النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: العز بن عبد السلام.. بائع الملوك الشيخ الشجاع

  1. #1
    كلتاوي فضي

    الحاله : Omarofarabia غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Nov 2007
    رقم العضوية: 448
    المشاركات: 706
    معدل تقييم المستوى : 117
    Array

    افتراضي العز بن عبد السلام.. بائع الملوك الشيخ الشجاع

    [hide]
    العز بن عبد السلام.. بائع الملوك الشيخ الشجاع

    --------------------------------------------------------------------------------

    العز بن عبد السلام.. بائع الملوك

    (في ذكرى وفاته: 10 من جمادى الأولى 660هـ)

    أحمد تمام





    لم يخل عصر من عصور الإسلام من العلماء الدعاة الذين يأخذون بيد الأمة في ظلام الليل البهيم، وعند اشتداد الخطب واضطراب الأمور، يقومون بواجبهم المقدس في أداء الأمانة ونشر العلم، وتقويم الاعوجاج، ومواجهة الظلم، وتصويب الخطأ، وقام العلماء الأفذاذ بهذه السنة الحميدة؛ استشعارًا للمسئولية، وتقديرًا للأمانة، وإدراكًا لعظم دورهم باعتبارهم طليعة الأمة، ولسان حالها، وروادها.. والرائد لا يكذب أهله.

    والعز بن عبد السلام، واحد من هؤلاء الرواد الصادقين، لم تشغلهم مؤلفاتهم ووظائفهم عن الجهر بكلمة الحق، وتبصير الناس، ومحاربة البدع، ونصح الحكام، وخوض ميادين الجهاد، حتى طغى هذا النشاط على جهدهم العلمي وهم المبرزون في علومه، واقترنت أسماؤهم بمواقفهم لا بمؤلفاتهم، وحمل التاريخ سيرتهم العطرة تسوق إلى الناس جلال الحق وعظمة الموقف، وابتغاء رضى الله، دون نظر إلى سخط حاكم أو تملق محكوم، فهو ينطق بما يعتقد أنه الصواب والحق، غير ملتفت إلى غضب هذا أو رضى ذاك.

    المولد والنشأة

    في دمشق كان مولد عبد العزيز بن عبد السلام المعروف بالعز سنة (577 هـ = 1181م)، وبها نشأ وتلقى تعليمه، وكانت دمشق منذ العصر الأموي حاضرة من حواضر العلم تزخر بالعلماء وتموج فيها الحركة العلمية، ويقصدها العلماء من الشرق والغرب.

    ولم يطلب العز العلم صغيرًا مثل أقرانه، وإنما ابتدأ العلم في سن متأخرة، وانتظم في التزام حلقات الدرس وأكب على العلم بشغف ونهم وهمة عالية، فحصل في سنوات قليلة ما يعجز أقرانه عن تحصيله في سنوات طويلة، ورزقه الله الفهم العميق والذكاء الخارق فأعانه ذلك على إتقان الفقه والأصول، ودراسة التفسير وعلوم القرآن وتلقي الحديث وعلومه، وتحصيل اللغة والأدب والنحو والبلاغة.

    وأشهر شيوخ العز ما ذكرهم السبكي في طبقات الشافعية بقوله: تفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر، وقرأ الأصول على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره، وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن عساكر.

    الوظائف

    اتجه العز إلى التدريس وإلقاء الدروس في مساجد دمشق وفي بيته، وفي المدارس التي كانت تتعهدها الدولة، مثل: المدرسة الشبلية، والمدرسة الغزالية بدمشق، وكان في الشيخ حب للدعابة وميل إلى إيراد الملح والنوادر يلطف بها درسه وينشّط تلاميذه الذين أعجبوا بطريقته، وبعلمه السيال وأفكاره المتدفقة وأسلوبه البارع، وسرعان ما طار صيت العز، وطبقت شهرته الآفاق، وقصده الطلبة من كل مكان، ولما هاجر إلى مصر عمل بالمدرسة الصالحية، وانصرف إلى إلقاء الدروس في المساجد، والتف الناس حوله يجدون فيه عالمًا شجاعًا ومدرسًا بارعًا.

