الشيخ عبد الحليم محمود: هذه هى حياتى والحمد لله
------
نشأت والحمد لله في أسرة ميسورة إنها من هذه الأسر التي يقال عنها “أعيان الريف ” لم تكن أسرة واسعة الثراء ولم تكن فقيرة وإنما كانت ميسورة .
كان أبي صاحب دين يحرص على عدم الإخلال به ، ويحرص على أن تلتزم به الأسرة ، درس في الأزهر فترة طويلة من الزمن ، حضر فيها على كبار الأساتذة من بينهم الشيخ محمد عبده .
وأقولها بالصوت الجهير وأكتبها بالخط العريض : إنها فكرة ليست في مصلحة مصر ” ويمكن أن نقول مع الدكتور على عبد الواحد عميد علم الاجتماع في مصر ، إن مشكلة مصر قلة النسل
ولدت في عزبة أبي أحمد ” وأبو أحمد ” هو جد والدي وقد بني جدي هذه العزبة بيتا بيتا وكانت مسكنا للأسرة وأصلح جدي أرضها فدانا فدانا وتسمى الآن قرية السلام وتتبع مركز بلبيس ،وتبعد عن بلبيس أربعة كيلومترات وعن العائلة 45 كيلومتر .
والعزبة على حافة الترعة الإسماعيلية ، موقع جميل موفق والحمد لله ” وأمام بيتنا حديقة صغيرة من أشجار الليمون والمانجو تتخللها أشجار النخيل يفصلها عن البيت جدول له المياه يسمى في الريف عادة بالخليج ، لقد قضيت أياما من اجمل أيام حياتي في هذه الحديقة .
ولست أتذكر من طفولتي الأولى إلا أياما قضيتها مع أطفال القرية ذكورا وإناثا في الكتاب” وانتهت مرحلة الكتاب بالنسبة لي بحفظ القرآن الكريم ولله الحمد .
كانت سني صغيرة على الالتحاق بالأزهر ، وكان والدي يفكر في أن يرسلني إلى مكان ناء نسبيا لأتعلم فيه أحكام التجويد ، ولكن حنان الأم وحرص الأب على أن أكون تحت رعايته حالا بيني وبين تحقيق ذلك ويا ليتني تعلمت أحكام التجويد ! يا ليتني !
ثم ذهبت إلى المدرسة الأولية بعد أن أدى الكتاب رسالته وأتممت فيه حفظ القرآن ولما أصبحت في سن مناسبة للالتحاق بالأزهر رافقني أبي إلى القاهرة , وهناك ألحقت به .
في أول يوم لبدء الدراسة ارتفع صوت المؤذن لصلاة الظهر ـ عندما حان وقته ـ في خشوع وجلال ، تأهبنا للصلاة وتخلف بعض الطلبة عن القيام بها فأخذت خيزرانة المراقب تؤدي واجبها نحو المتقاعدين في جد ونشاط .
في منتصف العام تقريبا زارني والدي رحمه الله في المعهد المسجد ولعله جاء إلى المعهد ليقف على مدى انتظامي في الدراسة ، ثم التقى بي وشرع يحدثني عن الزواج وعرض عليً أسماء فتيات واستطلع رأيي كانت سني آنذاك ثلاث عشرة سنة وكان رأيي الذي قلته له : الأمر لك ولوالدتي .
وعاد والدي إلى العزبة ومضت فترة جاءني بعدها خطاب ، يقول فيه والدي ” احضر ” وعدت إلى العزبة في مساء الأربعاء وتم عقد زواجي في يوم الخميس وعدت إلى القاهرة في يوم الجمعة .
ونجحت في الامتحان وعدت لأقضي العطلة الصيفية في العزبة وانتهزوها فرصة لإتمام الزفاف ومرت السنة الثانية بالأزهر طبيعية دراسة واستذكارا ، في خلال هذين العامين شهدت موقفين كانا في غاية الروعة .
أما المنظر الأول فهو منظر استقبال سعد باشا وهو عائد من المنفى وأما ثانيهما كان منظر إضراب الأزهر ، كان الأزهر هائجا مائجا ، وكانت الوزارة القائمة وزارة سعد باشا زغلول حينذاك لم أكن أعلم آنذاك عن الأسباب والبواعث والغايات شيئا ومع ذلك ذهبت إلى الجامع الأزهر مشاركا بجسمي متفرجا مستطلعا .
أما في السنة الثالثة فقد طرأ تغيير إلى حد كبير ، فقد انتقلنا من المسجد الذي ألفنا الدراسة فيه وعشقناها إلى غرفة في مبنى ليس له قداسة المسجد ولا روحانيته ، انتقلنا إلى معهد الزقازيق الذي أنشئ ليكون فرعا للأزهر بالشرقية .
