القائد العظيم هو الذي تتلاقى في شخصيته كل مظاهر السلوك الحضاري.. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرغم أنه تربى في بيئة بدوية بسيطة، وفي عصر جاهلي شهد الكثير من أنماط السلوك المرفوضة، فإنه كان نموذجاً في السلوك الراقي الذي يليق بأعظم قائد عرفته البشرية، ولِمَ لا، وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف.السلوك الحضاري الذي تجسد في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتقى به فوق كل البشر الذين عرفتهم البشرية، وهذا السلوك لم يكن منحة من الخالق فحسب، بل كان ترجمة عملية لما تعلمه الرسول خلال تربيته الأسرية والاجتماعية، وترجمة لما تعلمه من علوم الدين والدنيا.يقول د. محمد أبوليلة العالم والمفكر الإسلامي الأزهري: السلوك الحضاري للرسول طوال رحلته هو الذي ارتقى بأمة الإسلام فوق كل الجهالات والعصبيات، ومكنها من إقامة دولة الإسلام الكبرى.
«كان خلقه القرآن»
وأول مظاهر السلوك الحضاري في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول د. أبوليلة «مكارم الأخلاق»، ومكارم الأخلاق تجمعت في شخص خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت من أبرز نقاط مشروعه الإصلاحي للإنسان في البيئة البدوية التي نشأ وتربى وعاش ومات فيها،وبهذه الأخلاق الطيبة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو «الأسوة الحسنة» للناس جميعاً وليس للمسلمين فحسب، ولذلك أرشدنا القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقول الحق سبحانه: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً»، وكيف لا يكون الرسول هو القدوة والمثل، وقد وصفه خالقه بقوله: «وإنك لعلى خلق عظيم»، وقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت قولتها الشهيرة: «كان خلقه القرآن».
رفق وتسامح
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - نموذجاً فريداً في الرفق والتسامح والحلم، فكان يتعامل مع الناس بالرفق لا بالعنف، وباللين، لا بالخشونة، وبالسماحة لا بالفظاظة، وكان يقاوم نوازع الغضب في نفسه ويكظم غيظه، ويعفو عند المقدرة، وكان يترجم قول الحق سبحانه: «خذ العفو وأمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» ترجمة حقيقية، وكان مثالاً فريداً لعباد الرحمن الذين وصفهم الخالق سبحانه بقوله:«وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً».يقول الشيخ محمد زكي، الأمين العام للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر: لقد تجمع في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما هو كريم ومثالي من الأخلاق، ولذلك انتشرت دعوته في كل أرجاء الأرض بفضل ما حملت من التسامح والعفو والرحمة، وبفضل ما حققته من انضباط سلوكي وأخلاقي للإنسان المسلم، وأول من استفاد من أخلاق الرسول العظيم تجار المسلمين الذين انتشروا شرقاً وغرباً يبحثون عن الرزق الحلال، وكانت تتجسد في سلوكهم أخلاق الرسول من الأمانة والصدق والنظام في البيع والشراء، وكانوا يلتزمون توجيهات ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بينها قوله الشريف: «رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى».
وفي حياته كلها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقاً لا يحب العنف، ولا يقبل القسوة، فالإسلام دين رفق ورحمة، ولذلك كان لا يتوقف عن توجيه صحابته وأهل بيته، وكل من يتعامل معهم إلى التحلي بالرفق في كل الأحوال، وكان يقول: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».. ومن أقواله الشريفة أيضاً: «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير»
روى أن أعرابياً بال في المسجد، فقام بعض الناس ليعاقبوه على ذلك، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسيرين ولم تبعثوا معسرين».
ويقول أنس خادم رسول الله: «كنت أمشي مع الرسول وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله، حيث أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء».
هكذا تصرف الرسول برقي وتحضر مع إنسان متخلف، حيث قدر ظروف بداوته وحكم نشأته، وقابل جهله بالحلم وغلظته بالرقة وخشونته بالبسمة وإساءته بالإحسان.
كنوز من التوجيهات
وإلى جانب كل ما سبق من سمو السلوك وعظيم الأخلاق ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كنوزاً من الوصايا والتوجيهات النبوية، التي تؤكد أنه كان الداعية الأول إلى حسن الخلق، والنموذج الفريد للسلوك الحضاري، وفي كتب الصحاح رصيد ضخم من الأحاديث النبوية التي ترقى بسلوك الإنسان من تعامل راقٍ مع الوالدين والبرّ بهما والإحسان إليهما، ومن صلة رحم، ومن وصايا بالجار واحترام حقوقه حتى لو كان غير مسلم، ومن رعاية كاملة لليتيم، وعطف ورحمة بالمريض، والوفاء بحقوق أصحاب الحاجة من فقراء ومساكين وغارمين وعابري سبيل وغيرهم، ومن حب الخير للناس وإخلاص النصح والتوجيه لهم، وعفو وصفح عن المسيئين، ومن إجلال للكبير، واحترام لحقوق الصغير، ومن توجيهات سديدة بكتمان أسرار الآخرين.. وغير ذلك كثير.
والسلوك الحضاري للرسول الأعظم في تاريخ البشرية لم يكن يقف عند كل ما سبق، بل كان يشمل أيضاً المبادرة بفعل الخير للآخرين، وكان عليه الصلاة والسلام القدوة والمثل في مساعدة الآخرين، وتقديم كل عون لهم حتى ولو كانوا من المسيئين إليه، وكان شعاره في ذلك قول الحق سبحانه: «وافعلوا الخير لعلكم تفلحون».
نبع يفيض بالخير
يقول د. أبوليلة: السلوك الخيري للرسول يتفوق على سلوك كل أهل الخير الذين عرفتهم البشرية، وجاءت وصاياه للمسلم ليكون نبعاً دفاقاً يفيض بالخير والنفع لكل من حوله وما حوله، لا يبخل بمال، ولا يضن بجهد ولا وقت، فهو فرد في جماعة يجمعها قول الحق سبحانه: «إنما المؤمنون إخوة».. فالمؤمن الحق هو الذي يعتبر أخاه جزءاً منه، يسره ما يسره، ويحزنه ما يحزنه، ولذلك يقول صلوات الله وسلامه عليه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». ولذلك علمنا صلوات الله وسلامه عليه قيمة العطاء الخيري من دون مَنٍّ أو أذى، والمسلم الحق هو الذي يتنوع عطاؤه الخيري ولا يقف عند الزكاة، فهي أول واجبات المسلم القادر وليس آخرها، والمؤمنون الذين يتخلقون بأخلاق القرآن هم الذين وصفهم الحق سبحانه بقوله: «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً».. ولذلك كان من وصاياه صلى الله عليه وسلم: «اعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلون الجنة بسلام».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب: كيف أطعمك وأنت رب العالمين». قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني.. قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي.
وعلمنا عليه الصلاة والسلام أن فعل الخير لا يقف عند الإطعام والسقي، بل يشمل كل ما ينفع الناس مادياً وأدبياً، وما يدفع أو يرفع ضرراً عنهم أو ينحي أذى من طريقهم.
صلوات الله وسلامه عليك يا خاتم رسل الله، فقد كنت مثالاً في السلوك الحضاري، وتعلمنا منك كل ما هو حميد وكريم وشريف.
* عن صحيفة الخليج
المفضلات