    الخطابة في الجامع الأموي

    ولم يكن التدريس فقط ميدانه المحبب، وساحته التي يرمي بأفكاره فيها، ويلتقي بالصفوة من تلاميذه، يمدهم بقبس علمه، وصفاء روحه، وإخلاص نفسه، ويقدم الصورة والمثال لما ينبغي أن يكون عليه العالم القدوة من الالتزام والانضباط -وإنما أضاف إلى ذلك مجالاً أرحب بتوليه الخطابة في الجامع الأموي بدمشق سنة (637 هـ = 1239م)، وكان خطيبًا بارعًا، يملك أفئدة السامعين بصوته المؤثر، وكلامه المتدفق، وإخلاصه العميق، ولم يكن يؤثر استخدام السجع المفرط كما كان يفعل أقرانه، ولا يدق مثلهم بالسيف الخشبي على أعواد المنابر، ولا يرتدي السواد، وإنما كان فيه سلاسة ويسر، يبتعد عن التكلف في الكلام، ويصيب بحديثه الطيب شغاف القلوب، فيعمل فيها ما لا تعمله عشرات الدروس والمواعظ الخالية من الروح، الفقيرة من العاطفة.

    وشاء الله أن يخسر المسلمون في دمشق خطب الشيخ الجامعة، فلم يستمر في الخطابة سوى سنة تقريبًا، وفقد المنصب بسبب شجاعته وقرعه بالنكير على صنيع الصالح إسماعيل حاكم دمشق، بعد أن وضع يده في يد الصليبيين، وتحالف معهم ضد ابن أخيه الصالح أيوب حاكم مصر، وكان ثمن هذا الحلف أن سلّم لهم صيدا وشقيف وصفد، ولم يكتف الصالح إسماعيل بتصرفه الشائن وإنما سمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر.

    ولم يكن الشيخ ليسكت عن خطأ أو يسمح بتجاوز في حق الأمة، أو تفريط في ثوابتها؛ فأفتى بحرمة بيع السلاح للفرنج بعد أن ثبت أنه يُستخدم في محاربة المسلمين، ثم أعقب ذلك بخطبة مدوية في الجامع الأموي قبح فيها الخيانة وغياب النجدة والمروءة، وذم ما فعله السلطان وقطع الدعاء له بالخطبة.

    وما كان من الصالح إسماعيل إلا أن أقدم على عزل الشيخ الجليل عن الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، ثم فك حبسه بعد مدة خوفًا من غضبة الناس وألزمه بيته، ومنعه من الإفتاء.

    في القاهرة

    أيقن الشيخ صعوبة الحركة مع حاكم يفرّط في الحقوق، ويقدم على الخيانة بنفس راضية، فقرر الهجرة إلى بلد يمارس فيها دعوته، ويدعو إلى الله على بصيرة، عالي الجبين، مرفوع الهامة، فولّى شطره إلى القاهرة، ورفض العودة إلى دمشق بعد أن طلب منه بعض دعاة الصلح أن يترفق بالسلطان، ويلاينه وينكسر له حتى يرضى عنه، وأطلق عبارته الكريمة للساعي إلى الصلح: "يا مسكين ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلا أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به".

    وصل الشيخ إلى القاهرة سنة (639 هـ = 1241م) واستقبله الصالح أيوب بما يليق به من الإكرام والتبجيل، وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وعينه في منصب قاضي القضاة، والإشراف على عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة، وهي الأعمال التي تناط الآن بوزارة الأوقاف، لكنها كانت تستند في ذلك الوقت إلى القضاة؛ لأمانتهم ومكانتهم الدينية والاجتماعية.

