بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحقيقة المحمدية
تمتلك الذات المحمدية بعداً كونياً ومعرفياً في معادلة الوجود الإنساني التي تستوعب الكون بجميع مخلوقاته. وتستمد هذه الحقيقة مادتها الروحية من الأسماء والصفات الإلهية التي تتوجه صوب الكون والمخلوقات المقيمة فيه فتعمل تأثيرها بكل مفردة كونية حسب خاصية القبول والاستعداد التي تحدد بدورها – بحسب الحكمة والمشيئة الإلهية - ماهية التجليات الإلهية التي ستنعكس عبر مظهر وجودي في عالم الشهادة.
ولكي تتضح لنا بعض الجوانب الكونية والمعرفية لتجليات الأسماء والصفات الإلهية العلية وطبيعة العلاقة القائمة مع الذات المحمدية، سنبدأ بمعالجة الموضوع وفق المراتب الوجودية والمعرفية التي تليق به.
المرتبة الأولى : الأسماء والصفات الإلهية
لله تعالى أسماء وصفات توقيفية ارتضاها عز وجل لذاته العليّة، لا يجوز إطلاقها، ولا إثباتها، إلا بعد ورود الأذن باطلاقها، ولا يجوز لمخلوق أن يسمي الله باسم غير ما سمّى به نفسه، أو أذن به، أو سماه به رسول الله واجتمعت عليه الأمة . والأسماء والصفات الإلهية تسري في الكون والمكونات، بحيث أنه ما من موجود دقّ أو جل، علا أو سفل، كثف أو لطف، كثر أو قلّ، إلا وأسماء الله محيطة به عيناً ومعنى .
وظهور أنوار الأسماء وإشراقها على الكون والمخلوقات المقيمة فيه، يختلف باختلاف صفاتها، وقوابلها، واستعداداتها التي صبغها الله بها، لتكون مجلى لأسمائه وصفاته بحسب ما هو مسطور في الغيب الإلهي.
من أجل هذا فإن الأسماء الإلهية هي كالصور للذات الإلهية ( الغيب المطلق) ، ولولاها ما ظهرت ولا عرفت، والأعيان الثابتة هي قوابل لمجالي الأسماء ومظاهر لتجلياتها في عالم الشهادة،. فلولا اسم الظاهر لما عرف الباطن، والعكس صحيح، فبقبول الأعيان ـ بقدرة الله وحكمته ـ ظهرت الأسماء وتعينت.
ولولا الأرواح التي هي صور للأعيان الثابتة، ما عرفت هذه الأعيان، ولولا الأجسام التي هي قابلة لأثر الأرواح ما عرفت الأرواح.
عمد الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الى تقسيم تجليات الأسماء الإلهية الى نوعين:
النوع الأول : التجلي الوجودي :
وهو التجلّي الذي يتوجه صوب العالم بأسره، فيكسب الممكنات الوجود ، ويصبح كل ما في الوجود صوراً من صور التجلي الإلهي، الدائم مع الأنفاس، وهو واحد يتكثر في مظاهره لاختلاف استعداد المتجلّى فيه . من أجل هذا يطلق العارفون على العالم ـ تجوزاً ـ لفظ الأسماء الإلهية لأن العالم بأسره هو تجلي وجودي للأسماء الإلهية التي أطلقها الله على نفسه، فالعالم كله أسماؤه الحسنى بحسب استعداد كل منها .
النوع الثاني : التجلّي العرفاني :
وهو نوع من أنواع الكشف الذي يفني المتجلّي له، فيورثه علماً لدنياً، لم يقتنص من الألفاظ والعبارات بل عن تجليات عرفانية على قلب العبد المخبت لربّه، فيغلبه سلطان الوجد، وحالة الفناء بالوجود ، فتقوم المعاني على حسب الحضرة والاستعداد. وفي هذا قال الشيخ الأكبر : إنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك.
إن لفظ الجلالة الله هو اسم علم ذاتي لمرتبة الألوهية الجامعة لحقائق الأسماء والصفات الإلهية كلها، وهو الاسم الكامل المحيط بكل أطراف مجالي هذه الأسماء.
ونود أن ننبه الى حقيقة كون تعدد المظاهر لا يتنافى مع وحدة الحقيقة الإلهية وكمالها، بيد أنها مع وحدتها تتصف بمظاهر تتخذ ما لا نهاية له من الصور، ولها في كل صورة وجه خاص بتلك الصورة، فهي ـ أي الحقيقة الإلهية المتمثلة بأسماء الله وصفاته العلية واحدة كثيرة، واحدة بحقيقتها، كثيرة بتعيناتها ومظاهرها.
المرتبة الثانية : الحقيقة المحمدية :
تمتاز الحقيقة المحمدية بكونها أكمل، وأتم مجلّى خلقي توجهت إليه الأسماء والصفات الإلهية. ومدار هذه الأمر هو أن لكل موجود مجلّى خاص يستمد وجوده وعرفانه من اسم إلهي يختص به، بينما يتفرد سيد الخلائق محمداً بأنه المجلّى للأسم الجامع، وهو الأسم الأعظم الله ولذلك كانت له مرتبة الجمعية المطلقة .
لذا فقد انعكس الكمال الوجودي لمجالي الأسماء الإلهية على ذاته الشريفة، بحيث اعتبره الشيخ الأكبر ومشايخ الطريق الإنسان الكامل الذي تكاملت صفاته ومعرفته، فأصبح قطباً يدور في فلكه كل طالب للكمال. قال الشيخ الأكبر : إن الإنسان الكامل ( الذات المحمدية ) لا يبقى له في الحضرة الإلهية اسم إلا وهو حامل له .
وله المقام المحمود الذي تنظر إليه جميع الأسماء الإلهية المختصة بالمقامات، وبهذا الأمر صحّت له السيادة على جميع الخلق يوم العرض، ومنه يفتح باب الشفاعات. فأول شفاعة يشفعها عند الله تعالى في حق من له أهلية الشفاعة من : ملك، ورسول، ونبي، ومؤمـن، فيشـــفع رسول الله عند الله لهؤلاء أن يشفعوا، فيحمد بكل لسان، وبكل كلام .
ولا يجمع يوم القيامة المحامد كلها إلا محمداً وهو في المقام المحمود حيث يقتضي المكان الذي يقف فيه أسماء إلهية تتوجه بآثارها على ذاته الشريفة، فيحمد الله بمحامد يلهمه الله تعالى إياها ببركة تجليات الأسماء الإلهية التي يقتضيها المقام المحمود .
وبهذا المقام تكتمل دائرة الحقيقة المحمدية بعد اكتمال دائرة تجليات جميع الأسماء الإلهية على ذاته الشريفة والتي بقيت مكنونة في زوايا الكون حتى دار الزمان دورته، وقامت الساعة، وأوصدت أبواب الكمالات الوجودية إلا على ذاته الشريفة التي حلّت بالمقام المحمود الذي لا يرتقي إليه سواه.
المرتبة الثالثة : المخلوقات :
برأ الله المخلوقات وصبغها باستعداد هو نصيبها من الحق تعالى. فلا يمتلك أي مخلوق استعداداً يشابه آخر، بحيث أن سرَ كل مفردة كونية يلتصق بحقيقة ذاتها، ويعرف هويتها، وظهورها بين الموجودات الذي لا يتكرر أبداً، ويكون مجلى للأسماء الإلهية التي يحتملها استعداده.
تشخص الحقيقة المحمدية بوصفها مورداً لا ينضب لكل مخلوق يريد أن ينال كمالاً ، فلا كمال يمكنك نواله إلا أن تدور في فلك قطبية رسول الله وأن تشمر ساعديك باتباع سنته، والتخلق بأحواله وشمائله لكي تنعكس على ذاتك بعض من كمالاته غير المتناهية.
ولا تصح المعرفة الصوفية إلا بالاستمداد من أنوار مشكاته الشريفة التي تقيم في دائرة الحقيقة المحمدية، وهي المشكاة التي يستقي منها الأنبياء، والأولياء، والصالحون العلم اللدني ( الباطن ) كل بحسب مقامه واستعداده.
فكل نفس يقتضي تجلياً جلالياً، أو جمالــياً ( بحسب أسماء الجلال أو الجلال الحسنى ) ويقتضي ذلك التجلّي عبودية، تكتمل وجوداُ ومعرفة بخصائص عبودية الذات المحمدية، بيد أن لكل منا ما يليق به ـ بحسب استعداده ـ فتعددت الطرائق بعدد أنفاس الخلائق، بيد أن أنفسها هو طريق أنفس الخلائق .
