-
كلتاوي الماسي
حكم كتم تراكيب الأدوية
[align=center]حكم كتم أسرار تراكيب الأدوية[/align]
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الأخت السائلة تسأل وتقول:
ما حكم كتم أسرار تراكيب ومكونات الأدوية التي يتعلمها الطبيب من مصدر أو شخص آخر، وهل عدم إخبارهم أو إعلامهم بتركيبة الأدوية التي يخترعها الطبيب نفسه يعتبر من باب كتم العلم، وجزاكم الله خير الجزاء، وبارك الله فيكم، وجعل جميع أعمالكم خالصة لوجه الله، وتقبلها منكم.. اللهم آمين؟
والجواب: والله الموفق للصواب على النحو الآتي:
إن السائلة قد افترضت في سؤالها أن هذه التراكيب قد خرجت من طور التجارب، وأنه قد ثبت أنها أدوية نافعة بإجراء التجارب الكثيرة، والتي أثبتت نفع هذا الدواء في القضاء على المرض. فإن كان كذلك، فأقول مستعيناً بالله تعالى، وهو حسبي ونِعم الوكيل:
إن هذه المسألة من المسائل الدقيقة التي يتجاذبها أكثر من أمر لا بد من اعتباره،وذلك كالآتي:
لا يخلو الأمر من أن يكون هذا الطبيب في مقام التعليم أو لا، وعلى كلا الحالين لا يخلو الأمر من أن يكون في كتمه لهذا الدواء ضرر بالمجتمع أو لا.
و لا يخلو الأمر - على كل الأحوال - من أن يكون قد تعلّم هذا الدواء من غيره، أو يكون هو الذي اخترعه. وعلى اعتبار أنه هو الذي اخترعه فلا يخلو الأمر من أن يكون قد سجل براعة اختراع أم لا.
فإن كان قد سجل براعة اختراع فلا يخلو الأمر من أن يكون التعليم أو المداواة قد تعيَّنا عليه أم لا.
وأما إن لم يسجل البراعة، فلا يخلو الأمر من أن يكون سبب عدم التسجيل هو استغراق التسجيل لزمنٍ طويلٍ كان أم قصيرٍ، أو من أن يكون سبب ذلك هو تعذر التسجيل.
وأما على اعتبار أنه تعلَّم هذا الدواء من غيره، فلا يخلو الأمر إما أن تكون مداواة الناس قد تعيَّنت عليه أم لا. فبان بعد البحث العميق أن في هذا المسألة ست عشرة فرعاً لم أجد أحداً سبقني إليه.
وإليك بيان الجائز والمحرم من هذه الصور.
أولاً: حالات الكتمان المحرمة:
1- حالات الكتمان المحرمة في مقام التعليم:
إن كان هذا الطبيب في مقام التعليم، أي أن لديه بعض الطلبة الذين يُدرِّسهم هذه العلوم، وكان كتمانه لهذا الدواء سيؤدي إلى إضرارٍ بالناس؛ بسبب ضياع هذه الأدوية وذهابها عنهم، فلا يجوز كتمه على كل الأحوال؛ لأن بقاء هذه الأدوية مما ينفع الناس، وكتمها مما يبقي الضرر الواقع عليهم في انتشار الأدواء والأسقام وبقائها، والضرر يزال كما هو معلوم من قواعد الإسلام العامة.
وقد عُلم أيضاً أن تعلُّم علم الطب من فروض الكفايات التي لا بد أن يقوم به العدد الكافي من المسلمين، والذي به يستغنون عن الأطباء الكافرين، وكذا تعلُّم ما يتعلق بالطب والتداوي؛ ولذا فإن من الواجب على هذا الطبيب أن يُقِيم هذا الفرض الكفائي على وجه شرعي صحيح من أمانة في التعلم وأمانة في التعليم، وقد تعيَّن عليه هذا الواجب لتصدُّرِه له، مع عدم وجود بديل يقوم مقامه؛ وعليه فلا يجوز له أن يمنع هذا الدواء عن الناس بكتمانه له، وعدم وجود البديل عنه؛ لعموم حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال:" من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار "(1) .
وفي رواية أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال:" من سُئِل عن علم فكتمه، أُلجِم بلجام من نار يوم القيامة " (2).
وفي الحديث دلالة على تحريم كتم العلم، وقد وقع خلاف بين العلماء في المقصود بالعلم الوارد في هذا الحديث، والذي يترتب على تركه أن يُلجَم كاتمه بلجام من نار، فقيل:
1- إن هذا خاص بالعلم الشرعي، أي ما أُخِذ من الشرع، أو تَوقَّف علم الشرع عليه، كعلم الكلام أو النحو أو المنطق.