    بائع الأمراء

    قبل الشيخ الجليل منصب قاضي القضاة ليصلح ما كان معوجًا، ويعيد حقًا كان غائبًا، وينصف مظلومًا، ويمنع انحرافًا وبيلا، فلم يكن يسعى إلى جاه وشهرة، وفي أثناء قيامه بعمله اكتشف أن القادة الأمراء الذين يعتمد عليهم الملك الصالح أيوب لا يزالون أرقاء لم تذهب عنهم صفة العبودية، والمعروف أن الملك الصالح أكثر من شراء المماليك وأسكنهم جزيرة الروضة واعتمد عليهم في إقامة دولته وفي حروبه، وهؤلاء المماليك هم الذين قضوا على الدولة الأيوبية في مصر وأقاموا دولتهم التي عُرفت بدولة المماليك.

    وما دام هؤلاء الأمراء أرقاء فلا تثبت ولايتهم ونفاذ تصرفاتهم العامة والخاصة ما لم يُحرروا، فأبلغهم بذلك، ثم أوقف تصرفاتهم في البيع والشراء والنكاح وغير ذلك مما يثبت للأحرار من أهلية التصرف، فتعطلت مصالحهم، وكان من بين هؤلاء الأمراء نائب السلطان.

    وحاول هؤلاء الأمراء مساومة الشيخ فلم يفلحوا وأصر على بيعهم لصالح بيت المال، ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحرارًا تنفذ تصرفاتهم، قائلا لهم: نعقد لكم مجلسًا، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي، وما كان ذلك ليرضيهم فرفضوا ورفعوا الأمر إلى السلطان الصالح أيوب، فراجع الشيخ في قراره فأبى، وتلفظ السلطان بكلمة ندَّت منه أغضبت الشيخ، وفهم منها أن هذا الأمر لا يعنيه ولا يتعلق بسلطته، فانسحب الشيخ وعزل نفسه عن القضاء، فما قيمة أحكامه إذا لم تُنفذ، وردها صاحب الجاه والسلطان.

    وما أن انتشر خبر ما حدث، حتى خرجت الأمة وراء الشيخ العز الذي غادر القاهرة وأدرك السلطان خطورة فعلته، فركب في طلب الشيخ واسترضاه وطيَّب خاطره واستمال قلبه، وطلب منه الرجوع معه، فوافق العز على أن يتم بيع الأمراء بالمناداة عليهم.

    وكم كان الشيخ مهيبًا جليلا وهو واقف ينادي على أمراء الدولة واحدًا بعد واحد، ويغالي في ثمنهم حتى إذا ارتفع السعر إلى أقصى غايته وعجز المشترون قام السلطان الصالح أيوب بدفع الثمن من ماله الخاص إلى الشيخ الشجاع الذي أودع ثمنهم بيت مال المسلمين، وكانت هذه الوقعة الطريفة سببا في إطلاق اسم بائع الملوك على الشيخ المهيب.

    مع الظاهر بيبرس

    وتكرر هذا الأمر منه عند بيعة الظاهر بيبرس حين استدعى الأمراء والعلماء لبيعته، وكان من بينهم الشيخ العز، الذي فاجأ الظاهر بيبرس والحاضرين بقوله: يا ركن الدين أنا أعرفك مملوك البندقدار -أي لا تصح بيعته؛ لأنه ليس أهلا للتصرف- فما كان من الظاهر بيبرس إلا أن أحضر ما يثبت أن البندقدار قد وهبه للملك الصالح أيوب الذي أعتقه، وهنا تقدَّم الشيخ فبايع بيبرس على الملك.

    وكان الظاهر بيبرس على شدته وهيبته يعظم الشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاواه، ويعبر السيوطي عن ذلك بقوله: وكان بمصر منقمعًا، تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن.

