ إنزالِه إلى نونِ العظمةِ المنبىءِ عنْ كمالِ العنايةِ بهِ وتفخيمُ وقتِ إنزالِه .
المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر.
وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى اللّه عليه وسلم نجوماً نجوماً.
" في ليلة القدر " ولم يقل في نهار القدر لأن الليل جليس الصالحين ، وكان أحد الصالحين يقول :
أحب الليل لمناجاة الحق ، وأكره النهار لملاقاة الخلق.
" ليلة القدر خير من ألف شهر " وألف شهر تساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر ، وإذا كانت ليلة القدر خير من هذا ، وأعمار هذه الأمة كما قال عليه السلام : أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك" رواه ابن ماجه.
فكأن الله تعالى يقول : يا أمة محمد ليلة القدر خير من العمر كله .
وكان العابد فيما مضى لا يسمى عابداً حتى يعبد اللّه ألف شهر، ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل اللّه تعالى لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم عبادة ليلة خيراً من ألف شهر كانوا يعبدونها.
وقيل: أراد بقوله ألف شهر جميع الدهر؛ لأن العرب تذكر الألف في كثير من الأشياء على طريق المبالغة.
"تنزل الملائكة" أي تهبط من كل سماء، ومن سدرة المنتهى.
" والروح " هو جبريل عند جمهور المفسرين، أي: تنزل الملائكة ومعهم جبريل، ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه.
"بإذن ربهم" أي بأمره.
"من كل أمر" أمر بكل أمر قدره اللّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.
وقيل: إن { من } بمعنى اللام، أي: لكلّ أمر.
وقيل: هي بمعنى الباء، أي: بكلّ أمر.
"سلام" أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها.
وقيل : هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر؛ يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن.
وقيل: هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة.
وقال مجاهد: هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذى.
"حتى مطلع الفجر" أي إلى طلوع الفجر.
معجزات عددية في سورة القدر :
سورة القدر : اشتملت على خمس آيات وكأنها تذكر الأمة بأركان الإسلام الخمسة وتحثها على التمسك بالصلوات الخمس جماعة في بيت من بيوت الله تعالى.
وسورة القدر اشتملت على ثلاثين كلمة وكأنها أيضاً تنبه السلمين على التقرب إلى الله بكل أنواع القربات في هذه الأيام الثلاثين ( أياماً معدودات )، حتى قيل : إن ( سلام هي ) كلمة ( هي ) رقمها سبع وعشرون وهي دليل عند بعضهم أن ليلة السابع والعشرين هي ليلة القدر.
كما اشتملت سورة القدر على 114 مائة وأربعة عشر حرفاً فهي تحث الأمة أيضاً على تلاوة القرآن المجيد وخاصة في شهر القرآن الكريم الذي كان النبي يتدارس القرآن فيه مع جبريل عليه السلام.
سبب تسميتها بليلة القدر :
أولاً : سميت ليلة القدر من القدر وهو الشرف كما تقول فلان ذو قدر عظيم ، أي ذو شرف .
ثانياً : أنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة ، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام ، وهذا من حكمة الله عز وجل .
ثالثاً : وقيل لأن للعبادة فيها قدر عظيم لقول النبي ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه.
رابعاً : وقيل لأنها نزل فيها كتاب ذو قدر، بواسطة ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وأمة ذات قدر.
خامساً : وقيل لأن من أقامها وأحياها صار ذا قدر.
علامات ليلة القدر :
قوة الإضاءة والنور في تلك الليلة ، وهذه العلامة في الوقت الحاضر لا يحس بها إلا من كان في البر بعيداً عن الأنوار
الطمأنينة ، أي طمأنينة القلب ، وانشراح الصدر من المؤمن ، فإنه يجد راحة وطمأنينة وانشراح صدر في تلك الليلة أكثر من مما يجده في بقية الليالي
أن الرياح تكون فيها ساكنة أي لا تأتي فيها عواصف أو قواصف ، ليلتها سمحة بلجة لا حارة ولا باردة
أنه قد يُري الله الإنسان الليلة في المنام ، كما حصل ذلك لبعض الصحابة رضي الله عنهم .
أن الانسان يجد في القيام لذة أكثر مما في غيرها من الليالي .
أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع ، صافية ليست كعادتها في بقية الأيام ، ويدل لذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : أخبرنا رسول الله : (أنها تطلع يومئذ ٍ لا شعاع لها ) رواه مسلم .
فضائل ليلة القدر :
أنها ليلة أنزل الله فيها القرآن ، { إنا أنزلناه في ليلة القدر }.
أنها ليلة مباركة ، { إنا أنزلناه في ليلة مباركة }.
يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام ، { فيها يفرق كل أمر حكيم }.
فضل العبادة فيها عن غيرها من الليالي ، { ليلة القدر خير من ألف شهر}.
تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة ، { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر }.
ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر ، وتكثر فيها السلامة من العذاب ولا يخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها فهي سلام كلها ، { سلام هي حتى مطلع الفجر }.
فيها غفران للذنوب لمن قامها واحتسب في ذلك الأجر عند الله عز وجل ، قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) - متفق عليه .
روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله قال أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان .
ومن هذا الحديث يعلم أن القرآن أنزل ليلة الرابع والعشرين من رمضان وكانت تلك الليلة ليلة القدر.
إذ إنه ليس من المحتّم أن تكون ليلة سبع وعشرين أو تسع وعشرين إنما الغالب أن تكون كذلك لأن الرسول قال كذلك:
"فالتمسوها في العشر الأواخر"
أي لأن الغالب أن تكون في العشر الأواخر وليس لأنه لا تكون إلا فيه وإلا فإنها قد توافق الليلة الأولى أو الثانية أو غيرهما، والحكمة من إخفائها كي يتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان كلها طمعًا منهم في إدراكها.
وأخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله :
"إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى، فإذا كان يوم عيدهم باهى بهم الملائكة فقال: يا ملائكتي ما جزاء أجير وفى عمله؟ قالوا: ربنا جزاؤه أن يؤتى أجره. قال: يا ملائكتي عبيدي وإمائي قضوا فريضتي عليهم ثم خرجوا يعجون إلي بالدعاء وعزتي وجلالي وكرمي وعلوي وارتفاع مكاني لأجيبنهم، فيقول: ارجعوا فقد عفرت لكم وبدلت سيئاتكم حسنات فيرجعون مغفورا لهم".
وأخرج الإمام مالك وابن أبي شيبة والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال: من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن بن الحر قال: بلغني أن العمل في يوم القدر كالعمل في ليلتها.
وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"قلت يا رسول الله: إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
ياليلة القدر التـي قـد ميّـزت * * * عن ألف شهر صح في الحسبان
هل من سبيل أن نراك ونرتوي * * * من سلسبيلك شربـة الظمـآن
* * *
هي ليلة القدر التي شرفت * * * على كل الشهور وسائـر الأعـوام
من قامها غفر الإلـه بفضلـه * * * عنه الذنـوب وسائـر الآثـام
المفضلات