الهوامش :
1. التجلّي هو ما ينكشف على القلوب البشرية من أنوار الغيوب المتوجهة من الأسماء الإلهية.
2. القصد المجرد : 29 – 30 .
3. الفتوحات المكية 3 : 80 .
4. الفتوحات المكية 2 : 556 .
5. الفتوحات المكية 3 : 405 .
6. فصوص الحكم 1 : 134 .
7. الفتوحات المكية 1 : 118 – 119 .
8. حلية الأبدال : 9 .
9. الفتوحات المكية 2 : 87 .
10. عقلة ا
قائمة المراجع :
1.حلية الأبدال، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي،بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
2.عقلة المستوفز، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي،الطبعة الأولى، مطبعة ليدن، 1346 هـ.
3.الفتوحات المكية، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي،بدون تاريخ، دار صادر، بيروت.
4.فصوص الحكم، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي،تحقيق أبو العلا عفيفي، الطبعة الثانية، 1400 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
5.القصد المجرد، للشيخ ابن عطاء الله السكندري، مطبعة بولاق، القاهرة.
من آفاق الذات المحمدية صلى الله عليه و سلم
إحسان قاسم الصالحي / دراسات إسلامية
إن جلّ اهتمام كتّاب السيرة النبويـة -جزاهم الله خيراً- قد تركَّز على كمال بشريّته بجميع جوانبها المتنوعة طوال حياته المباركة. فهذه الوقائع الحياتية الكثيرة والمتعددة الجوانب التي سجّلها الصّحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين بأدقّ تفاصيلها، لا تمثل إلا جانباً يسيراً من كمال شخصيته المعنوية أو الروحية الذي لا يمكن لحوادث بشرية قليلة أن تعبّر عنه أو تعكسه على صفحة الوجود، فـ«أنّى لهذه الشخصية المباركة الذي كان كلُّ من جبرائيل وميكائيل مرافقَين أمينَين(1) له في غزوة بدر أن تنحصر في حالة ظاهرية أو أن تُظهرها بجلاء حادثةٌ بشرية».(2) ذلك لأنه تضاف يومياً، بل حتى الآن، وفي كل دقيقة منه، إلى صحيفة كمالاته صلى الله عليه وسلم أثوِبةٌ عظيمة وعبادةٌ خالصة بقدر ما يغنمه كل مؤمن من أمته بأكملها. وذلك في ضوء «من دلّ على الخير فله مثل أجر فاعله».(3) وكما ينال بما وهبه الله من استعداد غير متناه نفحاتِ الرحمة الإلهية غير المتناهية بشكل غير متناهٍ وبقدرةٍ غير متناهية، كذلك ينال يومياً دعاءً غير محدود ممن لا يُحدّ من أمته. لذا ففي الوقت الذي نفكّر في حياته البشرية أو نسمع معجزاته الباهرة، يلزم أن نرفع عينَ الخيال عالياً ونتصوّر هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي هو أَنبلُ نتائج الكائنات وأَكملُ ثمراتها والمبلِّغ عن خالق الكون، وحبيبُ رب العالمين وممثل الإنسانية وإمام المخلوقات جميعا، وهو يعرج السماوات العُلا ويطوف في أرجاء الملكوت. فيطلعه سبحانه وتعالى على الآيات الكبرى والآثار الجليلة واحدةً تِلو الأخرى وقد «عَلا به البُراق وقطع به المراتبَ كالبرق من دائرةٍ إلى دائرة، ومن منـزلٍ إلى منـزل، كمنازل القمر، ليُريَه ربوبيةَ أُلوهيته في السماوات، ويلتقي إخوانه الأنبياء فرداً فرداً، كلاًّ في مقامه في تلك السماوات، حتى عَرج به إلى مقام ﴿قَاب قَوْسَيْن﴾، فشرّفَه بالأحدية، بكلامه وبرؤيته؛ ليجعل ذلك العبدَ عبداً جامعاً لجميع الكمالات الإنسانية، نائلاً جميعَ التجليات الإلهية، شاهداً على جميع طبقات الكائنات، داعياً إلى سلطان الربوبية، مبلّغاً للمرضيات الإلهية، كشّافاً لطلسم الكائنات».(4) نعم، إنه حبيب رب العالمين، فهو الذي أراه جميع أنواع تجلي محبته المبثوثة في جميع الموجودات.. فاصطفاه -وهو ثمرةٌ منوّرةٌ من شجرة الخلق- بالمعراج مُظهراً محبوبيته أمام الكائنات قاطبة «فرقاه إلى حضوره، وشرّفه برؤية جماله، وأكرَمه بأمره، وأناط به وظيفةً جعل ما عنده من حكمةٍ قدسية تسري إلى الآخرين».(5) وبهذه النظرة الصائبة التي تتخذ من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم البشرية وصفاته الإنسانية أساساً ومَدخلاً للتعرف على ذاته الحقيقية وشخصيته الروحية النورانية ينجو الإنسان من النظرة القاصرة إليه صلى الله عليه وسلم . فلولاه لظلَّ الإنسان بل الكون كله هملاً ضائعاً سَقَطاً لا يلتفت إليه أحد، ولا يثير اهتمام أحد، ولظلَّ هذا المخلوق المكرم عائماً فوق سطحية نفسه الخاوية، وجدب روحه، وقَفْر عقله. فهو صلى الله عليه وسلم الذي أثار قوى الإنسان الخفية، وأعانه على اكتشاف نفسه، والعثور على جوهر إنسانيته. وهو الذي وَسَّعَ من أفق تفكيره، وعلَّمه كيف يكون كونيَّ التفكير، يشارك الكون في أفكاره باعتباره جزءً لا يتجزأ منه، ويغوص في خفايا الوجود بعقل قوي وإرادة حيوية متأججة. وقد استطاع صلى الله عليه وسلم أن يجعل الانتشاء العقلي والروحي الإيماني هو الانتشاء الأقوى والأعمّ والأهمّ على كل الانتشاءات الجسدية والعاطفية التي كان الانسان غارقاً فيها من أخمص قدميه حتى قمة رأسه.
كيف السبيل لمعرفة شخصيته صلى الله عليه وسلم الحقيقية؟
ولكن كيف يمكن لأذهاننا أن تستوعب هذه الشخصية العظيمة التي تُعطي للكون معنى ومغزى؟ نرى الأستاذ النورسي يأخذ بأيدينا في سياحة قلبية لرؤية ملامح هذه الشخصية فيقول: «هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأَرض مسجدَه، ومكةُ محرابَه، والمدينة منبرَه؛ وهو إمام جميع المؤمنين يأتـمّون به صافّين خَلْفَه.. وخطيب جميع البشر يبيّن لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيس جميع الأَنبياء يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأَساسات أَديانهم.. وسيد جميع الأَولياء يُرشدهم ويُربّيهم بشمس رسـالته.. وقطبٌ في مركز دائرة حلقة ذكرٍ تركّبَت من الأَنبياء والأَخيـار والصديقين والأَبرار المتَّفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأَنبياء بأَساساتهم السماوية، وأَغصانها الخَضِرة الطرية وثمراتها اللطيفة النيّرة هم الأَولياء بمعارفهم الإلهامية. فما من دعوًى يدّعيها إلاَّ ويشهدُ له جميعُ الأَنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأَولياء مستندين بكراماتهم؛ فكأَنَّ على كل دعوىً من دعاويه خواتمُ جميع الكاملين، إذ بينما تراه قال: «لا إلـه إلاّ الله» وادّعى التوحيد، فإذا بنا نسـمع من الماضي والمستقبل من الصفَّين النورانيين -أَيْ شـموس البشـر ونجومها القاعدين في دائرة الذِّكر- عينَ تلك الكلمة، فيكررونها ويتفقون عليـها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأَنَّهم يقولون بالإجماع: «صَدَقت وبالحق نطقتَ». فأنّى لِوهمٍ أَنْ يَمدَّ يده لردِّ دعوىً تأَيّدتْ بشهادات مَنْ لا يُحَد ّ من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم»(6) .
محمد صلى الله عليه وسلم والكون
إن الأستاذ النُّورْسي يربط سيرة الرسول العطرة وحياته المادية والمعنوية بالكون كله وبالحياة بأجمعها وكيف أنه صلى الله عليه وسلم هو معنى الوجود إذ يقول: «نعم، كما أن الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها؛ والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور؛ والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة.. كذلك الحياة المحمدية -المادية والمعنوية- مترشحة من الحياة ومن روح الكون، فهي خلاصة خلاصتها؛ والرسالة المحمدية مترشحة من حسّ الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي أصفى خلاصته؛ بل إن حيـاة محمد صلى الله عليه وسلم -المادية والمعنوية- بشهادة آثارها حياة لحياة الكون؛ والرسالة المحمدية شـعور لشعور الكون ونـور لـه؛ والوحي القرآني بشـهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل... أجل... أجل»(7) .
إنه صلى الله عليه وسلم معنى الوجود
نعم، إن نوره صلى الله عليه وسلم هو الذي يفصح عن معنى الوجود ومغزى كل حادث. فلولاه لظل كتاب الكون الرائع هذا بلا معنى ولا مغزى. أجل، إن فخر الكائنات وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم هو أساس الوجود وخلاصته وخميرته، فليس هناك موضع في الكون يخلو من حقيقة نوره. فمثَله كمثل نواة بذرة شجرة باسقة تضم كل خصائص تلك الشجرة. فنوره أساس للوجود كله، ألا يقول سبحانه وتعالى:إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ اْلإِسْلاَمُ (آل عمران: 19) واستسلمت الأرض والسماوات كلها له سبحانه:فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت: 11) أليس الرسول الكريم يمثل الإسلام أصدق تمثيل؟! فهو الإسلام بعينه، وهو القرآن الحي الناطق، كما وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن أخلاقه «كان خلقه القرآن».(8) وأثنى عليه الرب الكريم ثناء لا يليق إلاّ به: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4). ومن هنا نرى أن الأستاذ النورسي عندما يصف نور محمد صلى الله عليه وسلم بأنه الإسلام بعينه وحقيقة الوجود بعينها، يقول: «اعلمْ أنه بينما ترى العالم كتاباً كبيراً ترى نور محمد عليه الصلاة والسلام مداد قلم الكاتب.. وبينما ترى العالَم يلبس صورةَ الشجرة ترى نورَه عليه الصلاة والسلام نواتها أولاً، وثمرتها ثانياً.. وبينما ترى العالم تحوّل إنساناً كبيراً ترى نوره عليه الصلاة والسلام عقله.. وبينما ترى العالم حديقةً مزهرةً ترى نوره عليه الصلاة والسلام عندليبه.. وبينما ترى العالم قصراً مزيَّناً عالياً ذا سرادقات تتظاهر فيها شعشعة سلطنة سلطان الأزل وخوارق حشمته، ومحاسن تجليات جماله، ونقوش خوارق صنعته، إذن ترى نوره عليه الصلاة والسلام نظّاراً يرى لنفسه أولاً، ثم ينادي بـيا أيها الناس تعالَوا إلى هذه المناظر النـزيهة، وحَيهلوا(9) على ما لَكُم فيه شيء من المحبة والحيرة والتنـزه والتقدير، والتنور والتفكر وما لا يحد من المطالب العالية. ويريها الناس، ويشاهِد ويشهَد لهم.. يتحير ويُحيِّرهم.. يُحب ويُحبِّبُ مالِكَه إليهم.. يستضيء ويُضيء لهم.. يستفيض ويفيض عليهم»(10) .
معجزة المعجزات
أترانا قلنا شيئا عن هذا النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، إذ قد «أجمعت الأمة -حتى الأعداء- على أنه جامعٌ لجميع الخصال الحميدة، بل اشتهر حتى قبل البعثة النبوية بـ«محمد الأمين» لكمال أخلاقه، وقد ثبت بالتواتر المعنوي القاطع وبإجماع الأمة: أنه أجملُ الناس صورةً، وأحسنُهم سيرةً، وألطفُهم حلماً، وأزيدُهم شكراً، وأشـدُّهم تواضعاً، وأصبرُهم، وأزهـدُهـم، وأعفّهم، وأجودُهـم، وأكـرمُهم، وأرحمُهم، وأعدلُهم، وأكثرهم مروءةً ووقاراً، وأفضلُهم صَفحاً وسَداداً وأزيدُهم شفقةً على الخلق... فهو أكملُ خلاصةٍ نورانية لهذه السجايا العالية والخصال السامية وأمثالها كلها. ونقطة الإعجاز في هذه الخصال هي: أنه على الرغم من أن الأخلاق الحميدة لا تتخالف ولا تتباين فيما بينها، فإنها تتزاحم في درجة الكمال، فلو تفوقت إحداها ضعفت الأخرى. فاجتماعُ كمالِ الحلم مع كمالِ الشجاعة، وكمالِ التواضع مع كمالِ الشهامة، وكمالِ العدالة مع كمالِ المروءة والرحمة، ومنتهى الاقتصاد والاعتدال مع منتهى الكرم والسـخاء، وغايةِ الوقار مع منتهى الحياء، وغايةِ الرأفة مع منتهى البغض في الله، وغاية العفو والصفح مع منتهى العزة بالنفس، وغاية التوكل مع منتهى الاجتهاد والسعي... فاجتماعُ أمثال هذه الأخلاق الراقية المتزاحمة في شـخص واحد، كلٌّ في ذروتها، دفعةً واحدة، وانكشافها من دون تدافع و تزاحم هو معجزة المعجزات».(11) نعم، ليس لنا أن نقول إلا كما قال الشاعر العظيم:
ما إن مدحتُ مُحمداً بمقالتي
لكنْ مدحت مقالتي بمحمدٍ
ونختم هـذا الكلام المقتضب بالصلاة والسلام على ذلك الحبيب المحبوب، ذي المعجزات بصلوات وسـلام تشير إلى قسم من معجزاته: على من أُنـزل عليه القرآن الحكيم من الرحمن الرحيم من العرش العظيم. على سيدنا محمد أَلفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد أنفاس أُمّته. على مَن بشّر برسالته التوراة والإنجيل والزبور والزبر. وبشّر بنبوّته الإرهاصات وهواتف الجن وكواهن البشر وانشقَّ بإشارته القمر.. سيدنا محمد أَلفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد حسنات أُمته. على من جاءت لدعوته الشجرُ، ونـزل سرعةً بدعائه المطر، وأظلَّته الغمامة من الحر، وشبع من صاعٍ من طعامه مئاتٌ من البشر، ونبع الماء من بين أصابعه ثلاث مرات كالكوثر، وأَنطقَ اللهُ لـه الضبَّ والظبي والذئب والجـذع والـذراع والجمل والجبل والحجر والمدر والشجر.. صاحب المعراج وما زاغ البصر.. سيدنا وشفيعنا محمد أَلفُ أَلفِ صلاة وسلام بعدد كل الحروف المتشكلة في الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أَول النـزول إلى آخر الزمان، واغفر لنا وارحمنا يا إلهنا بكل صلاة منها.. آمين.»(12)
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) انظر: البخاري (5/ 103) باب شهود الملائكة بدراً.
(2) المكتوبات لبديع الزمان سعيد النورسي، ص 123.
(3) مسلم، الإمارة 133؛ كشف الخفاء للعجلوني، 1/399.
(4) الكلمات للنورسي، ص 672.
(5) الكلمات للنورسي، ص 685.
(6) الكلمات للنورسي، ص 255
(7) الكلمات للنورسي، ص 119
(8) جزء من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه مسلم 746 واحمد 6/54، 91، 163 وأبو داود 1342 والنسائي 3/199 .
(9) حيهلوا : اسم فعل بمعنى أقبلوا وعجّلوا وهلمّوا.
(10) المثنوي العربي النوري ص 219.
(11) شعاعات معرفة النبي صلى الله عليه وسلم .
(12) الكلمات للنورسي، ص 263.
أول خلق الله نور أحمد
أصل الورى سيد كل سيد
قدما تنبأقبل طين الجسد
فهو اب لوالد وولد
من قبل خلق آدم وبعد
أول خلق الله كان نوره
منه الورى بطونه ظهوره
فكان قبل عرشه بحوره
وقلم من بعده مسطوره
من كل موجود بدون حد
قد كان نور النبي الكل
العلو منه خلقه والسفل
والكون فرع والنبي أصل
ليس له في العالمين مثل
لولاه ماأنفك الورى في قيد
هذه الصلوات الأسمائية الصفاتية... علي الذات المحمدية الأحمـــــــدية
يقول جــــــــــــــامعها محمد الفقير... أتلوها عشرا وكن بالنبي مستجير
ففيها عتق مــــــــــــــــــن النيران... ومجـــــــــاورة للهادي في الـجنان
فادعــــــــــــوا لي أخي وللصوفية... هــــــــــداك الله وجعلك في المعية
{إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}
اللهم يا هو صلي عي سيدنا محمد صاحب العلو والسمو
اللهم يا الله صلي علي سيدنا محمد بن عبد الله
اللهم يا رحمن صلي علي سيدنا محمد صاحب الإحسان
اللهم يا رحيم صلي علي سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم
اللهم يا ملك صلي علي سيدنا محمد عبدك
اللهم يا قدوس صلي علي سيدنا محمد طبيب النفوس
اللهم يا سلام صلي علي سيدنا محمد خير الأنام
اللهم يا مؤمن صلي علي سيدنا محمد عبدك المحسن
اللهم يا مهيمن صلي علي سيدنا محمد الذي جعلته للحق مبرهن
اللهم يا عزيز صلي علي سيدنا محمد الذهب الإبريز
اللهم يا جبار صلي علي سيدنا محمد عبدك المختار
اللهم يا متكبر صلي علي سيدنا محمد المدثر
اللهم يا خالق صلي علي سيدنا محمد عبدك الصادق
اللهم يا باريء صلي علي سيدنا محمد سرك الساري
اللهم يا مصور صلي علي سيدنا محمد عبدك المنور
اللهم يا غفار صلي علي سيدنا محمد سر الأسرار
اللهم يا قهار صلي علي سيدنا محمد نور الأنوار
اللهم يا وهاب صلي علي سيدنا محمد سيد الأحباب
اللهم يا رزاق صلي علي سيدنا محمد بابك يا خلاق
اللهم يا فتاح صلي علي سيدنا محمد سرك الوضاح
اللهم يا عليم صلي علي سيدنا محمد صاحب القلب السليم
اللهم يا قابض صلي علي سيدنا محمد الذي جعلته علي الحق ناهض
اللهم يا باسط صلي علي سيدنا محمد شفيع الساقط
اللهم يا خافض صلي علي سيدنا محمد الذي من دخل حصنه لا يخاف أي عارض
اللهم يا رافع صلي علي سيدنا محمد نورك الساطع
اللهم يا معز صلي علي سيدنا محمد باب العز
اللهم يا مذل صلي علي سيدنا محمد الذي جعلته لطريقك مدل
اللهم يا سميع صلي علي سيدنا محمد السور المنيع
اللهم يا بصير صلي علي سيدنا محمد البشير النذير
اللهم يا حكم صلي علي سيدنا محمد الذي للكفار فحم
اللهم يا عدل صلي علي سيدنا محمد رحمة العدل
اللهم يا لطيف صلي علي سيدنا محمد صاحب التصريف
اللهم يا خبير صلي علي سيدنا محمد الذي من نفَسه يخرج روائح العبير
اللهم يا حليم صلي علي سيدنا محمد باب النعيم
اللهم يا عظيم صلي علي سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم
اللهم يا غفور صلي علي سيدنا محمد عبدك الشكور
اللهم يا عليّ صلي علي سيدنا محمد باب التجلي والتحلي والتخلي
اللهم يا كبير صلي علي سيدنا محمد أعظم إكسير المحسن للأجير
اللهم يا حفيظ صلي علي سيدنا محمد الذي لم يكن غليظ
اللهم يا مقيت صلي علي سيدنا محمد الذي بذكره حميت
اللهم يا حسيب صلي علي سيدنا محمد خير حبيب
اللهم يا جليل صلي علي سيدنا محمد عبدك الجميل
اللهم يا كريم صلي علي سيدنا محمد دواء السقيم
اللهم يا رقيب صلي علي سيدنا محمد صاحب النجيب
اللهم يا واسع صلي علي سيدنا محمد الذي كان للأعداء قامع