    مؤلفاته وجهوده العلمية

    تعددت مساهمات العز بن عبد السلام في الإفتاء والخطابة والقضاء والتدريس والتأليف، وله في كل إسهام قدم راسخة ويد بيضاء، وانتهت إليه في عصره رياسة الشافعية، وبلغت مؤلفاته ثلاثين مؤلفًا، وهي دليل نبوغ فذ وقدرة عالية على أن يجمع بين التأليف وأعماله الأخرى التي تستنفد الجهد وتفنى الأعمار فيها، لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، فاجتمع له من الفضل ما لم يجتمع إلا للأفذاذ النابغين من علماء الأمة.

    وشملت مؤلفاته التفسير وعلوم القرآن والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله والفتوى. ومن أشهر كتبه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، والغاية في اختصار النهاية في الفقه الشافعي، ومختصر صحيح مسلم، وبداية السول في تفضيل الرسول، والإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، وتفسير القرآن العظيم، ومقاصد الصلاة، ومقاصد الصوم.

    وفاته

    طال العمر بالعز بن عبد السلام، فبلغ ثلاثة وثمانين عاما قضى معظمها في جهاد دائم بالكلمة الحرة، والقلم الشجاع، والرأي الثاقب، وحمل السلاح ضد الفرنج؛ للمحافظة على حقوق الأمة حتى لقي ربه في (10 من جمادى الأولى 660 هـ = 9 من إبريل 1066م).

    [/hide]

  2. #2
    كلتاوي جديد

    الحاله : همام غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2007
    رقم العضوية: 75
    المشاركات: 5
    معدل تقييم المستوى : 0
    Array

    افتراضي رد: العز بن عبد السلام.. بائع الملوك الشيخ الشجاع

    [align=center]شكرا لك أخي الكريم على هذا السرد الرائع وجزاك الله عن أعضاء المنتدى كل خير[/align]

  3. #3
    كلتاوي نشيط
    الصورة الرمزية الحسن عبدالله إبراهيم

    الحاله : الحسن عبدالله إبراهيم غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Oct 2007
    رقم العضوية: 350
    الدولة: سوريا ـــ حلـــــــــــــــب
    الهواية: بالثقافة الدينية والقراءة
    السيرة الذاتيه: شهادتي الثانوية من / الشعبانية / والآن طالب في جامعة الأزهر سنة رابعة
    العمل: حاليا ً خطيب
    العمر: 39
    المشاركات: 106
    معدل تقييم المستوى : 114
    Array

    افتراضي رد: العز بن عبد السلام.. بائع الملوك الشيخ الشجاع

    شكرا ً لك أخي الفاضل هؤلاء هم الرجال الذين لا يخافون في الله لومة لائم رضي الله عنهم

  4. #4
    كلتاوي الماسي
    الصورة الرمزية صهيب ياس الراوي

    الحاله : صهيب ياس الراوي غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2007
    رقم العضوية: 17
    الدولة: العراق
    الهواية: طلب العلم
    العمل: امام وخطيب
    المشاركات: 1,335
    معدل تقييم المستوى : 124
    Array

    افتراضي رد: العز بن عبد السلام.. بائع الملوك الشيخ الشجاع

    رضي الله عنه وارضاه


    ياأيها الفرد الحبيب نبهان ياعون الغريب لم يبق لي صبر لحين والقلب ذوبه الحبيب

  5. #5
    كلتاوي فضي

    الحاله : Omarofarabia غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Nov 2007
    رقم العضوية: 448
    المشاركات: 706
    معدل تقييم المستوى : 117
    Array

    افتراضي رد: العز بن عبد السلام.. بائع الملوك الشيخ الشجاع

    العز بن عبد السلام

    إشراف د.راغب السرجاني




    نسبه وقبيلته:

    هو عبد العزيز بن عبيد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، شيخ الإسلام وبقية الأعلام، الشيخ عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي.

    مولده:

    577 هـ، 1181 م

    البلد التي ولد فيها:

    ولد ونشأ في دمشق.

