[justify]
إذا صح الحديث فهو مذهبي



كتبه الشيخ محمد عوامة



كيف نرد على من قال إن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي، وها قد صحَّ الحديث، فهو في الصحيحين ـ مثلاً ـ فإذا عَمِلنا به، نكونُ قد عملنا بسنة ثابتة، وعمِلنا بمذهب إمام معتبَر من أئمة المسلمين، ولا يليق بمنطق العلم أن نقول: مذهب الشافعي هو الذي دُوِّن عنه في كتب مذهبه فقط!.


الجواب:

إن كلمة "إذا صح الحديث فهو مذهبي" قالها الإمام الشافعي وغيرُه من الأئمة، بل هي لسانُ حالِ كلِّ مسلمٍ عَقَل معنى قول "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
وقد نقل كلمةَ الشافعي هذه ابنُ كثير في "تفسيره" آخرَ بحثه في الصلاة الوسطى وأنها صلاة العصر، وعلَّق بقوله: "هذا من سيادته وأمانته، وهذا نَفَس إخوانه من الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين"( ). وقد قال الحافظ أبو زرعة العراقي( ): "لا يسوغ عندي لمن هو من أهل الفهم ومعرفة صحيح الحديث من سقيمه، والتمكُّن من علمي الأصول والعربية، ومعرفة خلاف السلف ومأخذهم، إذا وجد حديثاً صحيحاً على خلاف قول مقلَّده: أن يترك الحديث ويعمل بقول إمامه"( ).

غير أن مرادهم من قولهم هذا هو: إذا صَلَحَ الحديث للعمل به فهو مذهبي. وأَدَعُ توضيح هذا إلى عدد من الأئمة في مذاهبهم الثلاثة: الحنفي والشافعي والمالكي، فقد بيَّنوا أن هذا هو المراد، كما بينوا مَن يَصلُح لذلك.

أما من الحنفية: فقد قال العلامةُ ابنُ الشِّحْنة الكبيرُ الحلبيُّ الحنفيُّ شيخُ الكمالِ ابن الهمام رحمهما الله تعالى، في أوائل شرحه على "الهداية" ما نصه: "إذا صح الحديثُ وكان على خلاف المذهب، عُمِل بالحديث، ويكون ذلك مذهبَه، ولا يَخرج مقلِّده عن كونه حنفياً بالعمل به، فقد صحَّ عنه ـ عن الإمام أبي حنيفة ـ أنه قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وقد حكى ذلك ابنُ عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة". انتهى كلام ابن الشحنة. ونقل كلامَه هذا ابنُ عابدينَ( ) وعلَّق عليه بقوله: "ونَقَله أيضاً الإمامُ الشَّعْراني عن الأئمة الأربعة. ولا يَخفى أن ذلك لمن كان أهلاً للنظر في النصوص، ومعرفةِ محكَمها من منسوخها، فإذا نظر أهلُ المذهب في الدليل وعَمِلوا به: صحَّ نسبتُه إلى المذهب، لكونه صادراً بإذن صاحب المذهب، إذْ لاشك لو عَلم بضعف دليله رَجَع عنه واتَّبع الدليلَ الأقوى". وقال أيضاً( ): "ما صحّ فيه الخبر بلا معارض فهو مذهب للمجتهد وإن لم ينصَّ عليه، لما قدمناه في الخطبة عن الحافظ ابن عبد البر والعارف الشعراني، عن كلّ من الأئمة الأربعة أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي".

وقد تعرَّض ابنُ عابدينَ لهذا القول أيضاً في رسالته "شرح رسم المفتي"( ) ونَقَلَ كلامَ ابن الشحنة وقيَّده بما قيَّده به في كلامه السابقِ نَقْلُه عن "حاشيته" بالحرف الواحد، ثم زاد قيداً آخرَ فقال: "وأقول أيضاً: ينبغي تقييدُ ذلك بما إذا وافق قولاً في المذهب، إذْ لم يأذَنوا في الاجتهاد فيما خَرَج عن المذهب مما اتفق عليه أئمتُنا، لأنَّ اجتهادَهم أقوى من اجتهاده، فالظاهر أنهم رأوا دليلاً أرجحَ مما رآه حتى لم يعملوا به"( ).

