[justify]
بيان أن التأويل ليس خاصا بمذهب الخلف
فضيلة الشيخ محمد الغرسي
بيان أن التأويل ليس خاصا بمذهب الخلف، وبيان أن فريقا من سلف الأمة قد أول مجموعة من النصوص إما لمخالفته لصرائح العقول، أو لمخالفته للنصوص المحكمات.
وذلك لأن أصل التأويل أمر ضروري لا بد منه، فإن من النصوص ما لا يمكن حمله على المعنى الذي وضع اللفظ له إما لمخالفتها لصرائح العقول، أو لمخالفتها للنصوص المحكمات، وقد اقترن به قرينة تعين المعنى المستعمل فيه المناسب للمعنى الموضوع له، فمثل هذه النصوص لا وجه للتوقف فيها، ويتعين حملها على المعاني التي تعينها القرائن، وهذا هو معنى قول الإمام ابن دقيق العيد السابق: «وما كان منها –أي من النصوص – معناه ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب حملناه عليه، كقوله تعالى : (على ما فرطت في جنب الله) فإن معناه في استعمالهم الشائع: حق الله، فلا يتوقف في حمله عليه» إلى آخر كلامه.
فالتأويل قد يكون متعينا، كما قد يكون جائزا، وقد يكون ممتنعا، وقد ذكرنا شرائطه آنفا.
وقد غلا في باب التأويل فريقان: فريق غلق باب التأويل وسد الطريق على العقل، وهم المشبهة ظاهرية العقيدة، وفريق آخر غلا في التأويل، وقلد المعتزلة في تأويلاتهم التي بدَّعهم السلف من أهل السنة من أجلها، وهم كثير من متأخري الأشاعرة، وخير الأمور أوسطها وهو ما ذهب إليه الإمام ابن دقيق العيد.
ومن أجل أن أصل التأويل أمر ضروري لابد منه أول فريق من سلف الأمة بما فيهم بعض الصحابة والتابعين مجموعة من نصوص الكتاب والسنة وإليك مجموعة من هذه التأويلات.
تأويل حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما:
أول ابن عباس قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق)(1) فقال: يكشف عن شدة، فأول الكشف عن الساق بكشف الشدة، نقل ذلك عنه بسند صحيح الحافظ العسقلاني.(2) والإمام الطبري في تفسيره.(3) وقال في صدر كلامه على هذه الآية: قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر شديد. فنسب التأويل إلى جماعة من الصحابة والتابعين.
وأوَّل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الأيدي في قوله تعالى (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)(4) بالقوة نقله الطبري في التفسير(5) ونقل هذا التأويل عن جماعة من أئمة السلف منهم مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان، فاليد مفردا كان أو مثنى كما في قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) أو جمعا كما هنا يفسر بالقوة والقدرة مفردا. ولا يفسر المثنى بالقدرتين ولا الجمع بالقدرات كما قيل، فقد ورد في حديث يأجوج وماجوج: (لا يدان لأحد بهم) ومعناه لا قوة لأحد بقتالهم ومقاومتهم.
وأول ابن عباس رضي الله عنهما النسيان الوارد في قوله تعالى (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا )(6) بالترك في العذاب. نقله الطبري في تفسيره(7) وروى هذا التأويل بأسانيده عن مجاهد وغيره.
تأويل الإمام احمد:
روي الأمام البيهقي في كتابه مناقب الإمام أحمد وهو كتاب مخطوط وعنه نقل الحافظ ابن الكثير في البداية والنهاية: فقال: روي البيهقي عن الحاكم عن أبي عمر بن السماك عن حنبل ان أحمد بن حنبل تأول قوله تعالي: ( وجاء ربك) أنه جاء ثوابه، ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه.(8)
وقال ابن كثير: ومن طريق أبي الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل أنه أجاب الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) قال: يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث لا الذكر نفسه هو المحدث.(9)
تأويل الإمام النضر بن شميل:
وهو الإمام الحافظ اللغوي من رجال الستة. ولد 122هـ ذكر الحافظ الذهبي في الأسماء والصفات أن النضر بن شميل قال: إن معنى حديث: (حتى يضع الجبار قدمه فيها) من سبق في علمه أنه من أهل النار.(10)
تأويل الإمام سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه:
ذكر الذهبي أن معدان سأل الإمام الثوري عن قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) فقال: علمه، وسئل سفيان عن أحاديث الصفات، فقال: أمروها كما جاءت.(11)
تأويل الإمام عبد الله ابن مبارك:
روى البخاري عن صفوان بن محرز عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما أنا أمشى معه إذ جاء رجل فقال: يا ابن عمر كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في النجوى؟ قال: سمعته يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه...ثم قال البخاري: قال ابن المبارك كنفه يعنى ستره. رواه البخاري في خلق أفعال العباد(12) ونقله الحافظ في "فتح الباري".(13)
تأويل الإمام الترمذي:
روى الترمذي في جامعه الحديث المشهور: (أنا عند ظن عبدي بي.... وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، ويروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث (من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا) يعنى بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، قالوا: إنما معناه: يقول: إذا تقرب إلي العبد بطاعتى وبما أمرت، تسارع إليه مغفرتي ورحمتي.(14)
هذه نماذج من تأويل السلف للنصوص، واستقصائه يتعسر أو يتعذر من كثرته.
(1) القلم 42.
(2)فتح الباري 13/428.
(3) 29/38.
(4) الذاريات 47.
(5) 27/7.
(6) الأعراف 15.
(7) 8/201.
(8)البداية والنهاية 10/327.
(9) البداية والنهاية 10/327.
(10) 444.
(11) سير أعلام النبلاء 7/274.
(12)78.
(13) 13/477.
(14) تحفة الأحوذي 10/64.
[/justify]
المفضلات