إن وطن المسلم الحقيقي عقيدته فحيثما عزّت العقيدة وازدهرت فثم الأهل والوطن وثم الدار والعشيرة وحيثما فقدت العقيدة وضمحلت ولم يبق لها حول ولاطول فلاقيمة لوطن ولاعشيرة ولاجوار بل لاقيمة للحياة كلها إذا فقدت العقيدة مكانها ولذلك تبرأ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرابة الكافرة فلم يبق الأب أباً ولاالأخ أخاً ولاالقريب قريباً مادامت مختلفة
ومن أجل ذلك كانت الهجرة النبوية بحثاً عن القرابة الحقيقية وبحثاً عن الوطن الحقيقي لم تكن الهجرة بحد ذاتها رد فعل حفاظاً على الأجسام أن تصاب ولاعلى الأعراض أن تنال ولاعلى الأشخاص أن ينالهم الأذى لم تكن هروباً من الشدة ولافراراً من الأذى والعذاب والضنك والحرمان بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم على استعداد تام أن يبقى هو وأصحابه في مكة وحماية الله ورعايته من فوقهم فالله هو من قال : والله يعصمك من الناس ولوعلم المصطفى أن هنالك في مكة أملاً ضئيلاً لظل في مكة ثابتاً لايتحرك ولكن أم القرى لم تكن في ذلك الظرف صالحة للدعوة الإسلامية بل ضيقت الخناق عليها وحاولت القضاء عليها فخرجت الدعوة باحثة عن أرض صالحة لها

ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته جنباتها والظباء
وسلوه وحن جذع إليه وقلوه وودّه الغرباء
أخرجوه منها وآواه غار وحمته حمامة ورقاء
وكفته بنسجها عنكبوت ماكفته الحمامة الحصداء
واختفى منهم على قرب مرآ ه ومن شدة القرب الخفاء
ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء


فالهجرة النبوية كانت عبارة عن جسر عبرت منه الدعوة الإسلامية إلى الفسحة بعد الضيق

﴿إِلا تنصُروهُ فقدْ نصرَهُ اللهُ إِذْ أَخرجَهُ الذينَ كَفَروا ثانيَ اثنينِ إِذْ هُمَا في الغَارِ إِذْ يقولُ لصاحبِهِ لا تحزَنْ إِنَّ اللهَ معَنا فأنزلَ اللهُ سكينتَهُ عليهِ وأيَّدَهُ بجنودٍ لمْ تَرَوْهَا وجَعَلَ كلمةَ الذينَ كفَروا السُّفلى وكلمةَ اللهِ هيَ العُليَا واللهُ عزيزٌ حكيمٌ﴾ سورة التوبة/40

وما اروع ان تقف لحظات تنظر في دروس الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة الى المدينة المنورة وننظر بعمق في فصول الهجرة ودروسها، ونتعلم منها جوانب مضيئة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي لم يخرج من مكة مهاجرا الى المدينة الا بعد ان اذن له الله عز وجل بذلك، وبعد ان صبر وتحمل واحتسب وعانى ماعاناه من البلايا والرزايا والاذى من اهله وذويه، ثم ممن حوله من الذين كرهوا ان تظهر كلمة الله عز وجل وان تكون كلمته سبحانه وتعالى هي العليا،وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ومن ينظر في قضية الهجرة النبوية الشريفة يلاحظ ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان متعلقا بمكة المكرمة .هذه المدينة الطيبة الطاهرة، وقد احبها وولد فيها، وعاش ونشأ وترعرع فيها ونزل عليه الوحي من الله في غار حراء بهذه المدينة ، والتي قال فيها رسول الله وهو يخرج منها مهاجرا قولته المشهورة” اللهم اخرجتني من احب البقاع الي فأسكني في احب البقاع اليك “

نثر التراب على الرؤوس فكل علينه مثل قلبه عمياء
ومضى نحو طيبة أطيب الخلق فطابت بطيبه الأرجاء
كان صديقه الكبير أبو بكر رفيق إذ عزت الرفقاء
واستكن البدر المنير بثور لم يضره من العدا عواء
شرف الله غار ثور فنار الكهف منه واستشرقت سيناء


.ولا شك ان الحبيب صلى الله عليه واله وسلم قد اكرمه الله بالهجرة من حرم الى حرم وكلا المدينتين ذات فضل وبركة وهما احب المدن الى الله تعالى، ثم الى رسوله، ففي الاولى كانت نشأته ، والثانية كانت اليها الهجرة وفيها مضجعه الاخير. وقد اختار الله الاولى مكانا لبيته والثانية لمسجد رسوله فحددهما وعينهما وامر الناس بالحج الى الاولى وبالهجرة الى الثانية فكانت في حياته صلى الله عليه واله وسلم قبل الفتح واجبة وصارت بعده مندوبة ، دعا للاولى ابراهيم عليه السلام، وللثانية اكرم ولده صلى الله عليه واله وسلم وجعل القلوب تهوي اليهما .ومكة المكرمة والمدينة المنورة مدينتان ضوعف اجر الصلاة فيهما، وشد الرحيل اليهما، وفي ماء الاولى وتراب الثانية وتمرها الشفاء وبعض اجزائها من الجنة، ويئس الشيطان ان يعبد فيهما ، وجعل رزقهما من ثمرات الارض، وحرم دخول الكفار اليهما، ومنع الدجال منهما، وجعلهما الله تعالى حرما آمنا، فحرم الصيد وتنفيره فيهما وحرم قطع الشجر والكلأ والتقاط لقطتهما وحمل السلاح للقتال وسفك الدماء فيهما، لا يختلى خلالهما ، ولا ينفر صيدهما ، ولا تلتقط لقطتهما .
للملحد فيهما اشد العقوبة ولمن اذى اهلهما النكال، وهما اخر البلاد حرم على غير المسلمين غزوهما ومنعهما من الجبابرة
ومع قدوم العام الهجري الجديد يعيش العالم الاسلامي في مناخ روحي متميز مع الذكرى التي تمثلها الهجرة النبوية الشريفة وما تضمنته من دروس وعبر متجددة تمثل املا في الخروج من هذا الواقع الاليم الى اوضاع اخرى افضل تمتد اثارها لتشمل كل نواحي حياة المسلمين، وهذه المناسبة هي بمثابة موسم يتكرر كل عام وهي مناسبة للتأمل والتدبر والوقوف مع النفس حيث تمر على الخاطر هذه التأملات في النفس الانسانية، وهي في حالة الصحة النفسية او الاضطراب النفسي.. فالاسلام دين حياة يضمن التوازن بين الدنيا والاخرة ويهتم المنظور الاسلامي بالجوانب الروحية والمادية في حياة الانسان . ويضمن تحقيق التوازن بينهما .وتركز تعاليم الدين الاسلامي على التنشئة السوية للانسان وغرس القيم والاخلاق القويمة التي تحقق السلوك السوي والاتزان النفسي، فالمسلم يجب ان يؤمن بالله وبالقدر خيره وشره ويجب ان يعبد الله ويذكره في كل المواقف .ان رسول الله يعلمنا الدروس في هجرته ولذلك فقد حرص عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح ان يؤكد على قضية هامة” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي “ لانه القدرة ولانه الاسوة ولان هؤلاء الرجال اخذوا عنه، وهذا رب العالمين يأمرنا بطاعته” من يطع الرسول فقد اطاع الله “ ويقول عز وجل” اطيعوا الله واطيعوا الرسول “ ثم يجعله القدوة والاسوة” لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر “.ومن الواجب هنا ان نحرص كل الحرص على ان نستفيد من هذه المناسبة ونعود الى الله ونتوب توبة نصوحة ، فهذا رسول الله في غمار المعارك يثوب الى الله ويستغفر الله ويلجأ الى الله بالدعاء ويعلمنا ان نعود الى الله عز وجل وان العودة الى الله والتوكل عليه والايمان الكامل والصادق بان الامور كلها بيد الله، وان نتعلم ونحن نتابع هذه الدروس والاحداث ان الحب لرسول الله يبدأ من الاتباع والالتزام بكل ما جاء به الرسول وهذا التوجيه الرباني الواضح في ان حب الله عز وجل يبدأ ويتحقق باتباع الرسول