وأُحبُّ أن ألفِتَ النظر إلى أمرين:
أحدهما: أن بعضَ المغرِّرين نقل كلامَ ابن الشِّحْنة هذا عن حاشية ابن عابدين، وأوهمَ الناسَ أن ابن عابدين سكت عنه، وأفهمَهم أن هذا هو رأيُ علماءِ المذهب، ولاسيما ابنُ عابدين رحمه الله، الذي هو خاتمة المحققين المتأخرين في المذهب. كما فَعَلوا مثلَ ذلك في نقلهم عباراتٍ كهذه عن "الميزان الكبرى" للشَّعراني رحمه الله، وتستَّروا وراء كلامه، وقالوا للناس: إنه عالمٌ معتبرٌ صوفيٌّ مقبولٌ كلامهُ عند أتباع أئمة المذاهب! وهو كذلك. ولكنه: كلام حقّ أُريد به باطل، ولُبِّس ثوبَ باطل.
ثانيهما: أنَّ قولَ ابنِ عابدين رحمه الله في تعليقه على كلام ابن الشِّحْنة: "ولا يخفى أن ذلك لمن كان أهلاً..": قولٌ له أهميته البالغة، إذْ إن كلمة "ولا يخفى" هي بمنزلة قولنا نحن في مخاطباتنا اليوم: وبَدَهي. فهو ـ رحمه الله ـ يعتبر هذا التقييد من الأمور البَدَهيات المسلَّمات، ومما لا يجوز التغافل عنه أو التوقف في قبوله، فمن البَدَهيات ـ مثلاً ـ أن قول القائل: الشمس طالعة، يفيد أن الوقت نهارٌ لا ليل، فكذلك قول الإمام: إذا صح الحديث فهو مذهبي، يفيد إفادةً بَدَهية مسلَّمة لا توقُّف فيها: أن ذلك لمن كان أهلاً للنظر في النصوص ومعرفة ناسخها ومنسوخها، وغير ذلك، فلا يجوز للجهلاء أو (أنصاف) المتعلِّمين المغرورين أن يتجرؤوا على هذا المقام!. وقد أغفل هؤلاء المغرِّرون المشوِّشون هذا القيد الذي لابدَّ منه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ونقل كلامَ ابن الشِّحنة وتقييدَ ابن عابدين له في "الحاشية": العلامةُ المفسِّرُ المحدثُ الفقيه فضيلة الشيخ عبد الغفار عيون السود الحمصيّ الحنفي رحمه الله تعالى (المولود في صفر عام 1290، والمتوفى 27 من شهر ربيع الثاني عام 1349) في رسالته النافعة الماتعة "دفع الأوهام عن مسألة القراءة خلف الإمام"( ) وقال: "هو تقييد حسن، لأنا نرى في زماننا كثيراً ممن يُنسب إلى العلم مغتراً في نفسه، يظنُّ أنه فوق الثريا وهو في الحضيض الأسفل، فربما يطالع كتاباً من الكتب الستة ـ مثلاً ـ فيرى فيه حديثاً مخالفاً لمذهب أبي حنيفة فيقول: اِضرِبوا مذهبَ أبي حنيفة على عُرْض الحائط، وخذوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هذا الحديث منسوخاً أو معارَضاً بما هو أقوى منه سنداً، أو نحو ذلك من موجِبات عدمِ العمل به، وهو لا يعلم بذلك، فلو فُوِّض لمثل هؤلاء العملُ بالحديث مطلقاً: لضلّوا في كثيرٍ من المسائل، وأضلوا مَن أتاهم من سائل"( ).

وهنا تثورُ ثائرة أدعياء الدعوة إلى العمل بالسنة فيقولون: هل يجوز لكم أن تحكموا بالضلال على من يعمل بالسنة ويفتي الناس بها؟! فنقول: نعم إذا لم يكن أهلاً لهذا المقام، فحُكْمنا عليه بالضلال لا لعمله بالسنة، معاذ الله، بل لتجرُّئه على ما ليس أهلاً له( ). وقد سَبَقَنا إلى هذا الحكم إمام من أئمة العلم بالحديث والفقه، هو الإمام أبو محمد عبد الله بن وهب المصري أحدُ أجلاء تلامذةِ الإمامِ مالك في المدينة المنورة، والإمامِ الليث بن سعد في مصر، قال رحمه الله: "الحديث مَضِلَّة إلا للعلماء"( ). وقال الإمام ابن أبي زيد القَيْرواني رحمه الله: "قال ابن عيينة: "الحديث مَضِلَّة إلا للفقهاء" يريد: أن غيرهم قد يحمِل شيئاً على ظاهره وله تأويلٌ من حديثٍ غيره، أو دليلٌ يخفى عليه، أو متروكٌ أوجَبَ تَركَه غيرُ شيء، مما لا يقوم به إلا من استبحر وتفقَّه"( ).

وأما من الشافعية: فقد تعرَّض لهذا القول باختصار الإمامُ النووي رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات"( ) فقال: "احتاط الشافعي رحمه الله فقال ما هو ثابتٌ عنه من أوجهٍ من وصيته بالعمل بالحديث الصحيح، وتَرْكِ قوله المخالفِ للنص الثابت الصريح، وقد امتثل أصحابُنا رحمهم الله وصيتَه وعملوا بها في مسائلَ كثيرةٍ مشهورة، كمسألة التثويب في أذان الصبح، واشتراط التحلُّل في الحج بعذر المرضِ ونحوهِ، وغير ذلك مما هو معروف. ولكن لهذا شرطٌ قلَّ من يتَّصفُ به في هذه الأزمان( )، وقد أوضحتُه في مقدمة شرح المهذَّب".

وإليك ملخصاً مما قاله في مقدمة "المجموع شرح المهذَّب". قال رحمه الله( ): "هذا الذي قاله الشافعي: ليس معناه أن كل أحدٍ رأى حديثاً صحيحاً قال: هذا مذهبُ الشافعي، وعَمِل بظاهره، وإنما هذا فيمن له رتبةُ الاجتهادِ في المذهب، وشرطُه: أن يَغلِبَ على ظنه أن الشافعيَّ رحمه الله لم يقفْ على هذا الحديث، أو لم يعلم صحته، وهذا إنما يكونُ بعد مطالعة كتبِ الشافعي كلِّها، ونحوه من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها. وهذا شرطٌ صعبٌ قلَّ من يتصفُ به.

