السؤال


ما الذي يمكن أن يضيفه المتأخرون لعلم الحديث، كالألباني على سبيل المثال، لا أرى للمتأخرين ما يمكن أن يضيفوه سوى أن يكملوا فيما قام به الأولون، مثلا في تنقيح المزيد من الروايات الضعيفة عسى العثور على روايات متشابهات تصير حسنة بذلك؟


الجواب
الحمد لله.
لمعرفة ما الواجب من العلماء تجاه علم معيّن، يجب النظر إلى الغاية المنشودة والمقصد المراد.
والغاية من علم الحديث النبوي: حفظ السنة النبوية، وتبليغها للناس؛ بما يشمل تبليغ ألفاظها، ومعانيها.
عن زَيْد بْن ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ) رواه الترمذي (2656)، وقال: " وَفِي البَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَنَسٍ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ "، ورواه أبو داود(3660)، وصححه الألباني في"صحيح سنن الترمذي".


وقد روى البخاري (79) ومسلم (2282) عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ).
وينظر للفائدة: "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/162) وما بعدها .


ولهذا تدور جهود علماء الحديث في كل عصر على حفظ هذه السنة وتبليغها للناس بما يناسب عصرهم وأحواله.
فكانت الخطوة الأولى في هذا العلم هو حفظه وتبليغه للناس، فقد تفرغ جمع من الصحابة ثم من كبار التابعين لهذه المهمة، كأبي هريرة رضي الله عنه وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وغيرهم كثير، وربما اعتمد بعضهم على الكتابة كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص.
عن أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ" رواه البخاري (113).
وكان هذا العمل من الحفظ في الصدور والسطور والتبليغ كافيا، لقرب العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم، وندرة الكذب.


ثم لما بدأ ينتشر الخطأ ثم الكذب في الطبقة التي تلي الصحابة بسبب الفتن التي حصلت، ظهر أن الحاجة لحفظ السنة تتطلب أمرا زائدا على مجرد الحفظ والتبليغ، فظهرت الحاجة إلى التدقيق في الرواة فيترك حديث من يخطأ أو يظن فيه الكذب.
قال ابْنِ سِيرِينَ: (لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ) رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1/15).


قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ) هذه الفتنة يعني بها - والله أعلم -: فتنة قتل عثمان، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية؛ فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال...
فيعني بذلك - والله أعلم -: أن قتلة عثمان والخوارج لما كانوا فساقا قطعا، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم، وجب أن يبحث عن أخبارهم فترد، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم فتقبل، ثم يجري الحكم في غيرهم من أهل البدع كذلك " انتهى من"المفهم"(1/123).
وبهذا نشأ علم البحث في الرجال وتمييز الثقة من الضعيف.


قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وابن سيرين رضي الله عنه هو أول من انتقد الرجال، وميز الثقات من غيرهم، وقد روي عنه من غير وجه أنه قال: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ". وفي رواية عنه أنه قال: " إن هذا الحديث دين، فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه "...
قال يعقوب: وسمعت علي بن المديني يقول:
كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد، ولا نعرف أحدا أول منه، محمد بن سيرين ثم كان أيوب وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن... " انتهى من "شرح علل الترمذي" (1/52).


ثم لما توسعت حركة الرواية والرحلة في طلب الحديث، وكثرت الأسانيد والروايات للخبر الواحد، ظهر بعد عصر التابعين مزيد الحاجة لتمييز الصحيح من الضعيف، والخطأ من الصواب في الروايات، وبهذا ظهر علم العلل مكتملا، ومستندا للجهود السابقة.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي الواسطي، يكنى أبا بسطام، سكن البصرة.
وهو أول من وسع الكلام في الجرح والتعديل، واتصال الأسانيد وانقطاعها، ونقَّب عن دقائق علم العلل، وأئمة هذا الشأن بعده تبع له في هذا العلم... " (1/172).
ثم مع كثرة الروايات وتطاول أسانيد الأخبار، ظهر أن حفظ السنة بحاجة إلى جمع الأحاديث في المصنفات فظهرت المسانيد وغيرها، ثم ظهرت الحاجة إلى تخصيص مصنفات للصحيح، ولما يحتج به من الأخبار في أبواب الشرع، فظهرت كتب الصحاح والسنن، وفي خضم حركة التصنيف هذه صنفت الكتب لعلم الرجال والعلل، ورتبت حتى يسهل الوصول إلى المراد منها.


ثم ظهرت للعلماء بعد هذا: الحاجة لفهم طريقة من سبقهم في الرواية والتصحيح والتضعيف والتعديل والتجريح، فظهرت كتب مصطلح الحديث.
ثم تبيّن في القرون اللاحقة أن حفظ السنة وتبليغها للناس يحتاج إلى ضبط المصنفات التي سبقت وشرحها، والانتقاء منها بحسب المواضيع، وتحرير الخلاف الحاصل في التوثيق والتجريح للرواة، وفي التصحيح والتضعيف للأحاديث وقواعد ذلك.
ومع تأخر الوقت وانصراف كثير من أهل العلم عن علم الحديث، رأى أهل الحديث أن من واجبهم تقريب السنة إلى من جهل علمها، وتمييز ما يدور بين أهل العلم والناس من الأحاديث والأخبار، فصنفوا كتب التخريج، وكتب الأطراف والمعاجم ونحو هذا.


ومن كل الذي سبق يظهر أن علماء الحديث وطلابه في هذا العصر، ليسوا مطالبين باختراع جديد لم يسبقوا إليه في هذا العلم؛ وإنما الواجب والأمانة التي عليهم هي أن يستمروا على منوال من سبقهم، ببذل الجهود وتضافرها، لتبليغ السنة للناس، تبليغ ألفاظها، ومعانيها، والعمل على نفي الزائف والدخيل عليها، وبيان المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك، ليعلمه العامة من الناس، ومن لا خبرة له بذلك.


ولهذا فمجال نشاطهم يتجه نحو هذه المهمة:
- بإخراج المصنفات الحديثية المخطوطة إلى عالم المطبوعات بدقة وعناية.
- وبتقريب هذا العلم إلى الناس وبيانه لهم، بما يناسب لغتهم وحالهم ووسائل التعليم المستجدة وطرائقها.
- تنقية السنة من الدخيل عليها، والحكم على الأحاديث والأخبار وخاصة التي لم يسبق لأهل العلم كلام فيها.
- والاستمرار في تحرير المسائل وخاصة التي مازال الخلاف قائما حولها.
- الاجتهاد في الدفاع عن السنة وازالة الشبهات التي تثار حولها.


فلذا عند الحكم على هؤلاء العلماء وبيان مقدارهم لا يكون المعيار: مدى الجديد الذي أتوا به ولم يسبقوا إليه؛ وإنما المعيار هو مدى الجهد الذي بذلوه في عملية حفظ كمال السنة وتبليغها للناس بحسب حال هذا العصر ووسائله.
ثم هذا وارد أيضا في علوم كثيرة، فهل يقال في علماء النحو – مثلا - : ما الجديد الذي أتى به النحاة في هذا العصر، حتى يشتغلوا به، أو حتى ينشغل به الناس؟
أو يقال لعلماء اللغة: ما الجديد في اللغة الذي أتوا به ، كذلك؟
الجديد: أن يحافظوا على العلم، ويستمروا في تعليم الناس؛ وهذا هو : القديم، الجديد.
والأمر، كما قال أبو حيان التوحيدي: " ... والثاني يأخذ من الأول ويقتفي أثره ويستقي مما أنبطه وينشر ما بسطه" انتهى من "البصائر والذخائر"(1/109).
والله أعلم.


المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب