[justify]

تجنب الجدال والحرص على الحلال أهم مواصفاته

الحج المبرور جزاؤه الجنة



في مثل هذه الأيام من كل عام تهفو قلوب المسلمين جميعاً إلى رحلة العمر لأداء مناسك الحج والعمرة بالأراضي المقدسة . . ويتطلع كل من عقد العزم وكتب له الله هذه الرحلة الإيمانية المباركة إلى حج مبرور يغفر جميع الذنوب ويمحو كل الخطايا، ليعود الإنسان منه كيوم ولدته أمه، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه” . فكيف يتحقق ذلك للمسلم الذي يترك أهله وأولاده وأحباءه ويتحمل مشاق السفر وأعباء هذه الرحلة؟ وما الآداب والأخلاقيات التي ينبغي أن يتحلى بها وهو يعيش وسط هذه الأمواج المتلاطمة من البشر؟ هذا التساؤلان وغيرهما طرحناها على عدد من كبار علماء ودعاة الإسلام، وكانت هذه إجاباتهم:


في البداية يوضح مفتي مصر، د . علي جمعة، أهمية فريضة الحج بالنسبة للمسلم فيقول: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه”، ويقول صلوات الله وسلامه عليه “حجوا فإن الحج يغسل الذنوب كما يغسل الماء الدرن” . . وفي حديث آخر يقول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام “الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم” .


هذه التوجيهات النبوية الكريمة، تؤكد أن فريضة الحج نقطة تحول مهمة في حياة المسلم، ينبغي أن يستثمرها ليتخلص من كل الذنوب والمعاصي التي لحقت به طوال حياته .


لذلك فإن أول ما أنصح به الحاج هو الحرص على الحلال، وتجنب كل ما فيه شبهة حرام، حتى يتقبل الله منه عبادته وطاعته ويستجيب لدعائه . وأذكر الجميع من الحجاج وغيرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة” . . فإذا كان الواجب على المسلم عموماً أن يكون طعامه حلالاً، بمعنى أن يكون مصدر دخله حلالاً، ليس فيه شيء من الرشوة أو السرقة أو الاختلاس أو الاغتصاب أو التدليس أو الغش . . فإن كل نفقة الحج ينبغي أن تكون من حلال، فلا فائدة من عبادة أنفق الإنسان عليها من مال حرام أو فيه شبهة حرام .


فحرص المسلم على أن يكون طعامه من حلال يجعله مقبول الدعاء إن شاء الله . . أما إن سافر الإنسان بمال فيه شبهة أو جمعه من حرام أو ظلم الناس وأكل حقوقهم، فلا فائدة من سفره، وأولى به أن يعيد حقوق الناس أو يتخلص من هذا المال المشبوه بإنفاقه في وجوه الخير ويتوب إلى الله توبة صادقة .


وكذلك ينصح د . جمعة كل حاج ومعتمر بالاعتدال في الإنفاق وتجنب الإسراف بكل أشكاله، فالحج رحلة إيمانية ينبغي أن يلتزم المسلم فيها بكل خلق إسلامي كريم، كما أن إنفاق المسلم في كل أحواله ينبغي أن يكون في اعتدال، فلا إسراف ولا تقتير . . والقرآن الكريم يقول في هذا الشأن: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين”، فعلى المسلم الحاج أن يتمتع بطيبات الطعام والشراب من دون إسراف، فالإسراف بكل أشكاله وألوانه هو الذي أفسد حياة المسلمين . . وعلى المسلم أن يدرك أنه سافر وتحمل مشاق السفر والبعد عن الأهل والأحباب والأصحاب من أجل أداء عبادة، وليس من أجل الطعام والشراب والتسوق وغير ذلك مما ينشغل به كثير من ضيوف الرحمن .


التوبة الصادقة


كما ينصح مفتي مصر بالإخلاص في التوبة، مبشراً كل الحجاج بغفران ذنوبهم متى تابوا توبة صادقة، ويقول: الله سبحانه تعالى يقبل توبة المخلصين الجادين في التوبة من عباده، فالإنسان الذي يرتكب معصية أو مخالفة شرعية ثم يتوجه إلى خالقه بتوبة صادقة يجد كل أبواب الرحمة والغفران مفتوحة له، لأن توبته اقترنت بالإخلاص والعزيمة على عدم العودة إلى المعاصي والذنوب مرة أخرى . . أما الذين أدمنوا المعاصي ولا يكفون عنها فلا يفيدهم حج أو توبة، لأن توبتهم غير صادقة، وغير جادين مع أنفسهم ومع خالقهم الذي يعلم السرائر .


ويناشد د . جمعة كل حاج تسرب الحرام إلى ماله أن يتخلص من الحرام قبل سفره وأن يعيد الحقوق المادية إلى أصحابها قبل قيامه بهذه الرحلة، ويقول: الذين جمعوا أموالهم من حرام أو أنشطة وأعمال مشبوهة عدم حجهم أفضل، فمن علامات الإخلاص في فريضة الحج أن تكون نفقة هذه الفريضة من مال حلال طيب، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ومن حج من مال غير حلال ولبى “لبيك اللهم لبيك” قال الله سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث الصحيح “لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك” .


ومن مظاهر الإخلاص وصدق التوبة أن يطهر المسلم رجلاً كان أو امرأة نفسه ويخلص رقبته من المظالم قبل سفره لأداء هذه الفريضة، فيرد الحقوق إلى أصحابها متى استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويتوب إلى الله ويستغفره في ما عجز عن رده وأن يصل أرحامه ويبر والديه ويسترضي إخوانه وجيرانه .


نصائح لضيوف الرحمن


عالم السنة النبوية، الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر، عضو مجمع البحوث الإسلامية، الدكتور أحمد عمر هاشم، يحث ضيوف الرحمن على التحلي بمكارم الأخلاق خلال هذه الرحلة المباركة، فالحج عبادة يؤديها المسلم تلبية لدعوة ربه “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك”، وتحمل هذه العبادة بمناسكها المتعددة معاني السلام والأمان التي يجتمع من أجلها المسلمون من كل أنحاء الدنيا، ويتعارفون ويتناقشون فيما يخص أمور دينهم ودنياهم .


وإضافة إلى أن الحج يمحو الذنوب فإنه يوسع الرزق، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تابعوا الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة” .


من هنا والكلام على لسان الدكتور أحمد عمر هاشم ندرك ما للحج من أثر ديني ودنيوي، وما له من أثر في مغفرة الذنوب، وما لرسولنا صلى الله عليه وسلم من رحمة وشفقة على أمته حين دعا عشية عرفة أن يغفر الله لأمته فيجيبه رب العزة قائلاً: “إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم فإني آخذ للمظلوم منه”، قال: أي رب إن شئت أعطيت المظلوم وغفرت للظالم، فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تبسم، فقال أبو بكر وعمر بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي أضحكك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: “إن عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي وغفر لأمتي اخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكني ما رأيت من جزعه” .


ويوجه الدكتور هاشم نصائحه لضيوف الرحمن حتى يحظوا بكامل الأجر والثواب من هذه الفريضة، فيقول: يجب على كل من كتب الله له أداء هذه الفريضة أن يطهر نفسه قبل أن يخرج، وأن يتحرى المال الحلال وأن يكتب وصيته، فالآجال بيد الله، وعليه أن يتوب توبة نصوحاً، وأن يرد المظالم، ويقلع عن ذنبه، ويندم على ما فات، ويعزم على عدم العودة إليه، ويذهب وهو طاهر مقبل على ربه، عسى الله أن يجعل حجه مبروراً وسعيه مشكوراً .


فليحافظ ضيوف الرحمن على أنفسهم وعلى أداء مشاعرهم على أكمل وجه، وعلى أداء الواجبات والأركان والسنن، وأن يعودوا أكثر صداقة ولا يكون أحدهم كأولئك الذين يذهبون أصدقاء ويعودون في خصومات فيما بينهم، لا بد من الاحتمال في هذه الرحلة التي يخالف الإنسان فيها إلفه وعادته ووطنه وأولاده، فإنه إن أدى الحج على هذا النحو كان حجه مبروراً .


قال صلى الله عليه وسلم: “العمرة إلى العمر كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” .


وعن مواصفات الحج المبرور الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول د . هاشم: الحج المبرور هو الذي يتقبله الله عز وجل، ومن علامات القبول أن يرجع الحاج إلى أسرته وأهله وعشيرته خيراً مما كان ولا يعاود المعاصي . . وقال بعض العلماء: إن الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه، أو هو الذي لا تعقبه معصية . . وقال بعض العلماء: إن الحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، وهو مأخوذ من البر وهو الطاعة، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بر الحج عندما قال “الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة” فقال قولته الجامعة “بر الحج إطعام الطعام وإفشاء السلام” .


والمراد بقوله “ليس له جزاء إلا الجنة” أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير الذنوب وإنما لا بد أن يدخل الجنة، وذلك بفضل من الله ورحمته، وإذا كان الحديث يبشر صاحب الحج المبرور بالجنة، فإنه من البدهي أن الله يغفر له ذنوبه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه” .


ومن كل الأحاديث التي بشرتنا بفضل وأجر وثواب الحج والعمرة نؤكد ضرورة الالتزام بآداب وأخلاقيات فريضة الحج، فعلى المسلم الذي يترك أهله وعشيرته وينضم إلى قافلة ضيوف الرحمن أن يتأدب بأدب الإسلام في كل معاملاته وسلوكه، فلا يغضب على أحد ولا يشتم أحداً أو يسبه أو يسيء إليه، ولا يفعل أمراً من الأمور المحظورة في الحج والعمرة، وأن يكون حسن الخلق مع كل المحيطين به، وأن يتقرب إلى الله بالدعاء مخلصاً في كل الأماكن المقدسة، وأن يتجنب كل ما فيه ظلم أو إساءة للآخرين . . لو حرص كل حاج على ذلك فسيغفر الله له كل ذنوبه وآثامه وسيكون حجه مبروراً وذنبه مغفوراً إن شاء الله .


آداب الحج


وكيل الأزهر الأسبق، الداعية الأزهري، الشيخ محمود عاشور، يؤكد ضرورة التخلق بأخلاق الحج حتى يعود الحاج من رحلته كيوم ولدته أمه، ويقول: هناك آداب وأخلاقيات ينبغي أن يتحلى بها كل من يؤدي هذه الفريضة، وقد أشار الحق سبحانه وتعالى إلى بعض هذه الآداب والأخلاقيات في قوله سبحانه: “الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب” .


فقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الرفث وهو ما يمجه الذوق ويأباه الحياء، كما نهى عن الفسوق، وهو العصيان أياً كان نوعه ودرجته، فطاعة الله يجب أن تسود سلوك الإنسان في هذه الأماكن الطاهرة، وكذلك نهى الحق سبحانه وتعالى عن الجدال في أمور الدين أو أمور الدنيا فقال سبحانه: “لا جدال في الحج” ومن ترك الجدال العقيم وهو محق بنى الله له بيتاً في الجنة، أما النقاش الجاد الذي يقصد به الوصول إلى العلم والحق فلا يعد من الجدال المنهي عنه، وهو لازم لبحث المشكلات واقتراح الحلول لها كهدف من أهداف مؤتمر الحج السنوي .


هذه النماذج من الآداب ترمز كما يوضح الشيخ عاشور إلى وجوب التخلق بالأخلاق الحسنة، وبخاصة الأخلاق الاجتماعية التي تفرضها ضرورة تعايش ضيوف الرحمن بعضهم مع بعض، وحسن الخلق لازم في ظروف البعد عن الأهل والتعامل مع أقوام وأجناس مختلفة الألسنة والطباع والثقافة، مع ملاحظة التزام التقوى والإكثار من عمل البر في إخلاص لله سبحانه، مع مراعاة أن الوجود بقرب الحرم يحتم على الإنسان أن يكون جاداً في كل أموره غير هازل، فتلك فرصة ربما لا تعوض، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ما نبهت عليه الآية الكريمة من أخلاق، فقال صلوات الله وسلامه عليه: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه” .


وعن أهم ما يفعله الحاج قبل سفره يقول الشيخ عاشور: من أهم ما ينبغي أن يحرص عليه الحاج قبل سفره أن يقضي دينه أولاً ويتحلل من جميع التزاماته ويوصي أهله بالتزام حدود الدين في غيبته، كما ينبغي أن يبادر بالتوبة النصوح والعزم على بدء حياة جديدة نظيفة .


كذلك يجب عليه أن تكون نفقاته من مال حلال، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولقمة من حرام في بطن الإنسان تمنع قبول الدعاء كما جاء في الحديث الصحيح، فعلى الحاج رجلاً كان أم امرأة أن يحذر أن يعرض الله عنه لتناوله الحرام، وقد ورد أن الحاج إذا خرج بنفقة خبيثة ونادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: “لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مأجور” .


ويضيف الشيخ عاشور: ينبغي على الحاج أن يقصد وجه الله بكل ما يؤدي من مناسك، لا يريد رياء ولا سمعة، فالأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وعليه أن يحرص على النظافة عند إحرامه بالغسل والتطيب وقص الأظافر، وإزالة الشعر المسنون إزالته .


كما ينبغي على الحاج في سفره أن يكون حسن السلوك مع رفقائه، رحيماً بالضعفاء محترماً للكبار، معيناً للمحتاج، عف اللسان والنظر واليد عن أي إيذاء، كما ينبغي أن يكثر من ذكر الله في كل أحواله وشؤونه .


وفي ممارسة الحاج للشعائر ينبغي أن يتجنب المزاحمة بقدر الإمكان وألا يكون سبباً في إلحاق الضرر بغيره، ولذلك لا بد من أن يتخلص من كل شعور بالأنانية وان يرتدي ثوب الحب والرحمة، وأن يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” .


وينبغي أن يساعد الحاج كل من يحتاج إلى مساعدة خلال هذه الرحلة وأن يترك له الفرصة ليصلي في الأماكن المرغوبة، وألا يزاحم على الحجر الأسود حتى لا يفسد طوافه بإيذاء الآخرين، وأن يكتفي بالإشارة إليه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يلتزم السكينة والوقار والهدوء والنظام عند رمي الحجرات وعند الإفاضة من عرفات وفي كل أماكن الزحام، وأن يضع أمام عينيه شعار الخضوع لله وترك الزيف والبعد عن المظاهر التي لا قيمة لها أمام عظمة الله وسلطانه، فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم ثم قال: “اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة” .


وعلى الحاج أيضاً أن يكثر من التصدق في وجوه البر، فالنفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف كما جاء في الحديث، وعليه ألا يتبرم مما يصادفه من مشقة، أو من عدم تمكنه من أخذ قسطه من الراحة، كما كان يفعل في أيامه العادية، فالمكان له ظروفه، والأجر على قدر المشقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة، رضي الله عنها .


كما ينبغي على الحاج أن يكثر من الصلاة في الحرمين، فثواب الصلاة فيهما مضاعف، وأن يتقرب إلى الله بكل ما يستطيع من عبادات وطاعة وحسن معاملة للآخرين، وصدقة مخلصة وبخاصة في العشر الأوائل من ذي الحجة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام” .[/justify]