التجديد الفقهي في مسألة: "هل يجب على الزوج نفقة مرض الزوجة؟"
الحكم الفقهي فيما أراه في هذه المسألة هو أن الزوج يجب عليه أن ينفق على
زوجته نفقة المرض متى كان ذلك ممكنا وبقدرته، فيجب عليه أن ينفق النفقة
المعتادة في مثل ذلك؛ وذلك لأن حاجة الناس اليوم إلى الطب أصبحت حاجة
ملحة ضرورية، فلا يخلو بيت من مرض، ولا يكاد تمر فترة وجيزة إلا ويعتري
الإنسان أمراض أصبحت معتادة كأمراض البرد، وغيرها.
وإن المتأمل للعلة التي بنى الفقهاء عليها الحكم كانت متمثلة في أن الطب لا
يحتاج إليه بصفة دائمة، وكلامهم حق، واجتهادهم مصيب في زمانهم، وإن بعض
الأجيال التي سبقتنا كان الواحد منهم يعيش تسعين عاما ما يضع في فمه حبة دواء
واحدة، وكان لا يشتكي من أمراض متتابعة كما هو الشأن في زماننا، فإن العلة التي
لم تكن موجودة سلفا أصبحت موجودة في زماننا، فلا يخلو بيت من مرض، وإن
المرأة في عادة بلادنا ما إن تحمل حتى تحتاج إلى متابعة دورية، وأدوية مستمرة،
بل إن بعض الأمراض المعتادة الآن كأمراض البرد وقت أن ظهرت فيروساتها
بأشكال مختلفة تسببت في موت ملايين البشر، ففي القرن العشرين، وقعت ثلاث
جائحات إنفلونزا: الإنفلونزا الإسبانية في عام ١٩١٨م تسببت في وفاة حوالي
خمسين مليونا، والإنفلونزا الآسيوية في عام ١٩٥٧م تسببت في وفاة مليوني حالة
(١ .(تقريبا، وإنفلونزا هونغ كونغ في عام ١٩٦٨م تسببت في وفاة مليون حالة تقريبا
ولو قلنا بعدم وجوب علاج الزوجة على الزوج، لأدى هذا إلى إزهاق أرواح
وفساد لا حصر له، خاصة وأن كثيرا من النساء لا مال لهن، فكان الحكم الفقهي في
زماننا قد تغير عن الزمان الأول وأصبحت مصاريف الطب واجبة للزوجة على
زوجها.
إلا أنني أقول إن الطب نوعان: ضروري، وتحسيني.
فالضروري الذي به قد تتضرر المرأة، وقد تهلك، كحمى شديدة، أو نزلة شعبية
بالصدر حادة، وما شابه ذلك.
والتحسيني كالتجميل لبعض آثار الحروق، أو لعملية يتحسن بها النظر دون
حاجة لاستعمال النظارات الطبية، أو ما شابه ذلك.
وأرى أن يكون وجوب النفقة على الزوج مستقرا بشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون العلاج من المرض ضروريا لا تحسينيا، بحيث إن المرأة قد
تهلك بدون العلاج، أو يسبب لها المرض أذى شديدا.
الثاني: أن يثبت أن الدولة لن تتحمل علاج المرأة، أو أن انتظار علاج الدولة
سيؤدي لتلف بالزوجة.
الثالث: أن يكون الحكم ديانة لا قضاء، في حالة الإعسار دون الامتناع، بمعنى
ّ انه لايفرق بين الزوجين إن أعسر الزوج بنفقات العلاج لزوجته.


حيث إن من المعلوم فقها أن المرأة قد ترفع أمرها للقاضي إذا أعسر زوجها بالنفقة
خصوصا أن هناك أمراضا تحتاج لمبالغ طائلة لعلاجها، فالإعسار بتلك (١ ،(بالنفقة

المبالغ أمر مشاهد وواقع، فلا ينبغي أن يكلف المرء فوق طاقته،

(يقول د. وهبة الزحيلي: "ويظهر لدي أن المداواة لم تكن في الماضي حاجة
ًا إلى العلاج؛ لأنه يلتزم قواعد الصحة والوقاية،
أساسية، فلا يحتاج الإنسان غالب
فاجتهاد الفقهاء مبني على عرف قائم في عصرهم، أما الآن فقد أصبحت الحاجة
ًا ما
إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم؛ لأن المريض يفضل غالب
يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوجع من الآلام
والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟! لذا فإني أرى وجوب نفقة الدواء
على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية، ومثل وجوب نفقة الدواء اللازم للولد
على الوالد بالإجماع، وهل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته حال
(٢ .(الصحة، ثم يردها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!"
وقد نص قانون الأحوال الشخصية المعدل بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥م
على التالي: "وتشمل النفقة الغذاء، والكسوة، والمسكن، ومصاريف العلاج،
. (٣ (وغير ذلك بما يقضي به الشرع"

العلة التي بنى عليها فقهاء العصر الحكم:
تغير الحاجة إلى الطبيب والعلاج، فالحاجة المجتمعية المستمرة إلى العلاج
ومتابعة الأطباء كانت العلة في الحكم بوجوب نفقة مرض الزوجة على زوجها.
أثر التجديد على الموروث الفقهي:
إلزام الزوج بتحمل نفقة مرض زوجته متى كان ذلك في استطاعته كان تجديدا
للموروث الفقهي الذي اتفق عليه الفقهاء، وهو الحكم بعدم الإلزام على الزوج.
وللحقيقة فإن الفقهاء القدامى يشكرون على اجتهادهم، ويقدرون؛ فقد
اجتهدوا لزمانهم، وعرفهم، وأحوالهم، ولذلك بنوا الحكم في ذلك على وفق
المعطيات التي يعيشون بها، أما وقد تغير الزمان، وتغيرت الأحوال، وصار العلاج
من المرض حاجة من الحاجيات التي لا يمكن أن تنفصل عن الواقع المعيشي كان
لعلماء عصرنا أن يصدروا فتوى الإلزام تحقيقا لمصالح الناس، ورعاية لهم،
وحفاظا عليهم.
ولو استحضرت فتوى الفقهاء لعصرنا لترتب على ذلك مفاسد جمة،
ومشكلات لا حصر لها، خاصة وأن كلام الفقهاء الأول كان لعلة غير موجودة في
زماننا، والذي يؤكد ذلك قول الشافعي رحمه االله تعالى: "في القرآن والسنة بيان أن
على الرجل ما لا غنى بامرأته عنه من نفقة وكسوة وخدمة في الحال التي لا تقدر
(١ .(على ما لا صلاح لبدنها من زمانة ومرض إلا به"
فحدد أنه على الرجل ما لا غنى
بامرأته عنه، فالطب في زمانهم كان له استغناء خلاف زماننا. واالله أعلم.






* من كتاب : القضايا الفقهية بين الموروث والواقع المعاصر( نظرة في التجديد الفقهي )
الدكتور جعفر المسير