وإنما اشترطوا ما ذكرنا: لأنَّ الشافعي رحمه الله تركَ العملَ بظاهر أحاديثَ كثيرةٍ رآها وعَلِمها، لكنْ قام الدليلُ عنده على طعن فيها أو نسخها( )، أو تخصيصِها أو تأويلها أو نحو ذلك. قال الشيخ أبو عمرو ـ هو الإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله( ): ليس العملُ بظاهر ما قاله الشافعيُّ بالهيِّن، فليس كلُّ فقيه يسوغُ له أن يستقلَّ بالعمل بما يراه حجةً من الحديث. وفيمن سلك هذا المسلكَ مِن الشافعيين مَن عمل بحديثٍ تركه الشافعي رحمه الله عمداً مع علمه بصحته، لمانعٍ اطَّلع عليه وخَفيَ على غيره، كأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ـ ممن صحبَ الشافعي ـ قال: صح حديثُ "أفطر الحاجم والمحجوم" فأقول: قال الشافعي: أفطر الحاجم والمحجوم، فردّوا ذلك على أبي الوليد، لأن الشافعي تركه مع علمه بصحته، لكونه منسوخاً عنده، وبيَّن الشافعيُّ نسخَه واستدلَّ عليه"( ) انتهى كلام النووي ونَقْلُه كلامَ ابنِ الصلاح( ).

وأرى أن يضاف هنا ما أوجز العلامة الكوثري الإشارة إليه في كلامه الآتي( )، وتوضيحه:
1 ـ إذا تبيَّن لنا أن إمام المذهب قال هذا القول دون بذل جهد منه، بل متابعةً لغيره.
2 ـ ووضح الحق وظهرت الحجة في خلاف قوله ذاك.
3 ـ وظهر خطأ من أخذ الإمامُ بقوله كوضح الصبح. فحينئذ لا يصح أن يعزى إلى الإمام هذا القولُ المخالفُ للدليل الواضح، لأن الاجتهاد يكون فيما لا نصَّ فيه. انتهى.

وقد حصلَ لابن حِبانَ رحمه الله تسرُّع أكبرُ مما حصل لابن أبي الجارود، فإنه قال في "صحيحه"( ): "كلُّ أصلٍ تكلَّمنا عليه في كتبنا، أو فرعٍ استنبطناه من السنن في مصنفاتنا: هي كلُّها قول الشافعي، وهو راجعٌ عما في كتبه، وإنْ كان ذلك المشهورَ من قوله، وذاك أني سمعتُ ابنَ خزيمة يقول سمعت المزنيَّ يقول: سمعتُ الشافعي يقول: إذا صحَّ لكم الحديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به ودعوا قولي". ولا أدري كيف صدرتْ هذه الجَراءة من ابن حبان: أن يضرب بكتب الشافعي عُرْض الحائط، ويدعوهم إلى ما أصَّله هو وفرَّعه في كتبه على أنها مذهب الشافعي، من أجل هذه الكلمة المجملة؟!!. ونقولُ عن قولة ابن حبان هذه: قد صح هذا القولُ أو نحوُه عن أئمة آخرين، فلمَ لا تَنسُب ما أصَّلْتَه وفرَّعتَه إليهم أيضاً؟!.

وقال العلامة الكوثري( ): "قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي: ليس بمعنى: أن كلَّ ما قال فيه أحد: إنه حديث صحيح، آخُذُ به راجعاً عما قلتُه من قبلُ، بل بمعنى: أن الحديث إذا صح بشَرْطه، ووَضَحَتْ دلالته آخُذُ به، وإلا اختلط مذهبه.

وقد أقاموا النكير على أبي محمد الجُوَيني حيث حاول أن يؤلِّف كتاباً يجمع فيه مسائلَ صحَّ الحديثُ فيها في نظره، عازياً إياها إلى الشافعي، تعويلاً منه على هذا القول المحكيِّ عن الشافعي( )، وقد استبانَ لأهل العلم بالحديث أنه كان يصحح أحاديثَ غير صحيحة، ويجعل المسائل المستنْبطةَ منها أقوالاً للشافعي، فزجروه عن ذلك".

وللإمام التقيِّ السبْكي رحمه الله رسالة سماها "معنى قول الإمام المطلبي: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي" نَقَل في أولها كلامَ الإمامِ ابن الصلاح والإمامِ النووي الذي نقلتُ بعضه، ووافقهما عليه، وقال( ): "هذا تبيينٌ لصعوبة هذا المقام حتى لا يغترَّ به كل أحد"( ). ثم قال بعد سطرين: "وأما قصةُ ابن أبي الجارود: فالردُّ فيها على ابن أبي الجارود لتقصيره في البحث، لا على حُسْن كلام الشافعي في نفسه وإمكانِ اتباعه. وممن وافق ابنَ أبي الجارود عليه: أبو الوليد النيسابوريُّ حسانُ بن محمد، من ذرية سعيد بن العاص، من أكابر أئمة أصحابنا، توفي سنة تسع وأربعين وثلاث مئة، كان يحلف بالله أن مذهب الشافعي أنه يُفطر الحاجم والمحجوم، استناداً إلى ذلك. وغلَّطه الأصحاب بما سبق ـ من أن الشافعي تركه مع علمه بصحته لكونه منسوخاً عنده( )ـ كما غلَّطوا ابن أبي الجارود، وهو كمسألة يغلطُ فيها بعض المجتهدين، لكنْ تغليطُ ذلك صعب، لاتِّساع المدارك... . وقد حُكي عن أبي الحسن محمد بن عبد الملك الكَرَجي الشافعيِّ، وكان فقيهاً محدثاً، أنه كان لا يقنت في صلاة الصبح، يقول: صحَّ عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القنوت في صلاة الصبح... . فتركتُ ـ المتكلم هو السبْكي نفسه ـ القنوتَ في صلاة الصبح مدةً، ثم علمتُ أن الذي صحَّ من قوله صلى الله عليه وسلم القنوتَ في صلاة الصبح هو: الدعاءُ على رِعْلٍ وذَكْوان، وفي غير صلاة الصبح. أما ترك الدعاء مطلقاً بعد القيام في صلاة الصبح: ففيه حديث عيسى بن ماهان، وفيه من الكلام ما عُرف، وليس هذا موضعَ تَحريره، فرجعتُ إلى القنوت، وأنا الآن أقنت، وليس في شيءٍ من ذلك إشكالٌ على كلام الشافعي، وإنما قصورٌ يَعرِضُ لنا في بعض النظر". انتهى كلام الإمام السبكي.

وفي هذا النصِّ عبرةٌ لمن يعتبر! إذا كان هذا حالَ ابن أبي الجارود ـ وهو من تلامذة الشافعي، ومحلُّه في العلم معروف ـ ومثلُه وأجلُّ منه أبو الوليد النيسابوري ـ وليس هو من الرواة فقط، بل هو من أهل الرواية وأئمة الدراية ـ ومع ذلك يحلفُ بالله ويَنسُبُ إلى الشافعي العملَ بحديثٍ تَرَكَ الشافعي العملَ به عمداً لأنه منسوخ عنده: إذا كان هذا حالَ هؤلاء: فما القولُ بأهل زماننا ( )، هل يجوزُ لهم أن يُطبِّقوا على الإمام الشافعي مقتضى قوله، وهم لايفقهون للشافعي قولاً!!.

وهذا أبو الحسن الكَرَجي، وقد وصفه السُّبْكي كما تَرَى بالفقيه المحدث، ووصفه تلميذه السمعاني بأنه "إمامٌ ورعٌ عالم عاقل فقيه مفتٍ محدثٌ شاعر أديب"( ) ومع ذلك تَرَكَ القنوتَ مخالفاً لإمام مذهبه، بحجةِ صحةِ الحديثِ وأن إمامه يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، و"اتركوا قولي وخذوا بالحديث"، ومع ذلك تعقَّبه مَن بعده، منهم التاج ابن السبكي رحمه الله لمّا ترجم له في "طبقات الشافعية" فإنه قال بعد أن ذكر له هذا الرأي( ): "أمامَه عَقَبتان في غاية الصعوبة: صحةُ الحديث ـ في النهي عن القنوت ـ وهيهات! إن الوصول إلى ذلك لَشديد عليه، عسير، وكونُه يصير ـ تركُ القنوت ـ مذهباً للشافعي، وهو أيضاً صعب".

وكذلك: الإمام التقي السبكي كان يقنت في صلاة الفجر، بمقتضى مذهبه الشافعي الذي نشأ عليه، ثم لما اطلع على قصة الكَرَجي هذا ترك القنوت، ثم تراه عاد إليه، والسبكيُّ هو الإمام الذي وُصف بحقّ: بالمجتهد المطلق، أو المجتهد في المذهب، ووصَفَه عصريُّه وقَرينه الحافظ الذهبي رحمه الله ـ وبينهما شيء من اختلاف المنزِع ـ بأنه شيخ عصره حديثاً وفقهاً، فقال له لما تولَّى السُّبْكي خطابةَ الجامع الأموي بدمشق: علاه الحـاكـمُ البـحـرُ التقيُّ لِيَـهْنَ المنـبَـرُ الأمـويُّ لـمَّا وأخطَبُهم وأقضاهم عليُّ() شيوخُ العَصرِ أحفظُهم جميعاً فإذا كان السبكيُّ قد حَصَل له هذا الترددُ ـ وهو بهذه المنزلة في العلم ـ فهل يجوزُ لمن هو دونه أن يتمسكَ بظاهرِ كلامِ الشافعيِّ رضي الله عنه، ويُسرعَ إلى العمل بما صحَّ من الحديث، مشوِّشاً على نفسه وعلى غيره من الناس، متظاهراً بأنه يعمل بمقتضى قول إمامٍ معتبرٍ من أئمةِ المسلمين معتَمدٍ عندهم، فلمَ ننكرُ عليه؟. ثم نقل السبكي في الرسالة المذكورة( ) نصاً طويلاً عن الإمام أبي شامة المقدسي فيه كلام يتعلَّقُ بما نحن في صدد الحديث عنه، وصدَّر السبكيُّ هذا النصَّ بقوله: "قال أبو شامة رحمه الله ـ تلميذ ابن الصلاح وشيخ النووي ـ وهو من المبالغين في اتباع الحديث" ثم نقل كلامه، وفي آخره يقول أبو شامة: "ولا يتأتَّى النهوضُ بهذا إلا من عالمٍ معلومِ الاجتهاد، وهو الذي خاطبه الشافعي بقوله: إذا وجدتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف قولي فخذوا به ودَعوا ما قلتُ، وليس هذا لكل أحد"( ). وروى البخاري في "صحيحه"( ) عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يرفع يديه إذا قام إلى الركعة الثالثة. وجاء في شرحه "فتح الباري" ما نصه: "قال الخطابي: لم يقل به الشافعي، وهو لازم على أصله في قبول الزيادة. وقال ابن خزيمة: هو سنة وإن لم يذكره الشافعي فالإسناد صحيح، وقد قال: قولوا بالسنة، ودَعُوا قولي. وقال ابن دقيق العيد: قياسُ نظرِ الشافعي أنه يَستحب الرفع فيه، لأنه أثبت الرفع عند الركوع والرفع منه..، وأما كونه مذهباً للشافعي لكونه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي: ففيه نظر. انتهى.