    طفولته وتربيته ومواقف من حياته:

    نشأ العزّ بن عبد السلام في أسرة فقيرة، وكان هذا من الأسباب التي جعلته يطلب العلم بعد أن أصبح كبيرًا، وقد أتاح له ذلك مع - اجتهاده في طلب العلم وصبره عليه - أن يتفقه كثيرًا وأن يعي ما يحصّله من علم أكثر من غيره.

    زار العزّ بن عبد السلام بغداد عام 599 هـ حيث كان عمره اثنين وعشرين سنة، ولم يمكث فيها إلا شهرًا واحدًا عاد بعده إلى دمشق....

    عاش رحمه الله حياته في دمشق إلى أن تولّى "الصالح إسماعيل الأيوبي" أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكماً لمصر، والذي تحدثنا كثيراً عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائناً لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكاً شخصياً حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين ما يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل.. فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلاً من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان متلطفاً له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، وبشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله..

    وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وقال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!"..

    فرد عليه العز بن عبد السلام رحمه الله في كبرياء وعزة فقال:

    "والله يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلاً أن أقبل يده، يا قوم: أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به"..

    الله أكبر!!.. هؤلاء هم العلماء بحق!

    وكان ردّ الصالح إسماعيل متوقعاً، فقد أمر باعتقال الشيخ الكبير في بيت المقدس، ووضعه في خيمة مجاورة لخيمته، وكان الشيخ عزّ الدين رحمه الله يقرأ القرآن في خيمته، والسلطان الصالح إسماعيل يسمعه، وفي ذات يوم كان الصالح إسماعيل يتحدث مع ملوك الصليبيين في خيمته والشيخ يقرأ القرآن، فقال الصالح إسماعيل لملوك الصليبيين وهو يحاول استرضاءهم: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر علماء المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم"..

    يقول الصالح إسماعيل هذا الكلام ليسترضي ملوك النصارى، فقال له ملوك النصارى وقد سقط تماماً من أعينهم: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!"..

    وحُبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، حيث استُقبل أحسن استقبال، وقرب جداً من السلطان الصالح أيوب رحمه الله، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولّاه القضاء..

    ومن مواقفه الشهيرة والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلاً عن كلمة الحق، فرفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مفتي، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحياً بالوضع الإجتماعي وبالمال وبالأمان بل وبكل الدنيا..

    وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه، ولكن شعب مصر المقدّر لقيمة العلماء رفض ذلك الأمر، فماذا حدث؟

    لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييداً له، وإنكاراً على مخالفيه..

    ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحداً بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جداً، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يعرف "ببائع الأمراء!"...

    أهم ملامح شخصيته:

    فقهه وعلمه:

    من أهم ملامح شخصية الشيخ - رحمه الله - علمه وفقهه، فقد تميّز الشيخ وبرع في هذه الناحية كثيرًا حتى لقبّه تلمذه الأول ابنُ دقيق العيد بسلطان العلماء، ومما يشهد بسعة علم الشيخ ما تركه للأمة من مؤلفات كثيرة عظيمة القيمة عميقة الدقة في مادتها والتي ما زال الكثير منها مخطوطًا ولم يطبع بعد...

    هيبته وجرأته في الحق

    هذا الجانب أيضًا مما تميّز به الشيخ وبلغ فيه مبلغًا عظيمًا حتى اشتهر به فلا يُذكر العز بن عبد السلام إلا وتُذكر الهيبة التي يهبها الله للعاملين المخلصين من عباده، لا يُذكر العز - رحمه الله إلا وتُذكر معه الجرأة على كل مخالف لشرع الله مهما علا مكانه وارتفعت بين الناس مكانته، ونظرة في أي مرحلة من حياة الشيخ نجد هذا الأمر ملازمًا له لا ينفك عنه بحالٍ من الأحوال، وكما ذكرنا أنه قد اصدر فتواه الجريئة العجيبة ببيع الأمراء المماليك مع ما كان لهذه الفتوى من ردّ فعلٍ قاس وعنيف من قبل هؤلاء الأمراء، ولكنهم لم يكونوا ليخالفوا أمر سلطان العلماء الذي تعلوا كلمته على كل كلمة في القطر كله فتم بيعهم وعتقهم ورجه ثمنهم إلى بيت مال المسلمين الذي تم شراؤهم منه...

