السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ما الفرق بين جعل وخلق
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1))؟
ذكر الزمخشري في أساس البلاغة أن أصل فِعل (خلق) هو التقدير ولذلك يقول: خلق البزّاز (أي الخيّاط) الثوب بمعنى قدّر أبعاده قبل أن يقصه بالمقص. هذا الأصل ثم قال: هذا الإستعمال: خلق الله الخلق على سبيل المجاز بمعنى أوجده على تقدير أوجبته حكمته سبحانه وتعالى. هذا هو الأصل.
أما (جعل) فالعلماء يقولون: لفظ عام في الأفعال وهو أعمّ من فَعَل وصَنَع وسبق أن ذكرت نماذج من تاج العروس سابقاً فيما يتعلق بهذا الموضوع. الخلق هو الإيجاد على تقدير توجيه حكمة الله سبحانه وتعالى ، الأصل الإيجاد على تقدير من غير مثال سابق. والجعل فعل عام يحمل معاني كثيرة منها الصُنع وإيجاد الشيء من الشيء والتبديل والإعتقاد والظنّ والشروع في الشيء (جعل يُنشد قصيدته) يعني شرع وبدأ، الحكم بالشيء على الشيء والنسبة والتشريف أيضاً وفيها معنى الإيجاد. معاني كثيرة يذكرها أصحاب المعجمات.
الذي رأيناه أن كلمة خلق وجعل إجتمعتا في أسلوب القرآن الكريم في أربعة عشر موضعاً. حيثما إجتمعتا تقدّم الخلق على الجعل لأن الخلق إيجاد والجعل شيء من شيء فهو من الخلق. لذلك في الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)) خلق السموات والأرض مقدّم على جعل الظلمات والنور، لا يكون هناك ظلمات ونور إلا بعد خلق السموات والأرض. لكن الذي لفت نظرنا لم يسأل السائل عن آيتين متشابهتين بصورة متقاربة وهما آية في سورة النساء (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) النساء) وآية في سورة الأعراف (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) الأعراف). يُفترض في آية النساء أن تأتي بـ (خلق) و(جعل) كما جاء في آية الأعراف (خلق وجعل) لكنها جاءت (خلق وخلق). رجعنا إلى المواضع الأخرى في القرآن فوجدنا أنه إذا بدأ الكلام يبدأ بالخلق (خلق) وإذا بنى عليها شيئاً يبني بـ (جعل) إلا في هذا الموضع في سورة النساء وهذه تحتاج لوقفة.
إذا نظرنا في المواضع الأخرى التي جاءت فيها (خلق وجعل) نجد: في سورة الروم(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)) بدأت الآية (ومن آياته) ثم قال (وجعل بينكم)، في سورة النحل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)) ثم قال بعدها (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72))، في سورة فاطر (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) فطر الشيء بمعنى خلقه وبدأه وأوجده لذلك يقول أحد الصحابة: "ما علمت معنى فاطر إلى أن إختصم رجلان عندي في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها. يعني بدأتها"
فطر أي بدء الخلق فلما قال فطر قال بعدها (جعل)، (ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) القيامة) ذكر الخلق ثم ذكر الجعل. لما يكون الخلق مجرّداً (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) النجم) يذكر الخلق بدون الجعل، (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) الليل) قسم.
إلا في آية سورة النساء (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)). وهذه تحتاج إلى وقفة:
جعل تأتي بعد خلق لأنها مرحلة لاحقة ويتصور هنا في آية سورة النساء أن يقول أيضاً (خلق وخلق) كما قال في آيات أخرى. الفارق أنه لما قال (وجعل منها زوجها) قال (ليسكن إليها فلما تغشاها ) مفرد، لكن هنا الكلام على خلق البشرية (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) فلما كان الكلام على خلق البشرية عموماً ذكر خلق الرجل وخلق المرأة و(وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء)، ما قال (جعل منها زوجها) لأنها ستقتصر عند ذلك إنما أراد أن يبيّن أنه إنطلق إيجاد البشرية من خلقين: خلق آدم وخلق حواء ثم (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء). فلما تكلم على خلق البشرية إستعمل كلمة الخلق للزوجة. في الأماكن الأخرى لما كان الخلق محدداً قال (جعل). حيثما ورد وهذا هو أسلوب القرآن الكريم في الإستعمال حتى نقول أن كل كلمة في مكانها في القرآن الكريم.
منقول من منتدى الإعجاز في القرآن الكريم
المفضلات