ووجه النظر: أن محل العمل بهذه الوصية ما إذا عُرف أن الحديث لم يطلع عليه الشافعي، أما إذا عُرف أنه اطلع عليه وردَّه أو تأوّله بوجه من الوجوه: فلا. والأمر هنا محتمِل". وبهذا التبيين الهامّ جداً من أولئك الأئمة المحدثين الفقهاء الأتقياء، يتبين لنا مَن أراده الشافعي في كلامه، وأنه رضي الله عنه ما أراد هؤلاء المتطاولين على العلم والعلماء، المُقْعَدين في حقيقة أمرهم وواقعهم!.

وأما من علماء المالكية: فقد بيَّن الإمام الحجَّة الأصولي شهاب الدين أبو العباس القَرَافي المالكي رحمه الله تعالى في كتابه "شرح التنقيح"( ) بيانَ حال المتأهِّل لهذا المقام فقال: "كثيرٌ من فقهاء الشافعية يعتمدون على هذا ويقولون: مذهب الشافعي كذا، لأن الحديث صح فيه. وهو غلط، لأنه لابدَّ من انتفاءِ المعارِض، والعلمُ بعدم المعارض يتوقَّفُ على مَن له أهليةُ استقراء الشريعةِ حتى يَحسُنَ أن يقالَ: لا معارضَ لهذا الحديث، أما استقراءُ غيرِ المجتهد المطلق فلا عبرة به. فهذا القائلُ من الشافعية ينبغي أن يحصِّل لنفسه أهليةَ الاستقراء قبل أن يصرّح بهذه الفُتيا". أي: إذا أردنا أن ننسبَ إلى مذهب الشافعي حكماً بناءً على صحة حديثٍ فيه، فلا يجوز لنا أن ننسبه إليه إلا بعد تتبعنا تتبعاً كاملاً، ليحصُل لنا علم جازمٌ بعدم وجود دليلٍ آخر يعارضه، ولا يحصل العلم بعدم وجود دليلٍ معارضٍ له إلا لمن له أهليةُ استقراء الشريعةِ كاملةً، لا الأحاديثِ فقط، وهذا لا يكون إلا للمجتهد دون سواه.

وتُذكِّرنا كلمةُ القَرَاقيِّ المالكيِّ هذه، بكلمةٍ لمالكي آخر، هو أبو بكر المالكي( ) قالها في ترجمة الإمامِ الكبير أَسدِ بن الفرات رحمه الله تعالى، تلميذِ الإمام مالكٍ في المدينة، ومحمدِ بن الحسن في بغداد، قال: "والمشهورُ عن أسد رحمه الله تعالى أنه كان يلتزمُ من أقوالِ أهل المدينة وأهلِ العراق ما وافق الحقَّ عنده، ويحقُّ له ذلك، لاسْتبحاره في العلوم، وبحثِه عنها، وكثرةِ مَن لقيَ من العلماء والمحدثين".

فتأمل الأسباب الثلاثة التي أهَّلتْه لذلك: استبحاره في العلوم، وبحثه عنها، وكثرة شيوخه. ولولا ضرورةُ التأمُّلِ والتأنّي واشتراطِ الشروط: لساغ لكل إنسان أن ينسب كلَّ مسألة يقتنع بصحة الحديث فيها إلى فلان من الأئمة، ويأتيَ آخر فينسب القولَ بالمسألة نفسها إلى إمام آخر، ويأتي ثالثٌ فيقتنع بصحة حديثٍ مخالفٍ في المسألة نفسها فينسب القولَ به إلى الإمام الأول والثاني، وهكذا وهكذا إلى ما لا نهاية له من الاضطراب في العلم والبلبلة في الدين تحت تطبيق شعار: إذا صح الحديث فهو مذهبي!!. وحينئذ يتَّسعُ الخَرْق وتمتَدُّ الفوضى إلى دعوى الإجماع على كل مسألة حصل لأحدنا الاقتناع بصحة الحديث فيها! لأن هذا المعنى ـ إذا صح الحديث فهو مذهبي ـ هو لسانُ حالِ كلِّ عالمٍ، بل: كلِّ مسلم، كما أسلفتُه أولَ كلامي عن هذه الشبهة، نسأل الله الصَّوْن.

فإن قيل: فما مرادُ الأئمِة من تقرير هذه الكلمة وما شابهها في نفوس أصحابهم فمن بعدهم؟.
فالجواب: ما قاله العلامةُ المحقق الأصولي مولانا الشيخُ حبيب أحمد الكيرانَوي في المقدمة الثانية لـ"إعلاء السنن" التي طبعت قديماً باسم "إنهاء السكَن" وأُعيد طبعها حديثاً باسم "فوائد في علوم الفقه" قال رحمه الله( ): "حقيقة هذه الأقوال: هو إظهار الحقيقة الواقعة بأن الحجة هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قولي، فلا تظنوا قولي حجةً مستقلة، وأنا أبرأُ إلى الله مما قلتُه خلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقيقة لا تستلزم ما نَسب هذا القائل إليه رحمه الله ـ أي إلى الشافعي ـ من تجويزِ نسبةِ كلِّ قولٍ صح الحديث به عند كل قائل: إليه، فاعرفْ ذلك ولا تغترَّ بأمثال هذه الكلمات.." إلى آخر كلامه الدقيق المتين.

وخلاصةُ هذا الجواب عن هذه الشبهة من كلام هؤلاءِ الأئمة: ابنِ عابدين، وابنِ الصلاح، وتلميذِه أبي شامة، وتلميذِ أبي شامة: النووي، ثم القَرافي، والسبكي: أنه لا يصلُ إلى رتبةِ ادعاءِ نسبةِ حكمٍ ما إلى مذهب الشافعي وغيره بناء على قوله المذكور إلا من وصل إلى رتبةِ الاجتهاد أو قاربها.

وبهذا يتبين: أنه لا يحقُّ لأمثالنا أن يَعمل بمجرَّد وقوفه على حديثٍ ما ـ ولو كان صحيحاً ـ ويدَّعي أنه مذهبٌ للشافعي ـ أو غيره ـ، وأنه إذا عمل به فقد عمل بمذهبٍ فقهي معتبر لإمام معتمَد.

ويتبين أيضاً: أن جماعةً من كبار العلماء السابقين عملوا بظاهر هذا القول: فغلَّطهم مَن بعدهم، أو اضطرب تطبيقهم، فما على العاقل إلا الاعتبار! ودِينُ الله عز وجل أجلُّ من أن يترك أُلعوبة للعابثين، بحجة العمل بالسنة من غير متأهّل!. ومع هذا فلا ننكر أن كلمةَ الإمام هذه لها حقيقةٌ واقعيةٌ ( ) ومن هذا القبيل ما علَّق الإمام الشافعي القول به على صحة الحديث، وقد ذكر الحافظ( ) حديثَ عائشة: "مَحِلِّي حيثُ حَبَسْتَني" وقال:"هو أحدُ المواضع التي علَّق الشافعي القولَ بها على صحة الحديث، وقد جمعتُها في كتاب مفرد، مع الكلام على تلك الأحاديث". ولكلِّ ميدانٍ رجالهُ، ولا يجوزُ لإنسان أن يتعدَّى طورَه.

وأقول بعد هذا البيان: أفلا يحقُّ لنا أن نعتبرَ من واقع غيرنا ـ على علمهم وفضلهم( )ـ فنثبُتَ عند أقوال الإمام الذي يسَّر الله تعالى لنا الاقتداءَ به منذ أول نشأتنا؟!. وقد أثارتْ هذه الجملةُ حفيظةَ بعض الناس( ) ففهم أن هذا تقليد أعمى، و"أن المقلِّد يساوي عند العلماء: الجاهل" ثم لا تمرُّ صفحة واحدة إلا ويناقضُ نفسَه، لأن المقام أعوزه إلى التناقض فقال عن الذين لم تكتمل آلاتُ الاجتهاد فيهم: هم "أمثال جماهير العلماء اليوم"! وهو يعترف بأن جماهير علماء اليوم من المقلدين، فهل يصف (الجاهلَ) بأنه "من لم تكتمل آلات الاجتهاد فيه" إلا من هو أشدُّ جهلاً منه؟.

إن هذا التناقضَ لا يكونُ إلا في منطق مَن إذا ذَكَرَ أصحابَ الملايين من الليرات الذهبية قال: لكن فلاناً لا يملكُ هذا المقدار، فإذا سئل: فماذا يملك؟ أجابك: بأنه مَدينٌ عاجزٌ عن تأمين قوتِ يومه لنفسه وعياله. فإذا أنكرتَ عليه هذه الحَماقة في المقايَسة: قال لك: أليس صحيحاً أنه لا يملك الملايين مَن لا يملك قوتَ يومه!. وهكذا منطقُ هذا المأفون: يصف المقلِّد بالجاهل، وأن هذه قيمته عند العلماء، فإذا جاوز صفحةً قال: إنه من لم تكتمل فيه آلات الاجتهاد!. وحقاً: إن من قارب اكتمالها: لم تكتمل فيه، وإن مَن لا يعرف حرفَ هجاءٍ من العلوم الشرعية لم تكتمل فيه أيضاً! فأيُّ فرق بين هذين المنطقين!!.

لقد عَشِيَ بصره عن القصة التي حكاها الإمام ابن تيمية في "المسوَّدة" وتلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين"( ) عن الإمام أحمد رحمهم الله تعالى، أن رجلاً سأل الإمام: "إذا حفظ الرجلُ مئةَ ألفِ حديث، يكون فقيهاً؟ قال: لا، قال: فمئتي ألفٍ؟ قال: لا، قال: فثلاث مئة ألف؟ قال: لا، قال: فأربع مئة ألف؟ قال بيده: هكذا. وحرك يده". يعني: لعله يكون فقيهاً يفتي الناس باجتهاده. ثم ذكر الشيخان ابنُ تيمية وابنُ القيم عن ابن شاقِلا أحد أئمة الحنابلة: أنه قال: "لما جلستُ في جامع المنصور للفُتيا ذكرتُ هذه المسألة ـ حكايةَ الرجل مع الإمام أحمد ـ فقال لي رجل: فأنتَ هو ذا لا تحفظُ هذا المقدار حتى تفتيَ الناس! فقلت له: عافاك الله! إنْ كنتُ لا أحفظُ هذا المقدار فإني هو ذا أُفتي الناسَ بقول مَن كان يحفظ هذا المقدارَ وأكثرَ منه" يريد: أنه يفتي الناس بقول الإمام أحمد الذي انتقى "مسنده" من أكثرَ من 750 ألف حديثٍ! ( ).

وبعد هاتين القصتين علَّق ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: "قلت: إذا أخبر المفتي بقول إمامه فقد أخبر بعلم، وهو في الحقيقة مبلِّغٌ لقول إمامه، فلم يخرجْ عن العلم"( ). فالجاهل هو الذي يستعمل المصطلح العلمي الأصولي (عامي ) بالمعنى المتعارف عليه المتبادر على الذهن من كلمة ( جاهل ) . نسأل الله الصون والسلامة و {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } ، علما وعملا وخلقا.
ـــــــــــــــ
(1) ونحوه كلام الإمام أبي شامة في "خطبة الكتاب المؤمل للردِّ إلى الأمر الأول" ص151.
(2) في "الأجوبة المرضية" ص68.
(3) وسيأتيك كلامُ ابن الشحنة بعد أسطر، لكن تأملْ وقع قول أبي زرعة هذا: "... ومعرفةِ خلاف السلف ومأخذهم"، فإنه صريح في ضرورة الاطلاع على أدلة أقوالهم، وما ذاك إلا للاستعانة بها في المحاكمة بين أقوالهم. وهذا مقام علمي رفيع ندر المتأهِّلون له، أو فُقدوا.
(4) أول حاشيته 1: 68.
(5) 1: 258.
(6) 1: 24 من "مجموع رسائل ابن عابدين".
(7) ثم قال ص 25: "لكن ربما عدلوا عما اتفق عليه أئمتنا لضرورة ونحوها، كما مر في مسألة الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه من الطاعات".
(8) صفحة 15، أو صفحة 69 من الطبعة المحققة.
(9) ولِيُعلَم وَقْعُ هذا الكلام ومَن المراد به، أذكر سبب تأليف الشيخ لرسالته المنقول عنها، كما حدَّثني به ابنُ أخيه شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله تعالى، قال لي: جاء رجل من طرابُلُس ـ الشام ـ إلى حمص، وقال للشيخ ـ يريد عمَّه ـ: إنه ظَهَر عندنا رجل يقول: مَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإمام فهو كافر! فقيل له في ذلك؟ فقال: لأن من لم يقرأها لم تصحَّ صلاته، ومن لم تصحَّ صلاته فكأنه لم يُصلِّ، ومن لم يصلِّ فهو كافر!!. وألحَّ هذه الرجل الطرابُلُسي في الرجاء أن يكتب له الشيخ ـ عبد الغفار ـ جواباً شافياً، فكتب له هذه الرسالة في مجلس واحد خلال ساعتين، وسماها "دفع الأوهام" وأعطاها للرجل، ثم عَرَضها الشيخُ على بعض علماء حمص، فقرَّظوها له، ثم طبعها، رحمه الله. قلت: وكلام هذا (المتمجهد) يذكِّرنا بقول القائل: حُجَجٌ تَكَاسَرُ كالزُّجاج تَخالها حقاً، وكـلٌّ كـاسِـرٌ مـكـسـورُ .
(10) انظر لزاماً ص60ـ 61 وما بعدها من "أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين".
(11) كما في "ترتيب المدارك" 1: 96 للإمام القاضي عياض رحمه الله. وانظر ما سيأتي ص 82 فما بعدها.
(12) "الجامع" ص 118، وأخذه منه شيخ المالكية للمتأخرين خليل بن إسحاق الجُنْدي صاحب "المختصر" الشهير، فقاله في خاتمة كتابه "الجامع" أيضاً ـ وهو مخطوط في دار الكتب الوطنية بتونس ـ. وانظر تفسير هذا القول نحو ما تقدم للعلامة ابن حجر المكي في "فتاويه الحديثية" ص 283.
(13) 1: 51.
(14) زمن النووي رحمه الله (631 هـ ـ 676 هـ) لا أزماننا هذه!. وقد يخطر ببال مغالط: أنه قد يوجد في ذلك الزمان أناسٌ يتطاولون إلى مقام الاجتهاد، فتكون كلمة النووي هذه موجهةً إلى أولئك، لا إلى العلماء!. وأقول: إن سيادة العلم والعلماء في ذلك الزمان ـ القرن السابع ـ الذي في أوله مثلُ الفخر الرازي، ثم مثل ابن الصلاح، والمنذري، والعز ابن عبد السلام، والقُرطبيين: المفسر والمحدث، وابنَيْ المنيِّر، وأبي الحسن ابن القطان، والمقادسة: الضياء المقدسي، والموفق ابن قدامة، و... في آخره ابن دقيق العيد (625 ـ 702)... إن تلك السيادة للعلم والعلماء تمنع من ظهور مثل هذه الفتن والأُلعوبات في الدين، وأنت خبير بما حصل للإمام السيوطي رحمه الله من علماء عصره بعد نحو قرنين ونصف قرن، مع أنه غير مدفوع عما ادعاه، فكيف لو جاءهم مثل الذي جاءني، وشرحت لك قصته في المقدمة؟!! غفرانك اللهم.
(15) "المجموع" 1: 104.
(16) قال الحاكم في "المستدرك" 1: 226: "لعل متوهِّماً يتوهم أنْ لا معارضَ لحديثٍ صحيحِ الإسناد آخرُ صحيحٌ، وهذا المتوهم ينبغي أن يتأمل كتاب الصحيح لمسلم حتى يَرَى من هذا النوع ما يَمَلُّ منه". وقال الحافط ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" 1: 413: "وكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيثُ الصناعةُ الحديثية". وقوله هذا يفسِّر قولَه في "شرح النخبة" ص 41 بحاشية "لَقْط الدُّرَر": "العلماء متفقون على وجوب العمل بكل ما صحّ". فكأنه يقول: العلماء متفقون على وجوب العمل بكل ما صلح للعمل به، كما سيأتي تقريره في الجواب عن الشبهة الثانية قريباً ص80. ثم رأيت البِقاعيَّ رحمه الله قال في "النكت الوفية" ورقة 12/آ بعد كلام طويل نقله عن شيخه ابن حجر: "فقد تحرَّر أن مرادهم بالصحيح: الذي يجب العمل به" بأنْ خلا عن أيّ معارض ونحوه.
(17) في "أدب المفتي والمستفتي" ص 118.
(18) انظر "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي من كتابه "الأم" 8: 529، و"المجموع" 6: 402.
(19) وانظر "الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية" للحافظ ولي الدين أبي زرعة العراقي رحمه الله ص 65، ولا داعي للإطالة بنقل كلامه، فمحصَّله كما هنا.
(20) صفحة 113.
(21) 5: 497 (2125) طبعة مؤسسة الرسالة.
(22) في تعليقاته على ترجمة الإمام أبي يوسف للذهبي رحمهم الله تعالى، ص 63.
(23) كأن الشيخ رحمه الله يشير إلى المكاتبة التي جرت بين الإمامين البيهقي والجُويني رحمهما الله تعالى، التي عَرَضها بلطفٍ التاج السبْكيُّ في "طبقاته" 5: 76 فما بعدها، في ترجمة الجويني. واستُلَّت هذه المكاتبة فطُبعت مستقلَّة غيرَ معزوَّة إلى أصل، في آخر المجلد الأول من مجموعة الرسائل المنيرية.
(24) صفحة 109.
(25) أي: فالمجترىء على هذا المقام دون أهلية فيه: هو إنسانٌ مغرور!.
(26) انظر كلام الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي الوليد في "سِيَر أعلام النبلاء" 15: 493، و"تذكرة الحفاظ" 3: 895.
(27) قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في "التذكرة" ص 627 ـ 628 في آخر كلامه عن رجال الطبقة التاسعة المتوفَّين بين عام 258 ـ 282 قال: "يا شيخ اُرفُق بنفسك، والزم الإنصاف، ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشَّزْر، ولا تَرمقنَّهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا (673 ـ 748) حاشا وكلا، وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال: من أحمد؟ وما ابن المديني؟ وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟ فاسكت بحلم أو انطِقْ بعلم، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن ولا أنت، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل". ثم قال صفحة 948 في ترجمة الإسماعيلي صاحب "المستخرج" على صحيح البخاري: "صنف مسندَ عمر رضي الله عنه، طالعتُه وعلَّقتُ منه وابتهرت بحفظ هذا الإمام، وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين". هذا كلام الإمام الحافظ الناقد الذهبي، الذي كان في القرن الثامن الزاخر بكبار المحدثين في العصور المتأخرة، وكان في فاتحة ذلك القرن الإمام شيخ الإسلام ابن دقيق العيد (702)، وفي خاتمته البحر الهادىء الصامت الحافظ ابن رجب الحنبلي (795). رحمهم الله أجمعين، فاعتبر وتبصر. ولم نر أحداً من أولئك أو هؤلاء ادعى لنفسه العلم، فضلاً عن حيازته على العلم كله، وأنه حريص على التوسع في الاطلاع على السنة والوقوف على ألفاظها وطرقها ومعانيها، وأن علي بن المديني يقول: "التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم". ولا يرى المتمثِّلُ بهذا القول أحداً يدانيه!!.
(28) "طبقات الشافعية" للتاج السبكي 6: 138.
(29) 6: 138 ـ 139.
(30) علي: هو اسم التقي السبكي، وهو علي بن عبد الكافي السبكي. ويريد الذهبيُّ الإشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم "وأقضاهم علي" الذي رواه ابن ماجه 1: 55 (154، 155) عن أنس بإسناد جيد، وأبو يعلى 10: 141 (5763) عن ابن عمر بإسناد ضعيف جداً، وهو في "الفقيه والمتفقه" 2: 139 من حديث جابر، بإسناد ضعيف، ولم يعز الحافظ الحديثَ إليهم في "الفتح" 8: 167 (4481).
(31) ص128، 136، وكلام أبي شامة في كتابه الذي طُبع حديثاً باسم "خطبة الكتاب المؤمَّل للردّ إلى الأمر الأول" ص146 - 150. وأقول: إن الإمام أبا شامة وتقي الدين السبكي رحمهما الله تعالى كليهما كتبا هذا الكلام في الاستحسان والإشادة بكلمة الإمام الشافعي رضي الله عنه: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وكلٌّ منهما يدعو إلى تطبيق هذه المقولة بتأنّ وتريّث، لكن بينهما من الاختلاف في التطبيق بقدر ما بينهما من التفاوت في الرسوخ في الفقه. ومن ذلك: أن أبا شامة يرى أن: الشافعي خالف الحديث الصحيح في أن الإمام والمأموم والمنفرد كل منهم يقول عند الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ووجه المخالفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد"، كما رواه البخاري (796)، ومسلم 1: 306 (71) من حديث أبي هريرة. أما السبكي: فإنه استدرك على أبي شامة باختصار فقال ص 129: "قلت: لا مخالفة في ذلك"، فنقل محقق كتابه كلام النووي بطوله في ذلك، ومما فيه: أن البخاري روى (735) من حديث ابن عمر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما ـ أي يديه ـ كذلك أيضاً وقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا وَلك الحمد"، وروى مسلم 1: 536 (203) من حديث حذيفة ـ من طريق جرير ـ فقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد". وفي كتاب الإمام أبي شامة أمثلة أخرى أَخَذها هو على غيره، مما يدل على وعورة هذا المسلك، مع أن الجميع أئمة، رحمهم الله تعالى، فليعتبر المعتبرون.
(32) وأبو شامة هذا وصفه الحافظ الذهبي في "التذكرة" 4: 1460، والسيوطي في "طبقات الحفاظ" ص507، وفي أول كتابه "نظم العقيان" بـ: "الإمام الحافظ العلامة المجتهد". (33) 2: 232 ـ 233 (739).
(34) صفحة 450.
[/justify]