    ويُذكر عن بيبرس أنه كان يهاب سلطان العلماء العزّ - رحمه الله -.

    وتمتليء حياة الشيخ بمثل هذه المواقف العظيمة التي تبناها الشيخ ودافع عنها إلى آخر لحظة من لحظات حياته المباركة - رحمه الله -.

    وقد وُصف الشيخ - رحمه الله - أيضًا، بالزهد والورع الشديدين، كما وُصف بالبذل والسخاء والكرم والعطاء، والعطف على المحتاجين مما يجعل من شخصيته رحمه الله نموذجًا رائعًا يُقتدي به في ميادين الحياة المختلفة.

    شيوخه:

    حضر أبا الحسين أحمد بن الموازيني والخشوعي، وسمع عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، والقاسم بن عساكر وابن طبرزد، وحنبل المكبر، وابن الحرستاني وغيرهم. وخرج له الدمياطي أربعين حديثاً عوالي.

    وتفقه على الإمام فخر الدين ابن عساكر...

    تلاميذه:

    روى عنه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والدمياطي، وأبو الحسين اليونيني وغيرهم...

    مؤلفاته:

    للعز بن عبد السلام رحمه الله مؤلفات كثيرة منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط فله كتاب الإلمام في أدلة الأحكام، وترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام، وله كتاب في التفسير، وكتاب شجرة المعارف، وله كتاب في العقيدة سمّاه عقائد الشيخ عز الدين وشرحه الإمام ولي الدين محمد بن أحمد الديباجي، وله كتاب الفتاوى الموصلية، وله كتاب القواعد الكبرى في فروع الشافعية قال عنه صاحب كشف الظنون: وليس لأحد مثله، وكتاب كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار، وله كتاب الغاية في اختصار النهاية.

    وقد وشملت مؤلفات الشيخ التفسير وعلوم القرآن والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله والفتوى.

    منهجه في البحث:

    اهتم الشيخ عز الدين بوضع أصول للفقه، فألف كتابه قواعد "الأحكام في مصالح الأنام" وقد ضمنه كثيرا من القواعد الفقهية. وقال في أوله: "الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح. فإذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه أو جمعا بين الحث والزجر. وقد أبان الله تعالى ما في بعض الأحكام من المفاسد فحث على اجتناب المفاسد وما في بعض الأحكام من المصالح فحث على إتيان المصالح."
    ثم يقول: إما مصالح الدنيا "الدنيا والآخرة" وأسبابها ومفاسدها وأسبابها فلا تعرف إلا بالشرع. فإن خفي طلب بأدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال الصحيح. أما مصالح الدنيا وأسبابها ومقاصدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد فليعرضها على العقل.
    فهو يدعو إلى إعمال العقل في استنباط الأحكام، وفي التعرف على المصالح. وهو يرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة. والعقل هو أداة هذا الاستنباط.