وفي معهد الزقازيق بدأ اتصالنا بالصحافة ، حيث بدأنا نقرأ الصحف ، وكنا إذ ذاك نقتصر على صحيفة واحدة تقريبا هي صحيفة الأخبار التي كان يصدرها أمين الرافعي ، وكان صدرها مفتوحا لعلماء الدين ، يجدون فيه متنفسا لكل ما يجيش بصدورهم من آراء وأفكار ، وكنا نحن طلبة نسعد بقراءة المقالات الدينية .
انتهت السنة الثالثة بمعهد الزقازيق ، وكذلك انتهت السنة الرابعة به أيضا ، وفي هاتين السنتين دفعتني الظروف للجد والاجتهاد بصورة غير عادية وبذلك حصلت على معلومات في مختلف العلوم والفنون تفوق المعلومات العادية لنظائري الطلاب ، وكانت نظم الأزهر حينذاك تتيح للطالب بالسنة الأولى الثانوية أن يتقدم مباشرة لامتحان الشهادة الثانوية من الخارج وفكرت في الأمر فكرت أن أفصل نفسي من الأزهر ، وأن أتقدم في آخر العام من الخارج لامتحان الشهادة الثانوية ، وكان العزم والتصميم ، دخلت الامتحان ونجحت وأرضى ذلك آمال والدي وشعوره نحوي ، وعدت من جديد إلى القاهرة في المسجد الشريف الأزهر ، ومكثت في الدراسة أربع سنوات ، كنت في أثنائها متصلا اتصالا كبيرا بالجو الثقافي في الأزهر وخارج الأزهر .
وكان من بين مدرسي القسم العالي بالأزهر عديد من الشخصيات اللامعة في العلم والمنزل : الشيخ محمود شلتوت والشيخ سليمان نوار والدكتور محمد عبد الله داز والدكتور محمد عبد اللطيف دراز والشيخ الزنكلوني والشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ مصطفى عبد الرازق .
كنت أحضر الدروس في الأزهر وكنت أحرص على حضور المحاضرات التي تلقى هنا وهناك في القاهرة وخارج الأزهر وكان محط أنظارنا جمعية الشبان المسلمين ، فقد كان فيها نشاط دائم ، وكان للقائمين عليها آنذاك عناية صادقة بهداية الشباب وكان الدكتور أحمد محمد العزاوي عليه رحمة الله من الدائبين على إلقاء المحاضرات فيها ، كل أسبوع تقريبا ، وكان الموضوع الرئيسي الذي يتحدث فيه دائما هو ” الإسلام والعلم ” .
وكنت أتردد أيضا على جمعية الهداية الإسلامية ، وكان الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين رئيسا لها ، والشيخ محمد الخضر حسين مؤمن صادق الإيمان ، مجاهد مناضل وهو تونسي المنبت والنشأة وتعرفت أثناء الدراسة بالقسم العالي بالأستاذ محمد فريد وجدي وكان يستقبل زائريه كل يوم بعد صلاة المغرب لمدة ساعة يتحدث إليهم ويجيب عن أسئلتهم ، ويدلي برأيه فيما يثار من موضوعات في الصحف اليومية ، وقد كتبت في أيامنا تلك روايات تتناول التاريخ الإسلامي كتبها جورجي زيدان وقد قرأت الكثير منها حين ظهورها .
وهذه الروايات لم تكتب من أجل إحقاق الحق ، ولم تكتب لتعبر عن التاريخ الصادق ، وإنما كتبت بقصد تشويه الصورة الإسلامية الجميلة وتزييف الخلق العربي الأصيل الفاضل .
وكان خاتمة سن الدراسة العالية بالقاهرة امتحان العالمية ونجحت والحمد لله ، وكان والدي يحب أن يراني مدرسا بالأزهر لقد كان ذلك يسعده كل السعادة ولكنه فوجئ برغبتي الملحة في السفر إلى فرنسا لإتمام دراستي في جامعاتها .
بدأت الدراسة في فرنسا منذ سنة ألف وتسعمائة واثنين وثلاثين ( 1932 ) على نفقتي الخاصة ، ودام الأمر كذلك إلى سنة ألف وتسعمائة وثمان وثلاثون ( 1938 ) حيث ألحقت بالبعثة الأزهرية وكنت قد فرغت من الليسانس تقريبا وبدأت أفكر في رسالة الدكتوراه .
اتصلت بالأستاذ “ميسنون” وتحدثنا طويلا وانتهى بنا الأمر إلى الاتفاق على أن أكتب عن التصوف الإسلامي من خلال دراسة الحارث بن أسد المحاسبي وكان هذا أول اتصال منظم وجاد بالتصوف الإسلامي بالنسبة لي .