2- وقيل: إن هذا يعمُّ العلوم النافعة سواء كانت من علوم الشرعية أو غيرها من العلوم.
3- وقيل: إن هذا الوعيد مخصوص بمن يلزمه تعليم هذا العلم، أو تعيَّن عليه ذلك.
قال المناوي: (وتنكير "علم" في حيز الشرط يوهم شمول العموم لكل علمٍ حتى غير الشرعي، وخصَّه كثيرٌ - كالحليمي - بالشرعي، والمراد به ما أُخِذ من الشرع أو تَوَقَّف هو عليه توقُف وجودٍ: كعلم الكلام، أو كمالٍ: كالنحو والمنطق، وخصَّه آخرون بما يلزمه تعليمه وتعيَّن عليه). (فيض القدير 6/212). والراجح عندي - والله أعلم - أن الحديث يشمل العلوم النافعة كلها، وعلى رأسها العلوم الشرعية، ويدخل فيها أيضاً العلوم النافعة من غير العلوم الشرعية؛ وذلك للآتي:
1. إن لفظ "علم" في الحديث نكرة جاءت في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فدل ذلك على شمول العلوم النافعة، سواء كانت من علوم الشريعة أو غيرها. وإنما قلتُ: النافعة؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث " من كتم علماً نافعاً جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار "(3)، ولأن العلوم الضارة ليست داخلة قطعاً في هذا العموم لأن كل ضار محرَّم، وكل محرَّم يجب تركه، ومن ترك العلوم الضارة عدم نشرها ووجوب كتمانها.
2. أن النفع المقيد لعموم العلوم وصفٌ يُفيد انطباق هذا الحكم على كل العلوم النافعة . فأيُّما علمٍ نفعَ فقد دخل في هذا الحديث؛ وعليه فمن كتمه أُلجم بلجامٍ من نار فيما ظهر والله أعلم.
3. ومما يؤيد هذا الفهم أن الإسلام قد حرص على تحقيق المقاصد الكلية والحفاظ عليها وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. ومن المعلوم أن الطب من العلوم التي يحافَظ بها على النفس، وإذا كان الحفاظ على الدين بنشر علوم الشريعة، فإن الحفاظ على النفس، والعقل، والعرض يكون بنشر العلوم النافعة، ومنها الطب وهو من المقاصد العظيمة التي لابد من السعي في تحصيلها ونشرها؛ لتستقيم حياة الفرد على أكمل وجه من غير عنت ولا مشقة.
وعلى ذلك فكتمان الطبيب المعلِّم لهذا الدواء عن طلابه محرم، إن كان سيضر بالناس، وكان قد سجل براعة اختراع، أو كان يريد تسجيل البراعة وتعذر عليه ذلك لأي سبب كان؛ إذ لا مبرر لهذا الكتمان، ولأنه بهذا الكتمان سيضر بالناس. فيجب عليه والحال هذه أن يعلَّم العدد الكافي من الطلاب الذي يقوم به الانتفاع بالدواء؛ حتى لا يندَّرس هذا الدواء ويضيع؛ فيضرَّ ذلك بالناس. ولأن المصلحة المتوقعة من تسجيل البراعة قد انعدمت، فأصبح وجود هذه المصلحة كعدمها؛ ولذلك ألغيت، والضرر المترتب على كتمانه لهذا الدواء أعظم من الضرر الذي يلحقه إن أظهره ولم يسجل البراعة؛ لأن مراعاة المصلحة العامة للمسلمين مقدم على مراعاة مصلحته الخاصة على فرض انها مصلحة حقيقية، وقد عُلِم أنه إذا تعارضت مصلحة خاصة موجودة مع مصلحة المسلمين العامة وهي هنا مصلحة المجتمع في إظهار الدواء، قُدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ وهذا أولى بالتحريم لأن مصلحته الخاصة هنا غير موجودة. وعليه فإن كتم هذا العلم فهو آثم، لا سيما إن تعيُّن التعليم عليه.
- ومن الصور المحرمة أيضاً في كتمان الأدوية من هذا الطبيب المعلم، ما إذا كان لم يخترع هو الدواء، وإنما تعلّمه من غيره، وكان التداوي بهذا الدواء قد تعيَّن لعدم وجود البدائل الأخرى من الأدوية التي تقوم مقام هذا الدواء؛ لأن كتمانه له إضرار بالناس محض.
2- حالات الكتمان المحرمة في غير مقام التعليم:
وأما الصور المحرمة في كتمانه لهذا الدواء، مع كون هذا الطبيب في غير مقام التعليم، بل في مقام المداواة، فهي ما إذا كان سيؤدي هذا الكتمان إلى إضرار بالناس، وكان هو الذي اخترع الدواء، وكان قد سجل براعة اختراع ، وكانت المداواة قد تعينت بهذا الدواء؛ لأن كتمانه هنا سيؤدي إلى مفسدة عامة بالناس، ودرء المفسدة واجب، ومثل ذلك ما إذا كان يريد تسجيل البراعة وتعذر عليه ذلك؛ لأن المصلحة المتوقعة من تسجيل البراعة قد انعدمت، فأصبح وجود هذه المصلحة كعدمها؛ ولذلك ألغيت.
- ومن الصور المحرمة أيضاً في مقام عدم التعليم، إن كان قد تعلَّم الدواء من غيره، وليس هو الذي اخترعه، فيما إذا كانت مداواة الناس بهذا الدواء متعيِّنة عليه، وهذا على القول بوجوب التداوي.
ثانياً: حالات الكتمان الجائزة:
يجوز للطبيب أن يكتم هذا الدواء، سواء كان في مقام التعليم أم كان في مقام المداواة، إذا كان هذا الكتمان لن يضر بالناس ولن يسبب لهم فساد في حياتهم، فإن ترتب على إظهاره فساد، أو توقع أن يستخدمه بعض الكافرين أو المُغرِضين ضد المسلمين - فلا يجوز له أن يظهره في هذه الحالة؛ دفعاً للضرر والفساد عن المسلمين. وقد أخذ المناوي من قوله تعالى ﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ ﴾ [النساء : 5] أن حفظ العلم عمن يفسده أو يُضِرُّ به أولى. وليس الظلم في إعطاء غير المستحق لهذا العلم بأقل من الظلم في منع المستحق له من تعلمه (4).
- كما يجوز للطبيب أن يكتم هذا الدواء، سواء كان في مقام التعليم أم كان في مقام المداواة، حتى ولو كان هو المخترع للدواء، وكان قد سجل براعة الاختراع، ولكنّ المداواة بهذا الدواء غير متعيِّنة عليه.
- كما يجوز للطبيب أيضاً أن يكتم هذا الدواء، سواء كان في مقام التعليم أم كان في مقام المداواة، وكان هو المخترع له، ولم يكن قد سجل البراعة بعدُ، إن كان هذا التسجيل سيتسغرق زمنا قصيراً لن يضر بالناس، أو حتى كان سيتسغرق زمناً طويلاً، ولكن مع اشتراط أن يعالج الناس في هذه الحالة، ويحق له الاحتفاظ بهذه الأسرار حتى يتم تسجيل البراعة؛ لأنه يمكن الجمع هنا بين مصلحته الخاصة (بكتمان الأسرار) ومصلحة المسلمين العامة (بالمداواة)، والمرء لا يمنع من مراعاة مصلحته إن كان ذلك لن يؤثر على المصلحة العامة، والجمع أولى من الترجيح، لا سيما وأنه قد تعب في اختراعه، وأنفق عليه الأموال الكثيرة، وفي بعض الأحيان ربما احتاج اكتشاف هذا الدواء إلى فِرَق عمل، ومراكز أبحاث تنفق الملايين من الدولارات، وربما تقضي هذه الأبحاث سنيناً طويلة تُستغرق للكشف عن هذا الدواء .
- كما يجوز للطبيب أيضاً أن يكتم هذا الدواء، سواء كان في مقام التعليم أم كان في مقام المداواة، فيما إذا لم يكن هو الذي اخترع هذا الدواء، وإنما تعلَّمه من غيره، ولكن لم يتعيَّن عليه أن يعلَّمه للطلاب والدارسين؛ لوجود غيره ممن يمكن أن يتعلَّموا منه هذا الدواء.
[align=center]هذا والله سبحانه وتعالى أعلى، وهو أعلم بالصواب.. [/align]
[align=center]أجاب عنه الفقير إلى عفو ربه العلي
علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الاثنين – 22 جماد آخر 1427هـ، الموافق 17/7/2006م
راجعه الفقير إلى عفو الله/ صفوان البارقي[/align]
الهوامش :
1ـ صحيح ابن حبان 1/298 برقم 96، قال الألباني: حسن صحيح. انظر: صحيح الترغيب والترهيب 1/28 برقم 121.
2. مسند أحمد بن حنبل 2/305 برقم 8035 قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
3. المعجم الأوسط 5/108 برقم 4815.
4. فيض القدير 6/212
المصدر : موقع جامعة الإيمان
كن كشجر الصنوبر يعطر الفأس الذي يكسره
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات