المدرسة والمستقبل
أنشأ الشيخ( محمد النبهان) المدرسة ( الكلتاوية) لتحقيق أهداف محددة
وهي :تكوين العلماء القادرين على أداء دورهم الثقافي والتربوي في المجتمع لتمكين القيم الإسلامية في النفوس والإرتقاء بمستوى السلوك الإنساني وتصحيح المفاهيم الإسلامية الخاطئة وإعطاء العلماء دوراً في تأصيل العادات الإجتماعية وتصحيحها عن طريق المناهج العلمية السليمة ، فالجهل لايقاوم إلا بالعلم والثقافة وأمية المجتمع لايمكن التغلب عليها إلا بإعادة الإعتبار لدور الثقافة والفكر في تصحيح العادات والسلوكيات والقيم السائدة.
ليست الغاية من بناء مؤسسات العلم الشرعي تكوين خطباء وواعظين وأئمة ومفتين،وإنما الغاية تكوين الإنسان المؤهل للقيام بهذه المهمات ، والإنسان هو المنطلق لكل إصلاح فالتخلف في المجتمع ليس وليد نقص أعداد العلماء والخطباء وإنما هو وليد تخلف الإنسان الذي توكل إليه مهمات التكوين والتربية ، فالإنسان هو الذي يرتقي وينحدر فإما أن يرتقي بإدراكه السليم لمعنى العلم وإما أن ينحدر بعلمه فيستخدمه في غير المهمة التي جاء العلم لتحقيقها وهي تعزيز القيم الإنسانية في المجتمع ومقاومة العادات والسلوكيات الخاطئة وتحرير المجتمع من قبضة الجمود والتخلف والجهل ،
فليست الأمية هي الجهل بالقراءة والكتابة وإنما الأمية هي الجهل بأهمية الفكر والثقافة في نهضة المجتمع من القيم الجاهلية وتتمثل جاهلية هذا العصر في رفض التصحيح والتنوير والتغيير،
والمعرفة هي الخطوة الأولى في التصحيح ، ولاتصحيح بغير معرفة ، والعلماء هم المؤهلون لدور التصحيح والتنوير،
فإذا كرس العالم القيم الفاسدة ودافع عنها فقد قام بدور التجهيل وليس التنوير ، والتصحيح يحتاج إلى إرادة ويتطلب التضحية ولابد إلا أن يقاوم لأنه يتصدى لعادات راسخة وقيم متحكمة في المجتمع .
وتميز الإنسان عن الحيوان بما خصه الله تعالى به من أسباب التميز الفكري والإدراك وقابلياته غير المحدودة لتمييز الأشياء النافعة والضارة والصالحة والفاسدة ومعرفة الحق والباطل والأصل في العالم أن الأقدر على الفهم والإدراك والتمييز لأن العالم الذي اكتسبه ينير له الطريق ويمكنه من الكتساب المعارف الصالحة الجديدة.
وأهم هدف لمؤسسات العلم أن ترسخ القيم المرتبطة بحقوق الإنسان فلن ينهض مجتمعنا الإسلامي إلا بالإنسان ، ولن ينهض الإنسان إلا عندما يشعر بحريته وكرامته ، والثقافة التي لاترسخ قيم الحرية والكرامة ليست ثقافة وإنما جهالة ولاجهل أخطر على الإنسان من الجهل بحقوقه الإنسانية ، فكرامة الإنسان هي امتداد لوجوده الإنساني ، ولاوجود مادي مع انعدام الوجود الإنسني بأبعاده المرتبطة بالكرامة والحرية.
وعندما تصبح مؤسسات العلم الإسلامية معاقل إنسانية تدافع عن الإنسان وتحمي حريته وتوفر له كرامته ستكون جديرة بالرسالة المنوطة بها، وستكون عندئذ مصدراً للتنوير تضيء ماحولها،
هذه هي رسالة المؤسسات العلمية في إخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة الطاغوت إلى عبادة الله ومن مذموم الصفات إلى محمودها ومن سيطرة الأهواء والشهوات إلى تزكية النفوس ومن الأنانية إلى الإيثار ومن العجب والكبر إلى الألفة والتواضع ومن الأحقاد والأطماع إلى السماحة والنزاهة والعفة.
ويجب أن تكون مؤسسات العلم في قلب المجتمع تحركه وتوجهه وتقوده ، تشعر بآلامه ومشاكله وتقف إلى جانبه لتمسح دموع البؤساء بالعدل الإجتماعي والتوزيع العادل فتعيد البسمة إلى وجوه المستذلين والمستضعفين بالإنتصار لهم ومقاومة الظالمين.
وبفضل هذا يكون العلم رسالة عظمى ، غايتها تكوين إنسانية متكاملة متناصرة ، تحمي الضعفاء وتؤازهم وتقاوم زرموز الشر في المجتمع الإنساني،
ومنابر العلم هي منابر للحق والعدل والفضيلة فمارفعت إلا لأن الله رفع مكانة العلماء في القلوب بشرف رسالتهم ، والعلم الذي لايحقق هذه الغاية
لايختلف عن الجهل في شيء فليس العلم مجرد معرفة بالحق وإنما هو عمل بماتقتضيه تلك المعرفة، فمن لم يعمل بمايعلم فلافائدة من علمه ، بل علمه حجة عليه، ويعذر الجاهل بالتقليد ولايعذر العالم.
ومدرسة الشيخ في الكلتاوية بين خيارين ، إما أن تكون مدرسة مثل بقية المدارس الشرعية وهي كثيرة، تكتفي بدور تقليدي من التعليم والتكوين
وتحافظ على تراث الشيخ كماكان ، لكي تبقي أثراً من آثاره ، وإما أن تختار دوراً أكثر أهمية وتتميز عن غيرها بمنهجية رائدة تجسد من خلالها طموح الشيخ( النبهان) وآفاق فكره في شموليته واتساع رؤيته ، وهذا خيار شاق وصعب ، لأنه يحتاج إلى إرادة جادة وسعة في الرؤية والأفق وانفتاح على الفكر والثقافة ويحتاج لجهد مضاعف في تلمس الطريق وتحقيق المطامح.
لعل الخيار الثاني هو الخيار الوحيد للإستمرار المفيد، كي تتميز هذه المدرسة بخصوصيتها حتى تكون مركز إشعاع ثقافي، فمؤسسات العلم تبقى باستمراربأداء دورها في المجتمع ، وتغني عندما تنطفئ شعلة العطاء فيها،
فلاتجد من يستظل بنورها عندما يجد أن نورخ\ها خافت لاينير ماحوله .
مازال الأمل قائماًفي أن تجد هذه المدرسة طريقها إلى الغد لتطل معه على واقعها ومحيطها، ولابد إلا أن تفتح النوافذ المغلقة لكي يطل أبناء المدرسة على الحقول الخضراء المحيطة بها، ففي تلك الحقول ازهار وورود ونسمات مساء عليلة والنفوس وإن تطلعت إلى الكمال فهي تستلذ ما تانس به النفوس من جماليات الربيع الحسناء، ونفحاته الدافئة.
لاينبغي أن نخاف من الهواء العليل أن يحمل معه غبار الحقول، فالصدور التي تعتاد على مقاومة الغبار لاتخشى من أخطاره ، ويكمن الخطرفي الصدور التي لم تعزز مقاومتها باللقاحات المعتادة لها ولمحيطها الخارجي وهو خيار صعب لأجل البقاء والإستمرار.
التجديد في المناهج والتفتح على الأفكار والثقافات ، والفهم العميق لرسالة العلم في إغناء المعرفة الإنسانية تلك هي مقومات الحياة ، فالحياة نمو دائم وتطلع مستمر إلى الكمال، لأن الحياة مستمرة، ولابد من التجديد والإنفتاح مع الثبات والمعرفة لأجل استمرار الحياة.
الدكتور: محمد فاروق النبهان
المفضلات