لماذا نصوم عاشوراء ؟؟
بقلم الدكتور صهيب السقار
الحمد لله الذي ذكرنا بنجاة موسى وهلاك فرعون. وجزى الله عنا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو أهله. ندبنا إلى صيام عاشوراء. لما قدم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فسألهم عن صيامهم فقالوا هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله نبي إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه.
ونحن نسأل عن الحكمة في اختيار الصوم من بين سائر العبادات في إحياء ذكرى نجاة موسى وهلاك فرعون؟ ما الفرق بين إحياء هذه الذكرى بالصلاة والقيام وإحيائها بالصيام؟
الصيام عبادة تُفرغ البطون لتتفرغ العقول للتدبر والتأمل. فهل تدبرنا وتأملنا في دروس نجاة موسى عليه السلام وهلاك فرعون؟
العقلانيون والواقعيون والموضوعيون سيعودون لاتهامنا بالهروب من الواقع.
يقولون كيف هربتم من واقعنا الذي تهلك فيه البلاد والعباد لتتحدثوا نجاة قبل آلاف السنين؟ كيف تستبشرون بهلاك الطاغية فرعون قبل آلاف السنين وفي واقعكم أفراخ من الفراعنة والطغاة الذين يسومونكم سوء العذاب؟
والجواب أنه لا مخرج لنا من واقع الآلام والهوان إلا بتدبر درس عاشوراء.
نحن اليوم في واقع طالت فيه معايشتنا للآلام والهزيمة.
أليم أليم هذا الاستضعاف والهوان الذي يعيشه المسلمون اليوم. لكننا اليوم نخاف على المسلمين خطرا أعظم مما أصيبوا به في بلادهم وأموالهم وأبنائهم.
إن أخوف ما يُخاف على المسلم أن يدفعه حاضر الآلام إلى جحود الماضي والكفر بالمستقبل.
في كل إنسان بوصلة ذاتية في جسمه تضبط له توازنه وإحساسه بجهاته. فكيف تتخيل حركات إنسان فقد نعمة الإحساس بالمكان؟ كيف تتخيل تخبط إنسان فقد توازنه فما عاد يعرف يمينه من شماله.
إذا تخيلت هذا الدوران والترنح والتيه الذي يصاب به من فقد بوصلة المكان. فتخيل بعد ذلك عواقب فقد بوصلة الزمان. الإنسان العاقل الحكيم يضبط في ذاته بوصلة زمانية يحدد بها علاقته بيومه ومستقبله وماضيه. وإذا لم يضبط علاقته بالماضي والمستقبل أصيب بمثل الدوران والترنح والتيه الذي يصاب به من فقد بوصلة المكان.
واقعنا اليوم يشهد أن جملة من المسلمين فقدوا بوصلة الزمان. واقعنا اليوم يشهد أن جملة من المسلمين تاهوا بين الحاضر والماضي والمستقبل.
المسلم في هذا العصر ولد في زمان النكبات والهزائم. كلما طلع عليه صباح سمع مزيدا من أخبار الضعف والهوان التي سمعها بالأمس. تعاقبت عليه الآلام حتى ألفها ويأس من مداواتها. تذكيرك له بماضيه يعده هروبا من الواقع. تذكيرك له بوعود الله بالتمكين يدفعه إلى مزيد من السلبية والقعود والانتظار.لا يفهم من تذكيرك له بالمستقبل الموعود إلا أن يكتف يديه منتظرا أن يأتي الله بنصره ويحقق وعده. هذا مهزوم أسكرته الآلام فما عاد يدرك إلا حاضره وآلامه.
هذا حال من أسكرته الآلام وجعلت على بصره غشاوة، غشاوة آلام ما عاد يلتفت إلى ماضيه ولا يستشرف مستقبله. حسبه مع هذه الغشاوة أن يرى أنفه. حسبه من البصر والبصيرة ما يكفيه في حاضره. حسبه أن يسير مترنحا مهموما ومنكسرا.لا تحاول لفت نظره إلى الماضي لا تحاول لفت نظره إلى الأمام. الواقعَ الواقعَ والحاضرَ الحاضرَ والعقلانيةَ العقلانيةَ.
أرقونا بما يسمونه واقعيا وعقلانيا. متى كانت العقلانية والموضوعية تعني أن لا ندرك إلا الواقع والحاضر. الإنسان العاقل لا يرضي أن يشابه البهائم في إدراك الحاضر وقطع العلاقة بالماضي والجهل بالمستقبل.
البهائم هي التي لا تدرك إلا حاضرها وأنى لها بذاكرة تستذكر به ماضيها وأنى لها بعقل تخطط به وتدبر لمستقبلها. الاقتصار على الحاضر والواقع ونسيان الماضي والغفلة عن المستقبل يليق بالبهائم. أما المسلم العاقل فإنه يصوم عاشوراء ليستذكر قرونا سحيقة.
المسلم في حاضره اليوم يصوم عاشوراء ليعيد ضبط بوصلة الزمان.
المسلم في حاضره اليوم يصوم عاشوراء ليعيد ربط ساعته إلى الوراء قرونا.
هذه اللحظة التي نجى الله فيها موسى من فرعون لها علاقة بهذه اللحظات التي يعيشها اليوم.
المسلم يصوم عاشوراء ليعلم أن الله جعل فرعون وجنوده سلفا ومثلا للطغيان الذي يراه في حاضره. (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ {55} فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ)
المسلم إذا صام عاشوراء حق صيامه لم تعد عربدة الطغاة تخيفه. إذا علا زبد الطغاة الغاصبين المحتلين ربط الحاضر بالماضي. ليس جديدا على مسامعه ما يظهر في واقعه من علو واستكبار. قد قالها فرعون من قبل (قال أنا ربكم الأعلى) (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ
إذا سمعنا رعاة البقر يقدمون لنا النصح في تجديد الإسلام وتهذيبه.
إذا سمعنا المطالبة بتحصيل إذنه وموافقته ربطناها بقول سلفه: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ) (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)
من قال إن هذا العلو والفساد في الأرض جديد؟ نحن اليوم في عاشوراء نستذكر علو فرعون الذي جعله الله سلفا ومثلا للطغاة الآخرين (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)
من قال إن إتهام المؤمنين بالعصابات جديد. هذا فرعون يقول: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ {52} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {53} إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ)
* في عاشوراء نتعلم درسا نجيب به كل من يظن أن معركة الحق مع الباطل تحسم في تلك الجولة التي يخسرها في واقعه. في عاشوراء نتعلم درسا نجيب به كل من يظن هلاك المستضعفين ونصر الجبارين: (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين)
هذه سنن الله التي لن تجد لها تبديلا ولا تحويلا (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
على كل مسلم يظن أن الحديث عن درس عاشوراء هروب من الواقع أن يسير في الأرض.
لن يبتعد كثيرا ليكتشف أنه هو الذي لا يعيش في واقعه ولا يعرف ماضيه ولا يستشرف مستقبله. أولم ننظر في الأرض طغيان شارون. هل بعُد عنا طغيانُه وعلوُه وقتلهُ النساءَ والأطفال؟ هل بعُد عنا محاولاته تدنيس مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
أيها الواقعي لماذا نجى الله شارون ببدنه حتى الساعة؟
في عاشوراء جواب لكل من يشكك في مناسبة الحديث عن النصر والتمكين في هذا الواقع.
الله تبارك وتعالى يجعل الوعد بالنصر والتمكين بعد الحديث عن تذبيح الأبناء واستحياء النساء (طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)
وبعد ذلك ينتقل القرآن ليتحدث عن أبعد نقطة في الضعف عن النصر والتمكين. (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ ... إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
هذا وعد الله بوراثة الأرض بين الحديث عن القتل والتذبيح والطفل الرضيع.
ونحن نعيش في واقع الآلام ينبغي أن نستفيد من درس عاشوراء. هذا درس كتب الله النصر والتمكين للقلة المستضعفين بشرطين. الله تبارك وتعالى كتب التمكين للمستضعفين إذا استمسكوا بالصبر وحسن اليقين لما قال فرعون: ( لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)
يجب أن نجد في عاشوراء درسا نتعلم فيه مواجهة الواقع بالصبر والثقة بوعد الله. هذا عاشوراء درس علم فيه موسى عليه السلام الصبر والمصابرة
قال فرعون: ( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) فقال موسى عليه السلام لقومهاسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
ويتحقق وعد الله تبارك وتعالى بنصرهم على فرعون وجنوده الذين انتقم الله منهم: ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ ...بما صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا...)
*على المتدينين وعمار المساجد أن يعيدوا ضبط بوصلة الزمان الموجودة في دواخلهم.
علينا أن نعيد برمجة العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل في أنفسنا ووجداننا.
مهما رأينا من علو وطغيان واستكبار لن يتسرب إلينا الشك بتحقق وعد الله تبارك وتعالى.
(والذي نفس محمد بيده ليبلغن هذا الدين )
على المتدينين وعمار المساجد أن يستبدلوا ثقافة الإحباط والهزيمة بثقافة النصر والتمكين.
علينا أن نصوم عاشوراء كما صامه سلفنا رضوان الله عليهم. كان أحدهم من أول عهده بالإسلام يوقد نيران الشوق إلى النصر والتمكين لا يعرف لثقافة الهزيمة محلا. قدم أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى خيبر فأسلم وخرج معه فشهدها. ثم قال يا رسول الله اكتب لي بأرض كذا وكذا بأرض بالشام. طالب بأن يكتب له النبي صلى الله عليه وسلم أرضا بالشام قبل أن يخرج الإسلام من حدود لمدينة المنورة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:ألا تسمعون إلى ما يقول هذا؟ فقال أبو ثعلبة والذي نفس محمد بيده لتظهرن عليها يا رسول الله. فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم وفتح الله الشام فأقام أبو ثعلبة في أرضه بالشام ودفن فيها.
المفضلات