اللهم يا حكيم صلي علي سيدنا محمد الآمر بحسن معاملة اليتيم
اللهم يا ودود صلي علي سيدنا محمد سعد السعود
اللهم يا مجيد صلي علي سيدنا محمد عبدك السعيد
اللهم يا باعث صلي علي سيدنا محمد الجامع بين القديم والحادث
اللهم يا شهيد صلي علي سيدنا محمد خير شهيد
اللهم يا حق صلي علي سيدنا محمد نبي الحق
اللهم يا وكيل صلي علي سيدنا محمد صاحب التوكيل
اللهم يا قوي صلي علي سيدنا محمد بابك العلي
اللهم يا متين صلي علي سيدنا محمد كنزك الثمين
اللهم يا ولي صلي علي سيدنا محمد النبي
اللهم يا حميد صلي علي سيدنا محمد صاحب الرأي السديد
اللهم يا محصي صلي علي سيدنا محمد سر سعودي
اللهم يا مبديء صلي علي سيدنا محمد الغافر للمسيء
اللهم يا معيد صلي علي سيدنا محمد الذي سميته وحيد
اللهم يا محيي صلي علي سيدنا محمد الذي جعلته من النار منجي
اللهم يا مميت صلي علي سيدنا محمد الذي بذكره وقيت
اللهم يا حي صلي علي سيدنا محمد الذي طوي العلوم طي
اللهم يا قيوم صلي علي سيدنا محمد صاحب المقام المعلوم
اللهم يا واجد صلي علي سيدنا محمد خير شاهد
اللهم يا ماجد صلي علي سيدنا محمد الذي كان لك دائما ساجد
اللهم يا صمد صلي علي سيدنا محمد أفضل من حمد
اللهم يا قادر صلي علي سيدنا محمد عبدك الطاهر
اللهم يا مقتدر صلي علي سيدنا محمد عبك المتطهر
اللهم يا مقدم صلي علي سيدنا محمد الذي كان لأمرك مسلم
اللهم يا مؤخر صلي علي سيدنا محمد الذي جعلته للذنوب مطهر
اللهم يا أول صلي علي سيدنا محمد عبدك الأكمل
اللهم يا آخر صلي علي سيدنا محمد النور الباهر
اللهم يا ظاهر صلي علي سيدنا محمد الكوكب النائر
اللهم يا باطن صلي علي سيدنا محمد السر الكامن
اللهم يا وال صلي علي سيدنا محمد والصحب والآل
اللهم يا متعال صلي علي سيدنا محمد سيد الكمال
اللهم يا بر صلي علي سيدنا محمد الذي من رآه سر
اللهم يا تواب صلي علي سيدنا محمد والآل والصحب والنواب
اللهم يا منتقم صلي علي سيدنا محمد عبدك المكرم
اللهم يا عفو صلي علي سيدنا محمد باب اسمك هو الذي به العالمين اقتدوا
اللهم يا رءوف صلي علي سيدنا محمد الذي كان بالكرم موصوف
اللهم يا مـالـك المـلـك صـلـي عـلـي سـيـدنـــا مـحـمـد أفـضـل ســــالـك فـي مـدارج معارج ملكك وملكوتك يا مالك الملك
اللهم يا ذو الجلال والإكرام صلي علي سيدنا محمد باب اسمك ذو الجلال والإكرام
اللهم يا مقسط صلي علي سيدنا محمد عبدك المقسط
اللهم يا جامع صلي علي سيدنا محمد الذي جعلته للخير جامع
اللهم يا غني صلي علي سيدنا محمد الصفي
اللهم يا مغني صلي علي سيدنا محمد القرشي
اللهم يا مانع صلي علي سيدنا محمد الذي كان للشر دافع
اللهم يا ضار صلي علي سيدنا محمد سيد الأبرار
اللهم يا نافع صلي علي سيدنا محمد الشافع
اللهم يا نور صلي علي سيدنا محمد الذي خلقته من نور
اللهم يا هادي صلي علي سيدنا محمد بابك يا هادي
اللهم يا بديع صلي علي سيدنا محمد الشفيع
اللهم يا باقي صلي علي سيدنا محمد الذي جعلته من الكوثر ساقي
اللهم يا وراث صلي علي سيدنا محمد غيّاث الغائث
اللهم يا رشيد صلي علي سيدنا محمد عبدك الرشيد
اللهم يا صبور صلي علي سيدنا محمد الصبور
اللهم صلي بأسمائك العلية علي خير البرية وصلي بصفاتك الكمالية علي عين الحقيقة الأحمدية المحمدية وصلي بذاتك القدسية علي ذاته النورانية وصلي وسلم وبارك علي سيدنا محمد صلاتك التي صليت بها عـليـه أنـت ومـلائـكـتـك النورانية وعلي آله وصحبه أجمعين
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام علي المرسلين والحمد لله رب العالمين
المفضلات