إني لأذكر ذلك اليوم المشمس الجميل من شهر يونيو سنة ألف وتسعمائة وأربعين فقد صحوت من نومي مبكرا أتأهب لخوض غمار معركة علمية هي مناقشة رسالة الدكتوراه ومرت الأيام بخيرها وشرها وحلوها ومرها ووصلت في النهاية إلى القاهرة ، وانتهيت من دراسة الدكتوراه وأنا أشعر شعورا قويا بمنهج المسلم في الحياة وهو منهج الاتباع .
إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يقول كلمة موجزة عن هذا المنهج هي : إعجاز من الإعجاز إنه صلى الله عليه وسلم يقول : اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ” وهي كلمة حق وصدق ، ثرية بالمعاني الطويلة العريضة ، يبرهن آخرها على أولها ، والنهي في وسطها يبرهن عليه أيضا آخرها أي اتبعوا فقد كفيتم ، والكافي هو الله سبحانه وتعالى الذي أوحى المبادئ والأصول والقواعد ، وطبق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كل ذلك وبيًنه ، فكان تطبيقه مقياسا وبيانا ومرجعا يرجع إليه المختلفون ” ولا تبتدعوا فقد كفيتم ” إن الذي يبتدع لا كفاية له ، ولكن الله سبحانه وتعالى بعد أن أكمل الدين وأتم النعمة ، فليس هناك من مجال ولا حاجة إلى الابتداع .
لقد كفانا الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) كل ما أهمنا من أمر الدين ، وبعد أن وقر هذا المنهج في شعوري واستيقنته نفسي ، أخذت أدعو إليه : كاتبا ومحاضرا ومدرسا ثم أخرجت فيه كتابا هو كتاب ” التوحيد الخالص أو الإسلام والعقل ، وما فرحت بظهور كتاب من كتبي مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب ، لأنه خلاصة تجربتي في حياتي الفكرية وكل ما كتبته عن التصوف وعن الشخصيات الصوفية فإنما يسير في فلك هذا المنهج ، منهج الاتباع .
خاتمة :
هذه سيرة الشيخ عبد الحليم محمود الإمام الأكبر وشيخ الجامع الأزهر ذلك الفلاح البسيط الذي سافر إلى فرنسا وعاد كما هو ولكن بعد أن تسلح بالعلم والقدرة على التفكير المنطقي ، آثرت أن يكتب بنفسه هذه السيرة من خلال كتابه ” الحمد لله هذه حياتي ” فلم أغير حرفا من كلامه ، ربما حذفت بعض الاستطرادات ، ولكن كل كلمة في هذا المقال للشيخ عبد الحليم محمود ، ويكفينا هنا أن نورد للقارئ الكريم شيئا عن الوظائف العلمية والعملية وأبرز مؤلفاته التي تركها لنا .
عين الشيخ عبد الحليم محمود عقب عودته من فرنسا مدرسا بكلية اللغة العربية ثم أستاذا بكلية أصول الدين بعد عشر سنوات ( 1370 هـ / 1915 م ) ثم عميدا لها ، وفي عام 1389 ه اختير أمينا عاما لمجمع البحوث الإسلامية ، ووكيلا للأزهر بعد عام واحد فوزيرا للأوقاف عام 1392 هـ ، ثم شيخا للأزهر الشريف من 1393 هـ إلى وفاته في عام 1398 هـ ( 1973- 1978 م ) ، حيث دفن في قريته “أبو أحمد” التي تدعى منذ حرب أكتوبر ـ بقرية السلام ، يحتفل أهل القرية كل عام بذكرى مولد الشيخ عبد الحليم محمود باعتباره وليا من أولياء الله الصالحين ، أما أبرز مؤلفات الدكتور عبد الحليم محمود ، فيكفي أن نذكر منها :
1 ـ الفيلسوف المسلم .
2 ـ التصوف عند ابن سينا .
3 ـ أوروبا والإسلام .
4 ـ أسرار العبادات في الإسلام .
5 ـ التفكير الفلسفي في الإسلام .
6 ـ القرآن والنبي .
7 ـ الإسلام والشيوعية .
8 ـ دلائل النبوة ومعجزات الرسول .
9 ـ الرعاية لحقوق الله للمحاسبي ” تحقيق ” .
10 ـ محمد رسول الله لـ إيتين دينيه (سليمان بن إبراهيم ) ترجمة عن الفرنسية .
11 ـ سهل بن عبد الله التستري ، حياته وآراؤه .
12 ـ منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع .
13 ـ موقف الإسلام من الفن والعلم والفلسفة .
14 ـ الحمد لله هذه حياتي .
رحم الله الشيخ عبد الحليم محمود وجزاه الله على ما قدمه لخدمة الإسلام ، فلعل أعظم إنجازاته عمله على توسيع دائرة التعليم الديني في مصر ، فانتشرت المعاهد الأزهرية في معظم القرى ووصلت حتى النجوع .
د.محمد عبد الحليم غنيم
المفضلات