    ويقول: "إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء معاطب الأسقام. والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب فإن كل واحد منهما لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم."
    وتأسيسا على هذا النظر، استنبط كثيرا من الأحكام:
    ـ فنهى عن تعمد المشقة في العبادات والمعاملات. فلا مصلحة في المشقة: "قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم. بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب باستعمال الدواء المر البشع. فإنه ليس غرضه إلا الشفاء، ولو قال قائل كان غرض الطبيب أن يوجد مشقة ألم مرارة الدواء لما حسن ذلك فيمن يقصد الإصلاح.
    وقيل في بعض كتب الله: "بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي".. فلا يصح التقرب بالمشاق. ومن آرائه أنه من الممكن تأخير بعض المصالح لما لتأخيرها من مفاسد فقد أخر الله إيجاب الصلاة والصيام، "ولو عجل بهما لنفروا من الدخول في الإسلام".
    ـ في تحصيل المصالح يراعى الأفضل فالأفضل لقوله تعالى: "فبشر عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه". وقوله "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم".
    وعلى ذلك:
    ـ فإنقاذ الغرقى مقدم على أداء الصلوات لأنه افضل عند الله من أداء الصلاة والجمع بين المصلحتين ممكن بأن ينقذ الغريق ثم يقضي الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك.
    ـ لو رأى الصائم في رمضان غريقا لا يتمكن من تخليصه إلا بالتقوى بالفطر فإنه يفطر وينقذه. لأنه في النفوس حقا لله تعالى وحقا لصاحب النفس، فقد ذلك على أداة الصوم.
    ـ لا يتقدم في ولاية الحرب إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد الحرب والقتال، وقد جاء في الحديث الشريف: "من ولى من أمر المسلمين شيئا ثم لم يجهد له ولم ينصح فالجنة عليه حرام."
    ـ الأئمة "الحكام" البغاة لا ولاية لهم. وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة مصلحة الرعايا، وأنه مع غلبة الفجور عليهم لا انفكاك للناس منهم. وأما أخذهم الزكاة فإن صرفوها في مصارفها أجزأت، وإن صرفوها في غير مصارفها لم يبرأ الأغنياء منها. ومصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء لأنهم يتضررون بعدم أخذ نصيبهم من الزكاة، ولا يتضرر به الأغنياء من تثنية الزكاة.

    ثناء العلماء عليه:

    قال عنه الذهبي: بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن النكر والصلابة في الدين، وقصده الطلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة.

    وقال عنه ابن دقيق العيد: كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء.

    وقال عنه ابن الحاجب: ابن عبد السلام أفقه من الغزالي.

    وقال عنه السيوطي: شيخ الإسلام، سلطان العلماء،.... وبرع في الفقه والأصول والعربية...، مع الزهد والورع، وبلغَ رتبةَ الاجتهادِ.

    وقال عنه ابن السبكي: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها.

    وقال عنه الصفدي: قرأ الأصول والعربية ودرس وأفتى وصنف، وبرع في المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد،وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة، وله الفتاوى السديدة... وكان ناسكاً ورعاً أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.

    نالَ العزّ بن عبد السلام شهرة كبيرة وذاع صيته وعلا نجمه وصار من الأمثال المصرية: ما أنت إلا من العوام ولو كنت ابن عبد السلام...!

    وفاته:

    توفي العز بن عبد السلام رحمه الله سنة 660 هـ، 1262 م عن ثلاث وثمانين سنة.

    من مراجع البحث:

    العز بن عبد السلام............................. د. محمد الزحيلي

    كشف الظنون................................. حاجي خليفة

    قصة التتار من البداية إلى عين جالوت............ د. راغب السرجاني

    أئمة الفقه التسعة.............................. عبد الرحمن الشرقاوي



المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 23-Jun-2010, 11:35 AM
  2. العلاّمة الرباني الشيخ إبراهيم الغلاييني رحمه الله
    بواسطة Omarofarabia في المنتدى منتدى التراجم
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 30-Nov-2007, 04:42 AM
  3. الفقيه الورع الشيخ : أحمد مصطفى الحُصْري " رحمه الله آمين
    بواسطة Omarofarabia في المنتدى منتدى التراجم
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 19-Nov-2007, 03:48 PM
  4. حياة فضيلة العلاّمة الشيخ محمود بعيون الرنكوسي
    بواسطة Omarofarabia في المنتدى منتدى التراجم
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18-Nov-2007, 06:21 PM
  5. الشيخ محمد سعيد الإدلبي رحمه الله
    بواسطة أبوأيمن في المنتدى منتدى التراجم
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 21-Oct-2007, 01:19 AM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •