العبودية لله تعالى مناط الصلاح و الإصلاح

الشيخ سارية الرفاعي




يتميز الإسلام من بين سائر المبادئ بأنه ربط كل جوانب الحياة بخالق هذا الكون ربِّ العالمين جلَّ جلاله ، لأن الحقيقة الكونية المؤكدة تدل على أن سائر الموجودات والكائنات إنما وُجدت بإرادة الله وقدرته وصنعه ، وهي جميعها خاضعة ومنقادة لتدبيره ، وهذا ما عبَّر عنه البيان القرآني في قول الله تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبِّح بحمده ) أي مقرٌّ بعبوديته لله وخاضع لإرادته .
ولكنَّ مخلوقاً واحداً من بين كل المخلوقات وهو الإنسان الذي أعطاه ربه حريةَ الاختيار لوجهته في هذه الحياة فأصابه الغرور بذلك فتمرَّد على شريعة ومنهج خالقه ، وأبى أن يكون عبداً خاضعاً له ، فكانت سعادته في دنياه ناقصة مبتورة ، ولن ينتظره في آخرته إلا الوهم والسراب بل العقاب والعذاب الشديد ، وهذا ما أكَّده الله تبارك وتعالى في قوله : ( ولا تكونوا كالذين نسوا اللهَ فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون ) .
ولذلك كان الإيمان الجازم باليوم الآخر ركناً أساسياً من أركان العقيدة الإسلامية يترسَّخ به معنى العبودية لله والوقوف للحساب بين يديه ، وما أروع وأحكم الحديث النبوي الشريف الذي حدَّد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المعيار الحقيقي الذي يُوزن به فوزُ المسلم ونجاحُه وغناه حين وجّه السؤال التالي لصحابته الكرام فقال : ( أتدرون من المفلس ؟ فقالوا : المفلس منا مَن لا درهم عنده ولا متاع ، فقال : المفلس مَن يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا ، فيأتي هذا فيأخذ من حسناته ، ويأتي هذا فيأخذ من حسناته حتى ما إذا فنيت حسناته يؤخذ من سيئاتهم ويُطرح على سيئاته ثم يُطرح في النار) .
وحين ربط الإسلام الحياة كلها بمفهوم العبودية لله استطاع أتباعه أن يبنوا حضارة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً ، ووقف واحد من حكامهم الصادقين العادلين عمر بن عبد العزيز يعلن لهم بعد أن قالوا له جزاك الله عنا خيراً فيقول : ( لا بل جزى الله الإسلامَ عني خيراً ) لأن الإسلام هو الذي صنع عمر وليس عمر هو الذي صنع الإسلام ، ولم تمنعهم عبوديتهم لله أن يكونوا أساتذة العالم في كل مجال ، وكانوا الرُّواد الأوائل في الكثير من ميادين العلم والتقدم ، وما يزال التاريخ الإنساني يذكر بإجلال واحترام ابن سينا والفارابي والخوارزمي والكندي وابن الهيثم الذين كانوا نجوماً هادية في علوم الطب والهندسة والجغرافيا والفلسفة والفلك .
بينما نجد الحضارة الأوربية اليوم التي عبدت المادة من دون الله ، وفصلت حياتها عن منهجه قد سارت بالبشرية نحو الظلم والطغيان ، واستعباد الإنسان للإنسان ، وأشعلت الحروب وأزهقت الأرواح وخلَّفت الدمار والخراب .